تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ} (59)

{ 59 - 64 } { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ }{[313]}

إلى آخر القصة  لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة ، أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده مع أممهم المنكرين لذلك ، وكيف أيد اللّه أهل التوحيد ، وأهلك من عاندهم ولم يَنْقَدْ لهم ، وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ومعتقد واحد ، فقال عن نوح - أول المرسلين - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده ، حين كانوا يعبدون الأوثان { فَقَالَ } لهم : { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } أي : وحده { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } لأنه الخالق الرازق المدبِّر لجميع الأمور ، وما سواه مخلوق مدبَّر ، ليس له من الأمر شيء ، ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب اللّه ، فقال : { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام وشفقته عليهم ، حيث خاف عليهم العذاب الأبدي ، والشقاء السرمدي ، كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم ، فلما قال لهم هذه المقالة ، ردوا عليه أقبح رد .


[313]:- في ب: ذكر الآيات كاملة.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ} (59)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

أقسم ربنا جلّ ثناؤه للمخاطبين بهذه الاَية أنه أرسل نوحا إلى قومه منذرهم بأسه ، ومخوّفهم سخطه على عبادتهم غيره ، فقال لمن كفر منهم : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ الذي له العبادة ، وذلوا له بالطاعة واخضعوا له بالاستكانة ، ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والاَلهة ، فإنه ليس لكم معبود يستوجب عليكم العبادة غيره ، فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك عَذَابَ يَوْمٍ عظِيم يعني : عذاب يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط ربكم .

وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : غَيْرُهُ فقرأ ذلك بعض أهل المدينة والكوفة : «ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غيرِهِ » يخفض «غير » على النعت للإله . وقرأ جماعة من أهل المدينة والبصرة والكوفة : مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غٍيْرُهُ برفع «غيرُ » ، ردّ الهاء على موضع «من » لأن موضعها رفع لو نزعت من الكلام لكان الكلام رفعا ، وقيل : ما لكم إله غير الله ، فالعرب لما وصفت من أن المعلوم بالكلام أدخلت «من » فيه أو أخرجت ، وإنها تدخلها أحيانا في مثل هذا من الكلام وتخرجها منه أحيانا تردّ ما نعتت به الاسم الذي عملت فيه على لفظه ، فإذا خفضت فعلى كلام واحد ، لأنها نعت للإله وأما إذا رفعت ، فعلى كلامين : ما لكم غيره من إله ، وهذا قول يستضعفه أهل العربية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ} (59)

استئناف انتقل به الغرض من إقامة الحجّة والمنّةِ ( المبتدئة بقوله تعالى : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] ، وتنبيه أهل الضّلالة أنّهم غارقون في كيد الشّيطان ، الذي هو عدوّ نوعهم ، من قوله : { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صِراطك المستقيم إلى قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 16 33 ] ، ثمّ بالتّهديد بوصف عذاب الآخرة وأحوال النّاس فيه ، وما تخلّل ذلك من الأمثال والتّعريض ) ؛ إلى غرض الاعتبار والموعظة بما حلّ بالأمم الماضية . فهذا الاستئناف له مزيد اتّصال بقوله في أوائل السّورة [ 4 ] : { وكم من قرية أهلكناها } الآية ، وقد أفيض القول فيه في معظم السّورة وتَتْبَعُ هذا الاعتبار أغراضٌ أخرى : وهي تسلية الرّسول ، وتعليم أمّته بتاريخ الأمم التي قبلها من الأمم المرسل إليهم ، ليعلم المكذّبون من العرب أنّ لا غضاضة على محمّد ولا على رسالته من تكذيبهم ، ولا يجعله ذلك دون غيره من الرّسل ، بله أن يؤيّد زعمهم أنّه لو كان صادقاً في رسالته لأيَّده الله بعقاب مكذّيبه ( لما قالوا على سبيل التّهكّم أو الحجاج : { اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم } ) . وليعلَمَ أهل الكتاب وغيرهم أنّ ما لقيه محمّد من قومه هو شنشنة أهل الشّقاوة تلقاء دعوة رسل الله . وأكّد هذا الخبر بلام القسم وحرف التّحقيق لأنّ الغرض من هذه الأخبار تنظير أحوال الأمم المكذّبة رسلَها بحال مشركي العرب في تكذيبهم رسالة محمّد .

وكثُر في الكلام اقترانُ جملة جواب القسم : { بقَدْ } لأنّ القسم يُهيىء نفس السّامع لتوقع خبر مهم فيؤتى بقَد لأنّها تدلّ على تحقيق أمر متوقّع ، كما أثبته الخليل والزّمخشري ، والتّوقّع قد يكون توقعاً للمخبَر به ، وقد يكون توقعاً للخبر كما هنا .

وتقدّم التّعريف بنوح عند قوله تعالى { إنّ الله اصطفى آدم ونوحا } في سورة [ آل عمران : 33 ] . وكان قوم نوح يسكنون الجزيرة والعراق ، حسب ظن المؤرّخين . وعبر عنهم القرآن بطريق القومية المضافة إلى نوح إذ لم يكن لهم اسْم خاص من أسماء الأمم يعرفون به ، فالتّعريف بالإضافة هنا لأنّها أخصر طريق .

وعطف جملة { فقال يا قوم } على جملة { أرسلنا } بالفاء إشعاراً بأنّ ذلك القول صدر منه بفور إرساله ، فهي مضمون ما أرسل به .

وخاطب نوح قومه كلّهم لأنّ الدّعوة لا تكون إلاّ عامة لهم ، وعبّر في ندائهم بوصف القوم لتذكيرهم بآصرة القرابة ، ليتحقّقوا أنّه ناصح ومريد خيرهم ومشفق عليهم ، وأضاف ( القوم ) إلى ضميره للتحبيب والتّرقيق لاستجلاب اهتدائهم .

وقوله لهم : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } إبطال للحالة التي كانوا عليها ، وهي تحتمل أن تكون حالة شرك كحالة العرب ، وتحتمل أن تكون حالة وثنيّة باقتصارهم على عبادة لأصنام دون الله تعالى ، كحالة الصّابئه وقدماء اليونان ، وآيات القرآن صالحة للحالين ، والمنقول في القصص : أنّ قوم نوح كانوا مشركين ، وهو الذي يقتضيه ما في « صحيح البخاري » عن ابن عبّاس أنّ آلهة قوم نوح أسماء جماعة من صالحيهم فلمّا ماتُوا قال قومهم : لو اتَّخذنا في مجالسهم أنصاباً فاتّخَذوها وسمَّوْها بأسمائهم حتّى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت .

وظاهر ما في سورة نوح أنّهم كانوا لا يعبدون الله لقوله : { أن اعبدوا الله واتَّقُوه } [ نوح : 3 ] وظاهر ما في سورة فُصِّلت أنّهم يعترفون بالله لقولهم : { لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة } [ فصلت : 14 ] مع احتمال أنّه خرج مخرج التّسليم الجدلي فإن كانوا مشركين كان أمرُه إياهم بعبادة الله مقيَّداً بمدلول قوله : { ما لكم من إله غيره } أي أفردوه بالعبادة ولا تشركوا معه الأصنام ، وإن كانوا مقتصرين على عبادة الأوثان كان قوله : { ما لكم من إله غيره } تعليلاً للاقبال على عبادة الله ، أي هو الإله لا أوثانُكم .

وجملة : { ما لكم من إله غيره } على الوجه الأوّل بيان للعبادة التي أمَرَهم بها ، أي أفردوه بالعبادة دون غيره ، إذ ليس غيره لكم بالإله .

وعلى الوجه الثّاني يكون استئنافاً بيانياً للأمر بالإقلاع عن عبادة غيره .

وقرأ الجمهور { غيرهُ } بالرّفع على الصّفة ( لإله ) باعتبار محلّه لأنّه في محلّ رفع إذ هو مبتدأ وإنّما جرّ لدخول حرف الجرّ الزائد ولا يُعتد بجرّه ، وقرأه الكسائي ، وأبو جعفر : بجرّ { غير } على النّعت للّفظ ( إلاه ) نظراً لحرف الجر الزّائد .

وجملة : { إني أخاف عليكم عذاب يوم } يجوز أن تكون في موقع التّعليل ، كما في « الكشاف » : أي لمضمون قوله : { ما لكم من إله غيره } كأنّه قيل : اتركوا عبادة غير الله خوفاً من عذاب يوم عظيم ، وبُني نظم الكلام على خوففِ المتكلّم عليهم ، دلالة على إمحاضه النّصح لهم وحرصه على سلامتهم ، حتّى جعل ما يُضر بهم كأنّه يُضِرّ به ، فهو يخافه كما يخافون على أنفسهم ، وذلك لأنّ قوله هذا كان في مبدأ خطابهم بما أرسل به ، ويحتمل أنّه قاله بعد أن ظَهر منهم التّكذيب : أي إن كنتم لا تخافون عذاباً فإنّي أخافه عليكم ، وهذا من رحمة الرّسل بقومهم .

وفعل الخوف يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المخوف منه ، ويتعدّى إلى مفعول ثان بحرف ( على ) إذا كان الخوف من ضر يلحقُ غيرَ الخائف ، كما قال الأحوص :

فإذا تزول تزول على مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بوادِرُهُ على الأقران

ويجوز أن تكون مستأنفة ثانية بعد جملة { اعبدوا الله } لقصد الإرهاب والإنذار ، ونكتة بناءِ نظم الكلام على خوف المتكلّم عليهم هي هي .

والعذاب المخوف ويومه يحتمل أنّهما في الآخرة أو في الدّنيا ، والأظهر الأوّل لأنّ جوابهم بأنّه في ضلال مبين يشعر بأنّهم أحالوا الوحدانية وأحالوا البعث كما يدلّ عليه قوله في سورة [ نوح : 17 ، 18 ] : { والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } فحالهم كحال مشركي العرب لأنّ عبادة الأصنام تمحّض أهلها للاقتصار على أغراض الدّنيا .