تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (72)

{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذه السكرة هي سكرة محبة الفاحشة التي لا يبالون معها بعذل ولا لوم .

فلما بينت له الرسل حالهم ، زال عن لوط ما كان يجده من الضيق والكرب ، فامتثل أمر ربه وسرى بأهله ليلا فنجوا ، وأما أهل القرية

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (72)

وقوله : لَعَمْرُكَ يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وحياتك يا محمد ، إن قومك من قريش لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يقول : لفي ضلالتهم وجهلهم يتردّدون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا سعيد بن زيد ، قال : حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوّزاء ، عن ابن عباس ، قال : ما خلق الله وما ذرأ وما نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى ذكره : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضْرمي ، قال : حدثنا الحسين بن أبي جعفر ، قال : حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، في قول الله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وهي كلمة من كلام العرب لفي سكرتهم : أي في ضلالتهم ، يعمهون : أي يلعبون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سألت الأعمش ، عن قوله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : لفي غفلتهم يتردّدون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فِي سَكْرَتِهِمْ قال : في ضلالتهم . يَعْمَهُونَ قال : يلعبون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال مجاهد : يَعْمَهُونَ قال : يتردّدون .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : لَعَمْرُكَ يقول : لعيْشُك . إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : يتمادَوْنَ .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يكرهون أن يقول الرجل : لعمري ، يرونه كقوله : وَحَيَاتِي .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (72)

قال القاضي أبو محمد : والقسم ب { لعمرك } في القرآن ، وب «لعمري » ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها في غير موضع .

كقوله : [ الطويل ]

لعمري وما عمري عليَّ بهين{[7203]} . . . وقوله الآخر : [ الوافر ]

لعمر أبيك ما نسب المعالي . . . وكقول الآخر : [ طرفة بن العبد ] [ الطويل ]

لعمرك إن الموت ما أخطأَ الفتى . . . لكالطِّوَلِ المرخى وثنياه باليد{[7204]}

والعرب تقول لعمر الله ، ومنه قول الشاعر :

إذا رضيت عليَّ بنو قشير . . . لعمر الله أعجبني رضاها{[7205]}

وقال الأعشى : [ الكامل ]

ولعمر من جعل الشهور علامة . . . فيها فبين نصفها وكمالها{[7206]}

ويروى وهلالها ، وقال بعض أصحاب المعاني ، لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله تعالى عمر ، وإنما يقال بقاء أزلي ذكره الزهراوي ، وكره إبراهيم النخعي أن يقول الرجل لعمري لأنه حلف بحياة نفسه ، وذلك من كلام ضعفة الرجال ، ونحو هذا ، قول مالك في «لعمري » و «لعمرك » أنها ليست بيمين ، وقال ابن حبيب ينبغي أن تصرف { لعمرك } في الكلام اقتداء بهذه الآية ، و { يعمهون } يرتبكون ويتحيرون ، والضمائر في { سكرتهم } يراد بها قوم لوط المذكورون ، وذكر الطبري أن المراد قريش ، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده ، وقوله { لفي سكرتهم } مجاز وتشبيه ، أي في ضلالتهم وغفلتهم وإعراضهم عن الحق ولهوهم ، و { يعمهون } معناه يتردون في حيرتهم ، و { مشرقين } معناه قد دخلوا في الإشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد .


[7203]:هذا صدر بيت للنابغة، وهو من قصيدة يمدح بها النعمان بن المنذر ويعتذر إليه مما وشت به بنو قريع بن تميم، وهو بتمامه: لعمري وما عمري علي بهين لقد نطقت بطلا علي الأقارع واللام في "لعمري" لام ابتداء يقصد بها توكيد الجملة ، و "لعمري" مبتدأ وخبره محذوف تقديره: يميني، و "ما عمري" رويت بضم العين وبفتحها ، وبطلا ـ بضم الباء وسكون الطاء ـ مصدر بطل إذا كان غير حق، والأقارع: بنو قريع بن عوف.
[7204]:الشاعر هو طرفة بن العبد، والبيت من معلقته التي امتازت بالحكمة وبالنظر الصائب في أمور الحياة، وقوله: "ما أخطأ الفتى" يحتاج إلى شيء من البيان، إذ أن (ما) مع الفعل هنا بمنزلة مصدر حل محل الزمان، نحو قولهم: "آتيك خفوق النجم ومقدم الحاج" أي: وقت خفوق النجم، ووقت مقدم الحاج، والطول: الحبل الذي يطول للدابة ويعطيها فرصة الرعي على مسافة كبيرة، والإرخاء: الإرساء، والثني: الطرف والجمع الأثناء، يقسم طرفة أن الموت في مدة تركه للفتى، أو مجاوزته إياه بمنزلة حبل طويل ترك على طوله لترعى الدابة فيه وطرفاه بيد صاحبها، فكما أن الدابة لا يمكن أن تفلت ما دام صاحبها آخذا بطرفي الحبل فكذلك الموت لا يمكن للفتى أن يتخلص منه، ولما جعل الموت بمنزلة صاحب الدابة التي أرخى طولها قال: متى شاء الموت قاد الفتى لهلاكه، ومن كان في حبل الموت انقاد له.
[7205]:البيت للقحيف العقيلي، وبعده يقول: ولا تنبو سيوف بني قشير ولا تمضي الأسنة في صفاها يقال: رضيت عنك وعليك، وقد عداها الشاعر في بيتنا ب "على" لأنه إذا رضيت عنه أحبته وأقبلت عليه، فلذلك استعمل على بمعنى عن، قال صاحب اللسان: وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في هذا، لأنه لما كان رضيت ضد سخطت عدى رضيت ب"على" حملا للشيء على نقيضه كما يحمل على نظيره.
[7206]:الرواية في الديوان: "فلعمر بالفاء، و "فبين نصفها وهلالها"، ويروى: "نقصها"، وهو من قصيدة للشاعر يمدح بها قيس بن معديكرب، وبعده يقول مخاطبا الممدوح: ما كنت في الحرب العوان مغمرا إذ شب حر وقودها أجزا لهــــــا ومن الشواهد الشعرية على استعمال العرب "لعمري" و "لعمرك" قول الشاعر: لعمرك ما يدري الفتى أي أمـــره وإن كان محروصا على الرشد أشد أفي عاجلات الأمر أم آجـــــلاته أم اليوم أدني للسعــــــادة أم غــــــد؟ وقول العباس بن الأحنف: لعمري لئن كان المقرب منكم هوى صادقا إني لمستوجـــــب القرب وقد استعمله أبو خراش في الطير فقال: لعمر أبي الطير المربة غـــــــدوة على خالـد لقد وقعت على لحم وتأتي "عمر" بدون اللام، قال عمر بن أبي ربيعة: أيها المنكح الثريا سهيــــــــــــــــلا عمــرك الله، كيف يجتمعان ؟ قيل: معنى "عمرك الله" هنا، عبادتك الله، ولذلك نصب الشاعر لفظ الجلالة. وتأتي "عمر" بالراء بدلا من اللام في أولها فيقال: "رعمرك".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (72)

جملة { لعمرك إنهم لفي سكراتهم يعمهون } معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواه .

والمخاطب بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى . وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير قول .

وكلمة { لعمرك } صيغة قسم . واللام الداخلة على لفظ ( عمر ) لام القسم .

والعَمْر بفتح العين وسكون اللام أصله لغة في العُمر بضم العين ، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفّته بالفتح لأن القسم كثير الدوران في الكلام . فهو قسم بحياة المخاطب به . وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لام القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوباً . والتقدير : لعمرك قَسمي .

وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفاً لازماً في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللّام على معنى القسم . وقد يستعملونه بغير اللّام فحينئذٍ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما ، كقول عُمر بن أبي ربيعة :

عَمرَك اللّهَ كيفَ يلتقيان

فنصَب عمرَ بنزع الخافض وهو ياء القسم ونَصب اسم الجلالة على أنه مفعولُ المصدر ، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله ، أي قولك للّهِ لعمرك تعظيماً لله لأن القسم باسم أحد تعظيم له ، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم ، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد « التّحِيّات لله » أي أقسم عليك بتعظيمك ربّك . هذا ما يظهر لي في توجيه النصب ، وقد خالفت فيه أقوالَ أهل اللّغة بعضَ مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال .

والسكرة : ذهاب العقل . مشتقّة من السَكْر بفتح السين وهو السدّ والغلق . وأطلقت هنا على الضلال تشبيهاً لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته .

و { يعمهون } يتحيّرون ولا يهتدون . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } في سورة البقرة ( 15 )