لما أمر - [ تعالى ]{[8573]} - بطاعَةِ الرَّسُول في الآيةِ الأولَى ، رغَّب في هذه الآيةِ مَرَّة أخْرَى .
قال الزَّجَّاج : كلمة " مِنْ " هَهُنَا صِلَة زَائِدَة ، والتَّقْدِير : وَمَا أرْسلْنَا رَسُولاً .
قوله : " ليطاع " هذه لاَمُ كي ، والفِعْلُ بَعْدَها مَنْصُوب بإضْمَار " أن " ، وهذا{[8574]} استِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ من المَفْعُول لَهُ ، والتَّقْدِير : ومَا أرسَلْنَا من رسُولٍ لشَيْءٍ من الأشْيَاءِ إلاَّ للطَّاعَةِ .
و " بإذن الله " . فيه ثلاثَةَ أوْجُه :
أحدها : أنه يَتَعَلَّق ب { لِيُطَاعَ } والبَاءُ للسَّبَبِيَّة ، وإليه ذَهَب أبُو البَقَاءِ{[8575]} ؛ قال : وقيل : مَفْعُولٌ به ، أي : بِسَبَبِ أمْر اللَّه .
الثاني : أن يَتَعَلَّق ب " أرسلنا " أي : وما أرسلنا بأمْرِ اللَّه ، أي : بِشَرِيعَته .
الثالث : أن يتعلَّق بِمحْذُوفٍ على أنه حالٌ من الضَّمِير في " يطاع " وبه بَدأ أبُو البَقَاء{[8576]} .
وقال ابن عَطِيَّة{[8577]} : وعلى التَّعْلِيقَيْنِ ؛ أي : تعليقُهُ ب " يطاع " أو ب " أرسلنا " ، فالكلام عَامٌّ واللَّفْظُ خاصٌّ ، المعنى لأنَّا نَقْطَع أن اللَّه قد أرَادَ من بَعْضِهِم ألاَّ يُطيعُوه ، ولذلِك تأوَّل{[8578]} بَعْضُهم الإذْن بالعِلْمِ ، وبعضهم بالإرْشَادِ .
قال أبو حَيَّان{[8579]} : ولا يَحْتَاجُ لذلك ؛ لأن قَوْلَه عامُّ اللَّفْظِ مَمْنُوع ؛ وذلك أن " يطاع " مبني للمَفْعُول فيقدر ذَلِك الفَاعِل المَحْذُوف خَاصاً ، وتقديره : إلاَّ ليُطيعَه من أراد [ الله ]{[8580]} طاعَتَهُ .
قال الجُبَّائِيّ : معنى الآية : وما أرْسَلْنَا من رسُول إلاّ وأنا مُريدٌ ، أن يُطَاعَ ويُصَدَّق ، ولم أرسِلْهُ لِيُعْصَى ، [ و ]{[8581]} وهذا يَدُلُّ على بُطْلان مَذْهَب المجَبَّرة ؛ لأنَّهُم يَقُولون : إنه{[8582]} - تعالى - أرْسَل رُسُلاً لتُعْصَى ، والعَاصي من المَعْلُومِ أنَّهُ يَبْقَى على الكُفْرِ ، وقد نَصَّ الله - تعالى - على كَذبِهِم{[8583]} في هَذِه الآيَة ، وكان يَجِبُ على قَوْلِهِم أن يكُون قَدْ أرْسَل الرُّسُل لِيُطاعُوا وليُعْصُوا جَميعاً ، فدلَّ ذلك على أنَّ مَعْصِيتَهُم للرُّسُل غير مُرَادةٍ لله - تعالى - ، وأنَّه ما أرَادَ إلا أنْ يُطاعَ .
الأول : أن قوله : " إلا ليطاع " يكفي في تحقيق مَفْهُومه أن يُطيعَهُ مُطِيعٌ واحِدٌ ، لا أن يُطيعَه{[8584]} جميع النَّاسِ في جَمِيع الأوْقَاتِ ، وعلى هذا فَنَحْنُ نَقُولُ بموجبه ؛ وهو [ أن ]{[8585]} كُلَّ ما أرْسَلَهُ الله - تعالى ، فقد أطَاعَهُ بَعْضُ النَّاسِ في بَعْضِ الأوْقَاتِ ، اللَّهُم إلا أن يُقَالَ : تَخْصِيص الشَّيْء بالذِّكْر يَدُلُّ على نَفْيِ الحُكْمِ عمَّا عداه ، والجُبَّائِيّ لا يَقُول بِذَلِك ، فَسَقَطَ هذا الإشْكَال .
الثاني : يجُوز أن يكُون المُرادُ به : أن كُلَّ كافِرٍ لا بُدَّ وأن يُقرّ [ به ]{[8586]} عند مَوْتهِ ؛ لقوله - تعالى - : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ }
[ النساء : 159 ] أو يحمل ذَلِكَ على إيمانِ الكُلِّ بهم يَوْم القِيَامَة ، ومن المَعْلُوم أن الوَصْفَ في جَانِب الثُّبوتِ ، يكْفي في حُصُول مُسَمَّاه في بَعْضِ الصُّوَر وفي بعض الأحْوَالِ .
الثالث : أن العِلْمَ بعدم الطَّاعَةِ مع وُجُودِ الطَّاعَةِ مُتَضَادَّان ، [ والضِّدَّان ]{[8587]} لا يَجْتَمِعَانِ ، وذلك العلْم مُمْتَنِع العَدَم ، فكانت مُمْتَنِعَة الوُجُود ، واللَّه عالم بِجَمِيع المَعْلُومَات ، فكان عَالِماً بكون الطَّاعَة مُمْتَنِعة الوُجُود ، والعَالِم بكون الشَّيءِ ممتنع الوُجُود لا يكُونُ مُرِيداً له ؛ فثبت بهذا البُرْهَانِ القَاطِع أن يَسْتَحيلَ أن يُريدَ اللَّهُ من الكَافِرِ كَوْنَه مُطِيعاً ، فوجَبَ تأويلُ هذه اللَّفْظَة ؛ بأن يكون المُرَاد من الكَلاَمِ لَيْس الإرَادَةَ بل الأمْر ، والتَّقْدِير : وما أرسَلْنَا من رسول إلا ليُؤمَر النَّاسَ بِطَاعَتِهِ .
استَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّه لا يُوجَد شَيْءٌ من الخَيْرِ والشَّرِّ ؛ والكُفْرِ والإيمانِ ، والطَّاعَةِ والعِصْيَان ، إلا بإرَادَة الله ؛ لقوله : { إلا ليطاع بإذن الله } ولا{[8588]} يمكنُ أن يكُون المُرَادُ من هَذَا الإذْنِ : الأمْر والتَّكْليف ؛ لأنَّه لا مَعْنَى لكونه رَسُولاً إلا أنَّ الله - تعالى - أمر بِطَاعته ، فلو كان [ المُرَادُ ]{[8589]} من الإذْنِ هذا لصَارَ التَّقْدِير : وما أذِنَّا في طَاعَةِ من أرْسَلْنَاهُ إلا بإذْنِنَا ، وهو تَكْرَارٌ قَبِيحٌ ؛ فوجب حمل الإذْنِ على التَّوْفِيقِ والإعَانَةِ ، فيصير التَّقْدِير : وما أرْسَلْنَا من رسُولٍ إلا ليُطَاع بتَوْفِيقِنَا وإعانَتِنَا{[8590]} ، وهذا تَصْرِيحٌ بأنه - تعالى - ما أرَادَ من الكُلِّ طاعة الرَّسُول ، بل لا يُريدُ ذلك [ إلا منَ الَّذِي وفَّقَهُ اللَّه لذلك وهم المؤمِنُون ، فما من لم يُوَفِّقْهُ ، فللَّهِ - تعالى - ما أرَادَ ذَلِكَ منهم ]{[8591]} .
دلَّت هذه الآيةُ على أن الأنْبِيَاء - [ عليهم الصلاة والسلام ]{[8592]} - مَعْصُومُون عن الذنُوبِ ؛ لأنَّها دَلَّت على وُجُوبِ طاعَتِهِم مطلقاً ، فلو أتَوْا بِمَعْصِيةٍ ، لوجَبَ الاقْتدَاء بهم في تِلْكَ المعصِيَة ، فتَصِيرُ وَاجِبةً علينا ، وكَوْنُها معْصِيَةً يجب كوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْنَا ، فيلزم تَوَارُد الإيجَابِ والتَّحْرِيم على الشَّيْءِ الوَاحِدِ ، وهو مُحَال .
فإن قيل : ألَسْتُم في الاعْتِرَاض على الجُبَّائِيّ ذكَرْتُم أن قوله : " إلا ليطاع " لا يفيد العُمُوم ، فَكَيْفَ تَمَسَّكتُم به في هَذِه المَسْألة ، مع أن [ هَذَا ]{[8593]} الاسْتِدْلاَل لا يَتِمُّ إلا مَعَ القَوْلِ بأنَّهَا تفيد العُمُوم .
فالجواب : ظاهر [ هذا ]{[8594]} اللَّفْظِ يُوهِمُ العُمُوم ، وإنما تَرَكْنَاهُ في تلك المَسْألَةِ ؛ للدَّلِيلِ القَاطِعِ الَّذِي ذكَرْنَاه ، على{[8595]} أنه يَسْتَحِيلُ منه - تعالى - أن يُريدَ الإيمَان من الكَافِرِ ، فلأجْل ذلك المُعَارِض القَاطِعِ صَرَفْنَا الظَّاهِر عن{[8596]} العُمُوم ، ولَيْس هَهُنَا بُرْهَان قاطِعٌ عَقْلِيٌّ يوجب القَدْحَ في عِصْمَة الأنبياء - عليهم السلام - ، فظهر الفَرْق .
قوله : " ولو أنهم " قد تقدم الكلام على " أنَّ " الوَاقِعَة بعد " لَوْ " ، و " إذْ " ظَرْفٌ معمول لخبرِ " أنَّ " وهُو " جاءك " ، وقال : { واستغفر لهم الرسول } ، ولم يقل : واسْتَغْفَرْت ، خُرُوجاً من الخِطَابِ إلى الغَيْبَة ، لما فِي هذا الاسْمِ الظَّاهِر من التَّشْرِيف بوَصْفِ الرِّسَالة ، إجْلالاً للرَّسُول - عليه السلام - و " وَجَدَ " هنا يُحْتَمِل أن تكُون العِلْمِيَّة ، فتَتَعَدَّى لاثْنَيْن{[8597]} والثاني : " تواباً " ، وأن تكون غير العِلْميَّة ، فتتعدى لِوَاحِدٍ ، ويكون " تواباً " حَالاً ، وأما " رحيماً " فَيُحْتَمَلُ أن يكون حالاً من ضمير " توّاباً " [ وأن يكُون بَدلاً من تواباً ]{[8598]} ويحتمل أن يَكُون خَبَراً ثَانياً في الأصْلِ ، بنَاءً على تعَدُّد الخَبَر وهو الصَّحيح ، فلما دَخَل النَّاسِخ ، نَصَب الخَبَر المُتَعَدِّد ، تقول : زَيْد فَاضِلٌ شاعِرٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ ، ثم تقول : علمت زَيْداً فَاضِلاً شَاعِراً فَقِيهاً عَالِمَاً ، إلا أنَّهُ لا يَحْسُن أن يُقَال هُنا : شاعراً : مفعول ثالِث ، وفَقِيهاً [ مفعول ]{[8599]} رابع ، وعَالِماً : خامس .
الأول : أن مَنْ تقَدَّم ذِكْرُه مع المُنَافِقِين ، عندما ظَلَمُوا أنْفُسَهُم بالتَّحَاكُمِ إلى الطَّاغُوت ، والفِرَار من التَّحَاكُمِ إلى رسُولِ الله - [ صلى الله عليه وسلم ]{[8600]} ، [ لو جَاءُوا ]{[8601]} للرَّسُول ، وأظْهَرُوا النَّدَم على ما فَعَلُوهُ ، وتَابُوا عَنْهُ واسْتَغْفَرُوا عنه ، واسْتَغْفَر لهم الرَّسُول بأن يَسْألَ اللَّه أن يَغْفر لَهُم ، وجَدُوا اللَّه تَوَّاباً رَحِيماً .
الثاني : قال الأصم{[8602]} : " إن قَوْماً من المُنَافِقِين اتَّفَقُوا على كَيْد الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ، ثمَّ دَخَلُوا عليه لأجْل [ ذلك الغَرَضِ ، فأتَاهُ جِبْرِيل - عليه السلام - فأخبرهُ بِه ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن قوماً ]{[8603]} دَخَلُوا يُريدُون أمْراً لا ينَالُونَه ، فليقُومُوا وليَسْتَغْفِرُوا اللَّه حَتَّى أسْتَغْفِر لهم ، فلَمْ يَقُومُوا ، فقال : ألا تَقُومُون ؛ فلم يَفْعَلُوا ، فقال صلى الله عليه وسلم : قُمْ يا فُلانُ ، قُمْ يا فُلاَنُ ، حَتَّى عدَّ اثْنَيْ عَشَر رَجُلاً منهم ، فقاموا وقَالُوا : كُنَّا عَزَمْنَا على ما قُلْتَ ، ونَحْنُ نَتُوب إلى اللَّهِ من ظُلْمِنَا أنْفُسِنَا ، فاسْتَغْفِرْ لَنَا .
فقال : الآن اخْرُجُوا ، أنا كُنْتُ في بَدْءِ الأمْرِ أقْرَبُ إلى الاسْتِغْفَارِ ، وكان اللَّهُ أقْرَبُ إلى الإجَابَةِ ، اخْرُجُوا عَنِّي " .
فإن قيل : ألَيْسَ لِوَ اسْتَغْفَرُوا اللَّه وتَابُوا على وَجْهٍ [ صَحِيحٍ ]{[8604]} ، لكَانَت تَوْبَتُهم مَقْبُولة ، فما فَائِدَة ضَمِّ اسْتِغْفَار الرَّسُولِ إلى اسْتِغْفَارِهِم ؟
فالجواب من{[8605]} وُجُوهٍ :
أحدُهَا : أن ذلك التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كان مُخَالَفَةً لحُكْمِ اللَّه - تعالى - ، وكانَ إسَاءَةً للرَّسُول - عليه السلام - وإدْخَالاً للغَمِّ في قَلْبِهِ ، ومن كَانَ ذَنْبُهُ كَذَلِك ، وجَبَ عليه الاعْتِذَارُ عن ذَلِك لِغَيْرِه ؛ فلهذا المَعْنَى وَجَب عليهم إظهار طَلَب الاسْتِغْفَارِ [ من الرَّسُولِ ]{[8606]} .
ثانيها : أنَّهُم لمَّا لم يَرْضوا بحُكْم الرَّسُول - عليه السلام - ، ظهر مِنْهُم التمَرُّد ، فإذا نَابُوا ، وَجَبَ عليهم أن يَفْعَلُوا ما يُزيلُ عنهم ذلك التَّمَرُّد ؛ بأن يَذْهَبُوا إلى الرَّسُول ويَطْلُبُوا مِنْهُ الاسْتِغْفار .
وثالثها : أنهم{[8607]} إذا أتَوا بالتَّوْبَةِ أتوا بها على وجْهِ خَلَلٍ ، فإذا انْضَمَّ إليها اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ ، صارَتْ مُحَقَّقَة القَبُولِ ، وهذه الآيَةُ تَدُلُّ على أن اللَّه - تعالى - يَقْبَلُ التَّوْبَة ؛ لقوله : { لوجدوا الله تواباً رحيماً } .