{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له . وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه ، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع{[212]} للمطاع .
وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ، وفيما يأمرون به وينهون عنه ؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا ، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ ، لما أمر بذلك مطلقا .
وقوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره . ففيه إثبات القضاء والقدر ، والحث على الاستعانة بالله ، وبيان أنه لا يمكن الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول .
ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده ، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } أي : معترفين بذنوبهم باخعين بها .
{ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي : لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم ، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها ، وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته ؛ لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته ، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ أِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظّلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوّاباً رّحِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : لم نرسل يا محمد رسولاً إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه ، يقول تعالى ذكره : فأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلته إليه . وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين الذين كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت ، صدودا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول لهم تعالى ذكره : ما أرسلت رسولاً إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه ، فمحمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الرسل ، فمن ترك طاعته والرضا بحكمه واحتكم إلى الطاغوت ، فقد خالف أمري وضيع فرضي . ثم أخبر جلّ ثناؤه أن من أطاع رسله ، فإنما يطيعهم بإذنه ، يعني بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قول الله : { إلاّ لِيُطاعَ بإذْنِ اللّهِ } واجب لهم أن يطيعه من شاء الله ، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وإنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين بأن تركهم طاعة الله وطاعة رسوله والرضا بحكمه ، إنما هو للسابق لهم من خذلانه وغلبة الشقاء عليهم ، ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضا بحكمه والمسارعة إلى طاعته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أنّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّابا رَحِيما } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الاَيتين ، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدّوا صدودا ، إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله ، إذا دعوا إليها جاءوك يا محمد حين فعلوا ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك ، جاءوك تائبين منيبين ، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم ، وسأل لهم الله رسوله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك . وذلك هو معنى قوله : { فاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ } .
وأما قوله : { لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّابا رَحِيما } فإنه يقول : لو كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنوبهم لوجدوا الله توّابا ، يقول : راجعا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون ، رحيما بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه . وقال مجاهد : عني بذلك : اليهودي والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } . . . إلى قوله : { وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما } قال : إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } .
جملة معترضة في خلال الخبر عن قضية المنافق الذي تحاكم إلى الطاغوت . وهو رجوع إلى الغرض الأوّل ، وهو الإنحاء عليهم في إعراضهم عن التحاكم إلى الرسول ، وأنّ إعراضهم ذلك مؤذن بنفاقهم : ببيان أنّ معنى الإيمان الرضا بحكم الرسول إذ ما جاء الرسول إلاّ ليُطاع فكيف يُعرض عنه .
وقوله : { بإذن الله } في موضع الحال من الضمير في ( يطاع ) أي متلبّساً في ذلك بإذن الله أي بأمره ووصايته ، إذ لا تظهر فائدة الشرائع بدون امتثالها . فمن الرسل من أطيع ، ومنهم من عصي تارةٌ أو دائماً ، وقد عصي موسى في مواقع ، وعصى عيسى في معظم أمره ، ولم يعصَ محمد من المؤمنين به المحقيّن إلاّ بتأوّل ، مثل ما وقع في يوم أحُد إذ قال الله تعالى : { وعصيتم } [ آل عمران : 152 ] ، وإنّما هو عصيان بتأوّل ، ولكنّه اعتبر عصياناً لكونه في الواقع مخالفة لأمر الرسول ، ولذلك كان أكملُ مظاهر الرسالة تأييدَ الرسول بالسلطان ، وكون السلطان في شخصه لكيلا يكون في حاجة إلى غيره ، وإنّما تمّ هذا المظهر في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك وصف بأنّه نبيء الملاحم ، وقد ابتدأت بوارق ذلك في رسالة موسى عليه السلام ، ولم تستكمل ، وكملت لمحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسلَه بالغيب } [ الحديد : 25 ] ولا أحسبه أراد برسله إلاّ رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام وكان هو المراد من الجمع لأنّه الأكمل فيهم .
عطف على جملة { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدّمت أيديهم } [ النساء : 62 ] توبيخاً لهم على تحاكمهم إذ كان ذلك عصياناً على عصيان ، فإنّهم ما كفاهم أن أعرضوا عن تحكيم الرسول حتّى زادوا فصدّوا عمّن قال لهم : تعالَوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول . فلو أَستفاقوا حينئذٍ من غُلوائهم لعلموا أنّ إرادتهم أن يتحاكموا إلى الكفار والكهنة جريمة يجب الاستغفار منها ولكنّهم أصرّوا واستكبروا . وفي ذكر ( لو ) وجعل { لوَجدوا الله تواباً رحيماً } جواباً لها إشارة إلى أنّهم لمّا لم يفعلوا فقد حُرموا الغفران .
وكان فعل هذا المنافق ظلماً لنفسه . لأنّه أقحمها في معصية الله ومعصية الرسول ، فجرّ لها عقاب الآخرة وعرضها لمصائب الانتقام في العاجلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.