وقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة { الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } لا يبقى لأحد من المخلوقين ملك ولا صورة ملك ، كما كانوا في الدنيا ، بل قد تساوت الملوك ورعاياهم والأحرار والعبيد والأشراف وغيرهم ، ومما يرتاح له القلب ، وتطمئن به النفس وينشرح له الصدر أن أضاف الملك في يوم القيامة لاسمه . " الرحمن " الذي وسعت رحمته كل شيء وعمت كل حي وملأت الكائنات وعمرت بها الدنيا والآخرة ، وتم بها كل ناقص وزال بها كل نقص ، وغلبت الأسماء الدالة عليه الأسماء الدالة على الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته ، فلها السبق والغلبة ، وخلق هذا الآدمي الضعيف وشرفه وكرمه ليتم عليه نعمته ، وليتغمده برحمته ، وقد حضروا في موقف الذل والخضوع والاستكانة بين يديه ينتظرون ما يحكم فيهم وما يجري عليهم وهو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم فما ظنك بما يعاملهم به ، ولا يهلك على الله إلا هالك ولا يخرج من رحمته إلا من غلبت عليه الشقاوة وحقت عليه كلمة العذاب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقّقُ السّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ لِلرّحْمََنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً } .
اختلف القرّاء في قراءة قوله تَشَقّقُ فقرأته عامّة قرّاء الحجاز : «وَيَوْمَ تَشّقّقُ » بتشديد الشين بمعنى : تَتَشقق ، فأدغموا إحدى التاءين في الشين فشدّدوها ، كما قال : لا يسّمّعُونَ إلى المَلإِ الأعْلَى .
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : وَيَوْمَ تَشَقّقُ بتخفيف الشين والاجتزاء بإحدى التاءين من الأخرى .
والقول في ذلك عندي : أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وتأويل الكلام : ويوم تشقق السماء عن الغمام . وقيل : إن ذلك غمام أبيض مثل الغمام الذي ظلل على بني إسرائيل ، وجعلت الباء ، في قوله : بالغَمامِ مكان «عن » كما تقول : رميت عن القوس وبالقوس ، وعلى القوس ، بمعنى واحد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : وَيَوْمَ تشَقّقُ السّماءُ بالغَمامِ قال : هو الذي قال : فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، ولم يكن في تلك قطّ إلا لبني إسرائيل . قال ابن جُرَيج : الغمام الذي يأتي الله فيه غمام زعموا في الجنة .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن عبد الجليل ، عن أبي حازم ، عن عبد الله بن عمرو قال : يهبط حين يهبط ، وبينه وبين خلقه سبعون حجابا ، منها النور والظلمة والماء ، فيصوّت الماء صوتا تنخلع له القلوب .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرمة في قوله : يَأْتِيَهُمُ اللّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةُ يقول : والملائكة حوله .
قال : ثني حجاج ، عن مبارك بن فضالة ، عن عليّ بن زيد بن جُدعان ، عن يوسف بن مهران ، أنه سمع ابن عباس يقول : إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجنّ والإنس ، وهو يوم التلاق ، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض ، فيقول أهل الأرض : جاء ربنا ، فيقولون : لم يجىء وهو آت ، ثم تَتَشقق السماء الثانية ، ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة ، فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السموات ومن الجنّ والإنس . قال : فتنزل الملائكة الكَرُوبيّون ، ثم يأتي ربنا تبارك وتعالى في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة ، وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة ، قال : وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه ، وكلّ ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه يقول : سبحان الملك القدوس ، وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القباء ، والعرش فوق ذلك ، ثم وقف .
قال : ثنا الحسن ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن هارون بن وثاب ، عن شهر بن حوشب ، قال : حملة العرش ثمانية ، فأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك . وأربعة يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم ، فوقهم شخصت إليه أبصارهم ، ورجفت كُلاهم في أجوافهم . قال : وطارت قلوبهم من مقرّها في صدورهم إلى حناجرهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَوْمَ تَشّقّقُ السّماءُ بالغَمامِ ونُزّلَ المَلائِكَةُ تَنْزِيلاً يعني يوم القيامة حين تشقق السماء بالغمام ، وتنزل الملائكة تنزيلاً .
وقوله : { وَنُزّلَ المَلائكَةُ تنزِيلاً }يقول : { ونزّل الملائكة إلى الأرض تنزيلاً المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ للرّحْمَنِ } يقول : الملك الحقّ يومئذ خالص للرحمن دون كلّ من سواه ، وبطلت الممالك يومئذ سوى ملكه . وقد كان في الدنيا ملوك ، فبطل الملك يومئذ سوى ملك الجبار { وكانَ يَوْما عَلى الكافِرِينَ عَسِيرا } يقول : وكان يومُ تشقّق السماء بالغمام يوما على أهل الكفر بالله عسيرا ، يعني صعبا شديدا .
ثم قرّر أن «الملك الحق هو يومئذ للرحمن » ، إذ قد بطل في ذلك اليوم كل ملك وعسره { على الكافرين } توجه بدخول النار عليهم فيه وما في خلال ذلك من المخاوف ، وقوله : { على الكافرين } دليله ، أن ذلك اليوم سهل على المؤمنين . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله ليهون القيامة على المؤمنين حتى يكزن أخف عليهم من صلاة مكتوبة صلوها »{[8817]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.