{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } ومثلهم الأمهات { وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ } في النسب والعشرة{[365]} { وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي : قراباتكم عموما { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي : اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها ، خصها بالذكر ، لأنها أرغب عند أهلها ، وصاحبها أشد حرصا عليها ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ .
{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي : رخصها ونقصها ، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات ، من الأثمان ، والأواني ، والأسلحة ، والأمتعة ، والحبوب ، والحروث ، والأنعام ، وغير ذلك .
{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } من حسنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم ، فإن كانت هذه الأشياء { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } فأنتم فسقة ظلمة .
{ فَتَرَبَّصُوا } أي : انتظروا ما يحل بكم من العقاب { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الذي لا مرد له .
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعة اللّه ، المقدمين على محبة اللّه شيئا من المذكورات .
وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله ، وعلى تقديمها على محبة كل شيء ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد ، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من اللّه ورسوله ، وجهاد في سبيله .
وعلامة ذلك ، أنه إذا عرض عليه أمران ، أحدهما يحبه اللّه ورسوله ، وليس لنفسه فيها هوى ، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ، ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله ، أو ينقصه ، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه ، على ما يحبه اللّه ، دل ذلك على أنه ظالم ، تارك لما يجب عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُواْ حَتّىَ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للمتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام المقيمين بدار الشرك : إن كان المقام مع آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ، وكانت أمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا يقول : اكتسبتموها ، وتِجارَةٌ تَخْشَوْن كَسادَها بفراقكم بلدكم ، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها فسكنتموها أحَبّ إليكُم من الهجرة إلى الله ورسوله من دار الشرك ومن جهاد في سبيله ، يعني في نصرة دين الله الذي ارتضاه . فَترَبّصُوا يقول : فتنظّروا ، حتى يَأْتيَ اللّهُ بأمْرِهِ حتى يأتي الله بفتح مكة . وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ يقول : والله لا يوفق للخير الخارجين عن طاعته وفي معصيته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : حتى يَأْتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ بالفتح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَترَبّصُوا حتى يَأْتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ فتح مكة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وأمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها يقول : تخشون أن تكسد فتبيعوها . وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها قال : هي القصور والمنازل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأمْوَالٌ اقْتَرَفْتَمُوها يقول : أصبتموها .
هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه والتي قبلها إنما مقصودها الحض على الهجرة ، وفي ضمن قوله : { فتربصوا } وعيد بين ، وقوله { بأمره } قاله الحسن الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، وقال مجاهد{[5576]} : الإشارة إلى فتح مكة ، والمعنى فإذا جاء الله بأمره فلم تسلفوا ما يكون لكم أجراً ومكانة في الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وذكر الأبناء في الآية لما جلبت ذكرهم المحبة ، والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة ، وقرأ جهور الناس «وعشيرتكم » ، وقرأ عاصم وحده بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وعصمة «وعشيراتكم » ، وحسن هذا الجمع إذ لكل أحد عشيرة تختص به ، ويحسن الإفراد أن أبا الحسن الأخفش قال إنما تجمع العرب عشائر ولا تكاد تقول عشيرات ، و { اقترفتموها } معناه اكتسبتموها ، وأصل الاقتراف والمقارفة مقاربة الشيء{[5577]} ، { وتجارة تخشون كسادها } بيّن في أنواع المال ، وقال ابن المبارك : الإشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لا يوجد لهن خاطب{[5578]} { ومساكن } جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى ، وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن ، والمساكن القصور والدور ، و { أحب } خبر كان ، وكان الحجاج بن يوسف يقرؤها «أحبُّ » بالرفع وله في ذلك خبر مع يحيى بن يعمر سأله الحجاج هل تسمعني الجن قال نعم في هذا الحرف ، وذكر له رفع أحب فنفاه .
قال القاضي أبو محمد : وذلك خارج في العربية على أن يضمر في كان الأمر والشأن{[5579]} ولم يقرأ بذلك ، وقوله { والله لا يهدي القوم الفاسقين } عموم لفظ يراد به الخصوص فيمن يوافي على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق .
ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام ، فلذلك جاءت زيادة تفصيل الأصناف من ذوي القرابة وأسباببِ المخالطة التي تكون بين المؤمنين وبين الكافرين ، ومن الأسباب التي تتعلّق بها نفوس الناس فيَحول تعلّقُهم بها بينَهم وبين الوفاء ببعض حقوق الإسلام ، فلذلك ذكر الأبناءُ هنا لأنّ التعلّق بهم أقوى من التعلّق بالإخوان ، وذُكر غيرهم من قريب القرابة أيضاً .
وابتداء الخطاب ب { قُل } يشير إلى غِلَظِه والتوبيخ به .
والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين : المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقّع منهم ذلك ، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشّكّ وهو { إنْ } ويفهم منه أنّ المسترسلين في ذلك المُلابِسينَ له هم أهل النفاق ، فهم المعرَّض لهم بالتهديد في قوله : { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } .
وقد جمعت هذه الآية أصنافاً من العلاقات وذويها ، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها ، فإذا كان الثبات على الإيمان يجرّ إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضاً إذا اختلفوا في الدين ، وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم ، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو ، وكالأموال والتجارة التي تصدّ عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله . وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصدّه إلفها عن الغزو . فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تَجُرُّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمِن دحضها وإرضاء ربّه .
وقد أفاد هذا المعنى التعبير ب { أحب } لأنّ التفضيل في المحبّة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين ، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مُسبّباً على تقديم محبّة تلك العلائق على محبّة الله ، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير .
وخصّ الجهاد بالذكر من عموم ما يحبّه الله منهم : تنويهاً بشأنه ، ولأنّ ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف ، جَعله أقوى مظنّة للتقاعس عنه ، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة تبوك التي تخلّف عنها كثير من المنافقين وبعضُ المسلمين .
و ( العَشيرة ) الأقارب الأدْنَوْن ، وكَأنه مشتقّ من العِشْرة وهي الخلطة والصحبة .
وقرأ الجمهور { وعشيرتكم } بصيغة المفرد وقرأه أبو بكر عن عاصم { وعشيراتكم جمع عشيرة ووجهه : أنّ لكلّ واحد من المخاطبين عشيرة ، وعن أبي الحسن الأخفش : إنّما تَجمعَ العرب عشيرة على عشائر ولا تكاد تقول عَشيرات ، وهذه دعوى منه ، والقراءة رواية فهي تَدفَع دَعواه .
والاقتراف : الاكتساب ، وهو مشتقّ من قارف إذا قارَب الشيء .
والكساد ، قلّة التبايع وهو ضدّ الرَّولج والنَّفاق ، وذلك بمقاطعة طوائف من المشركين الذين كانوا يتبايعون معهم ، وبالانقطاع عن الاتّجار أيام الجهاد .
وجُعل التفضيل في المحبّة بين هذه الأصناف وبين محبّة الله ورسوله والجهاد : لأنّ تفضيل محبّة الله ورسوله والجهاد يوجب الانقطاع عن هذه الأصناف ، فإيثار هذه الأشياء على مَحبة الله يفضي موالاة إلى الذين يستحبّون الكفر ، وإلى القعود عن الجهاد .
والتربّص : الانتظار ، وهذا أمر تهديد لأنّ المراد انتظار الشرّ . وهو المراد بقوله : { حتى يأتي الله بأمره } أي الأمر الذي يظهر به سوء عاقبة إيثاركم محبّة الأقارب والأموال والمساكين ، على محبّة الله ورسوله والجهادِ .
والأمر : اسم مبهم بمعنى الشيء والشأن ، والمقصود من هذا الإبهام التهويل لتذهب نفوس المهدَّدين كلّ مذهب محتمل ، فأمر الله : يحتمل أن يكون العذَابَ أو القتل أو نحوهما ، ومن فسّر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل لأنّ هذه السورة نزلت بعد الفتح .
وجملة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } تذييل ، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنّهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبّة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقّق أنّهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنّهم من الفاسقين .