ثم أخبر تعالى عن ما همت به هذه الطائفة الخبيثة ، وإرادة المكر بالمؤمنين ، فقال { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } أي : ادخلوا في دينهم على وجه المكر والكيد أول النهار ، فإذا كان آخر النهار فاخرجوا منه { لعلهم يرجعون } عن دينهم ، فيقولون لو كان صحيحا لما خرج منه أهل العلم والكتاب ، هذا الذي أرادوه عجبا بأنفهسم وظنا أن الناس سيحسنون ظنهم بهم ويتابعونهم على ما يقولونه ويفعلونه ، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
{ وَقَالَتْ طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالّذِيَ أُنْزِلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ }
اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة من أمرت به من الإيمان وجه النهار ، والكفر آخره ، فقال بعضهم : كان ذلك أمرا منهم إياهم بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم في نبوّته ، وما جاء به من عند الله وأنه حقّ ، في الظاهر من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك ، وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرُهُ } فقال بعضهم لبعض : أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار ، واكفروا آخره ، فإنه أجدر أن يصدّقوكم ، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون ، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن حصين ، عن أبي مالك في قوله : { آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ على الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَه } قال : قالت اليهود : آمنوا معهم أوّل النهار ، واكفروا آخره ، لعلهم يرجعون معكم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِلَ على الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } كان أحبار قرى عَرَبِيّة اثني عشر حبرا ، فقالوا لبعضهم : ادخلوا في دين محمد أول النهار ، وقولوا نشهد أن محمدا حقّ صادق ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا : إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبرانا فسألناهم ، فحدثونا أن محمدا كاذب ، وأنكم لستم على شيء ، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم ، لعلهم يشكون ، يقولون : هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار ، فما بالهم ؟ فأخبر الله عزّ وجلّ رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري ، قال : قالت اليهود بعضهم لبعض : أسلموا أوّل النهار ، وارتدّوا آخره ، لعلهم يرجعون . فأطلع الله على سرّهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
وقال آخرون : بل الذي أمرت به من الإيمان : الصلاة ، وحضورها معهم أوّل النهار ، وترك ذلك آخره . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ { آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ على الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ } يهود تقوله صلت مع محمد صلاة الصبح ، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ، ليرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بمثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ على الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ } . . . الاَية . وذلك أن طائفة من اليهود قالوا : إذا لقيتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، لعلهم ينقلبون عن دينهم ، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم .
فتأويل الكلام إذا : وقالت طائفة من أهل الكتاب ، يعني من اليهود الذي يقرءون التوراة : { آمِنُوا } صدّقوا بالذي أنزل على الذين آمنوا ، وذلك ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين الحقّ وشرائعه وسننه . { وَجْهَ النّهارِ } يعني أوّل النهار ، وسمي أوله وجها له لأنه أحسنه ، وأوّل ما يواجه الناظر فيراه منه ، كما يقال لأوّل الثوب وجهه ، وكما قال ربيع بن زياد :
مَنْ كانَ مَسْرُورا بِمَقْتَلِ مالِكٍ *** فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهارِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَجْهَ النّهارِ } : أوّل النهار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَجْهَ النّهارِ } : أول النهار { وَاكْفُرُوا آخِرَهُ } يقول : آخر النهار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ } قال : قال صلوا معهم الصبح ، ولا تصلوا معهم آخر النهار ، لعلكم تستزلونهم بذلك .
وأما قوله : { وَاكْفُرُوا آخِرَهُ } فإنه يعني به أنهم قالوا : واجحدوا ما صدّقتم به من دينهم في وجه النهار في آخر النهار { لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } : يعني بذلك : لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويدعونه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } يقول : لعلهم يدعون دينهم ، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } : لعلهم ينقلبون عن دينهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعلهم يشكون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : { لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } قال : يرجعون عن دينهم .
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } أي أظهروا الإيمان بالقرآن أول النهار . { واكفروا آخره لعلهم يرجعون } واكفروا به آخره لعلهم يشكون في دينهم ظنا بأنكم رجعتم لخلل ظهر لكم ، والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة : آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم وصلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون . وقيل اثنا عشر من أحبار خيبر تقاولوا بأن يدخلوا في الإسلام أول النهار ويقولوا آخره نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمدا عليه الصلاة والسلام بالنعت الذي ورد في التوراة لعل أصحابه يشكون فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.