{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } أي : تدور عليهم خدامهم ، من الولدان المخلدين بطعامهم ، بأحسن الأواني وأفخرها ، وهي صحاف الذهب وشرابهم ، بألطف الأواني ، وهي الأكواب التي لا عرى لها ، وهي من أصفى الأواني ، من فضة أعظم من صفاء القوارير .
{ وَفِيهَا } أي : الجنة { مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } وهذا لفظ جامع ، يأتي على كل نعيم وفرح ، وقرة عين ، وسرور قلب ، فكل ما اشتهته النفوس ، من مطاعم ، ومشارب ، وملابس ، ومناكح ، ولذته العيون ، من مناظر حسنة ، وأشجار محدقة ، ونعم مونقة ، ومبان مزخرفة ، فإنه حاصل فيها ، معد لأهلها ، على أكمل الوجوه وأفضلها ، كما قال تعالى : { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ } { وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وهذا هو تمام نعيم أهل الجنة ، وهو الخلد الدائم فيها ، الذي يتضمن دوام نعيمها وزيادته ، وعدم انقطاعه .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يُطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة في الاَخرة بصحاف من ذهب ، وهي جمع للكثير من الصّحْفة ، والصّحْفة : القصعة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ قال : القِصاع .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن شعبة ، قال : «إنّ أدنى أهل الجنة منزلة ، من له قصر فيه سبعون ألف خادم ، في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبها ، لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القميّ ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : «إن أخسّ أهل الجنة منزلاً من له سبعون ألف خادم ، مع كل خادم صحفة من ذهب ، لو نزل به جميع أهل الأرض لأوسعهم ، لا يستعين عليهم بشيء من غيره ، وذلك في قول الله تبارك وتعالى : لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنا مَزيدٌ ولهم فِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ ، وَتَلَذّ الاْءَعْينُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزديّ ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : «ما أحد من أهل الجنة إلاّ يسعى عليه ألف غلام ، كلّ غلام على عمل ما عليه صاحبه » .
وقوله : وأكْوَابٍ وهي جمع كوب ، والكوب : الإبريق المستدير الرأس ، الذي لا أذن له ولا خرطوم ، وإياه عنى الأعشى بقوله :
صَرِيفَيّةٌ طَيّبٌ طَعْمُها *** لَهَا زَبَدٌ بينَ كُوب وَدَنّ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وأكْوَابٍ قال : الأكواب التي ليست لها آذان . ومعنى الكلام : يطاف عليهم فيها بالطعام في صِحاف من ذهب ، وبالشراب في أكواب من ذهب ، فاستغنى بذكر الصّحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب ، الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه «وَفِيها ما تَشْتَهي الأَنْفُسُ وَتَلَذّ الأَعْيُنُ » يقول تعالى ذكره : لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون ، وتلذّ أعينكم وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ يقول : وأنتم فيها ماكثون ، لا تخرجون منها أبدا . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن سابط أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أُحبّ الخيل ، فهل في الجنة خيل ؟ فقال : «إنْ يُدْخِلْكَ الجَنّةَ إنْ شاءَ ، فَلا تَشاءُ أنْ تَرْكَبَ فَرَسا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ تَطِيرُ بِكَ فِي أيّ الجَنّةِ شِئْتَ إلاّ فَعَلَتْ » ، فقال أعرابيّ : يا رسول الله إني أحبّ الإبل ، فهل في الجنة إبل ؟ فقال : «يا أعرابيّ إنْ يُدْخِلْكَ اللّهُ الجَنّةَ إن شاءَ اللّهُ ، فَفِيها ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ، وَلَذّت عَيْناكَ » .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار ، عن محمد بن سعد الأنصاري ، عن أبي ظبية السلفي ، قال : إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة ، قال : فتقول : ما أُمْطِرُكُمْ ؟ قال : فما يدعو داعٍ من القوم بشيء إلاّ أمطرتهم ، حتى إن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أترابا .
حدثنا ابن عرفة ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن عليّ بن أبي الوليد ، قال : قيل لمجاهد في الجنة سماع ؟ قال : إن فيها لشجرا يقال له العيص ، له سماع لم يسمع السامعون إلى مثله .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : أخبرنا معاوية بن صالح ، قال : ثني سليمان بن عامر ، قال : سمعت أبا أُمامة ، يقول : «إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير ، فيقع متفلقا نضيجا في كفه ، فيأكل منه حتى تنتهي نفسه ، ثم يطير ، ويشتهي الشراب ، فيقع الإبريق في يده ، ويشرب منه ما يريد ، ثم يرجع إلى مكانه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام : ما تَشْتَهِيهِ بزيادة هاء ، وكذلك ذلك في مصاحفهم . وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق «تَشْتَهِي » بغير هاء ، وكذلك هو في مصاحفهم .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
{ يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب } الصحاف جمع صحفة ، والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له . { وفيها } وفي الجنة { ما تشتهي الأنفس } وقرأ نافع وابن عامر وحفص { تشتهيه الأنفس } على الأصل . { وتلذ الأعين } بمشاهدته وذلك تعميم بعد تخصيص ما يعد من الزوائد في التنعم والتلذذ . { وأنتم فيها خالدون } فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الحال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بصحاف من ذهب وأكواب} من فضة، يعني الأكواب التي ليس لها عرى مدورة الرأس في صفاء القوارير.
{وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} لا تموتون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يُطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة في الآخرة بصحاف من ذهب، وهي جمع للكثير من الصّحْفة، والصّحْفة: القصعة... وقوله:"وأكْوَابٍ" وهي جمع كوب، والكوب: الإبريق المستدير الرأس، الذي لا أذن له ولا خرطوم... ومعنى الكلام: يطاف عليهم فيها بالطعام في صِحاف من ذهب، وبالشراب في أكواب من ذهب، فاستغنى بذكر الصّحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب، الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه. "وَفِيها ما تَشْتَهيه الأَنْفُسُ وَتَلَذّ الأَعْيُنُ "يقول تعالى ذكره: لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون، وتلذّ أعينكم.
"وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ" يقول: وأنتم فيها ماكثون، لا تخرجون منها أبدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل ذكر الصحاف من الذهب والأكواب وجوها:
أحدها: ذكر ذلك لهم في الآخرة ترغيبا لهم فيها وتحريضا لما يرغبون بمثل ذلك إلى السعي للآخرة.
والثاني: يحتمل أن ما ذكر ذلك لأن أهل الدنيا كانوا يتفاخرون بهذه الأشياء في الدنيا، فيُخبِر أن لأوليائه ذلك في الآخرة وذلك دائم، وهذا فانٍ ولا عبرة للفاني، فما معنى الافتخار به؟
والثالث: يحتمل أنه ذكر ذلك لأنه حرّم عليهم الانتفاع في الدنيا باستعمال الذهب والفضة والحرير، فأخبر أن لهم الانتفاع بذلك في الآخرة التي هي دار التنعُّم فأما ما سوى ذلك من العُرُش والأواني فإنه لا بأس بذلك، وهو مباح في الدارين جميعا.
وأما ذكر الأكواب فيحتمل وجهين أيضا:
أحدهما: الترغيب على ما ذكرنا؛ لأنهم يتمنّون، ويرغبون فيها في الدنيا.
والثاني: يُخبر أن لا مُؤنة عليهم في حمل الأواني ورفعها عند الشرب والأكل، ولا يتولّون ذلك بأنفسهم، لكن الخدم هم الذين يتولّون سقيهم.
{وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين} فذلك في الجنة ليس كنعيم الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يشتهي شاربها، ولا تلذّ به العيون. ويحتمل أنه ذكر ذلك في الآخرة لما مُنعوا، وحُرموا في الدنيا مما لا يحلّ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون...
مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي 548 هـ :
... وقد جمع الله سبحانه بقوله (ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم، لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا أمراً سائقاً إلى حالهم سابقاً لمن كان واقفاً عنهم إلى وصالهم، أقبل على ما لعله يوقفه الاشتغال بلهو أو مال محركاً لما جهل منه، ومنبهاً على ما غفل عنه، فقال عائداً إلى الغيبة ترغيباً في التقوى: {يطاف عليهم} أي المتقين الذين جعلناهم بهذا النداء ملوكاً.
{بصحاف} جمع صحفة وهي القصعة {من ذهب} فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم.
ولما كانت آنية الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل، جرى على ذلك المعهود، فعبر بجمع القلة في قوله: {وأكواب} جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له، قد تفوق عن شيء منه اليد أو الشفقة أو يلزم منها بشاعة في شيء من دائر الكوز، وإيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتزيد أوصافه عن أذى أو نحو ذلك.
ولما رغب فيها بهذه المغيبات، أجمل بما لا يتمالك معه عاقل عن المبادرة إلى الدخول فيما يخصها فقال: {وفيها} أي الجنة.
ولما كانت اللذة محصورة في المشتهى قال تعالى: {ما تشتهيه الأنفس} من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة وغيرها؛ جزاء لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا، ولما كان ما يخص المبصرات من ذلك أعظم، خصها فقال:
{وتلذ الأعين} من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم تعالى، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
ولما كان ذلك لا يكمل طيبه إلا بالدوام، قال عائداً إلى الخطاب؛ لأنه أشرف وألذ مبشر لجميع المقبلين على الكتاب، والملتفت إليهم بالترغيب في هذا الثواب، بشارة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بما قدمه في أول السورة وأثنائها من بلوغ قومه نهاية العقل والعلم الموصلين إلى أحسن العمل الموجب للسعادة: {وأنتم فيها خالدون} لبقائها وبقاء كل ما فيها، فلا كلفة عليكم أصلاً من خوف من زوال ولا حزن من فوات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ما تشتهيه الأنفس} كلّ ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو...
ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس، فلذّة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف {وتلَذّ الأعين} على {ما تشتهيه الأنفس} عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عمومٌ وخصوص، فقد تشتهي الأنفس ما لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماعِ الأصوات الحسنة والموسيقى. وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيتِه أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في صور جميلة إكمالاً للنعمة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تقول في بيان النعمة الثالثة: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) فهم يُضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذّ الأطعمة، في منتهى الهدوء والاطمئنان والصفاء.
«الصحاف» جمع صحفة، وهي في الأصل من مادة صحف، أي التوسع، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب.
ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية، دون طعامهم وشرابهم، إلاّ أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقاً.
وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أُخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية، فتقول: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين)، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئاً على ما جاء في هذه الجملة أبداً.
وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود، وبسعة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر، تعبير ليس فوقه تعبير.
والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين، وهذا الفصل عميق المعنى: فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، من جهة أن للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأُخرى؟ أم هو من جهة أن جملة: (ما تشتهيه الأنفس) تبيّن لذات الذوق والشم والسمع واللمس، أمّا جملة (تلذ الأعين) فهي تبيان للذة العين والنظر.
ويعتقد البعض أنّ جملة: (ما تشتهيه الأنفس) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية، في حين أن جملة (تلذ الأعين) مبينة للذات الروحية، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإِنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.