{ 43 - 44 ْ } { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ْ }
وكان اللّه قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا عددا قليلا ، فبشر بذلك أصحابه ، فاطمأنت قلوبهم وتثبتت أفئدتهم .
ولو أراكهم الله إياهم كَثِيرًا فأخبرت بذلك أصحابك { لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ْ } فمنكم من يرى الإقدام على قتالهم ، ومنكم من لا يرى ذلك فوقع من الاختلاف والتنازع ما يوجب الفشل .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ْ } فلطف{[348]} بكم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ْ } أي : بما فيها من ثبات وجزع ، وصدق وكذب ، فعلم اللّه من قلوبكم ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم وصدق رؤيا رسوله ،
ثم يبين - سبحانه - بعض وجوه نعمه على المؤمنين ، وتدبيره الخفى لنصرهم وفوزهم فيقول : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
أى : اذكر يا محمد فضل الله عليك وعلى أصحابك ، حيث أراك في منامك الكافرين قليلا عددهم ، ضئيلا وزنهم فأخبرت بذلك اتباعك فازدادوا ثباتا واطمئنانا وجرأة على عدوهم { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً } أى : ولو أراك الأعداء عددا كثيرا { لَّفَشِلْتُمْ } أى : لتهيبتهم الإِقدام عليهم ، لكثرة عددهم ، من الفشل وهو ضعف مع جبن { وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر } أى : في أمر الإِقدام عليهم والاحجام عنهم . فمنكم من يرى هذا ومنكم من يرى ذلك .
وقوله { لأَمْرِ ولكن الله سَلَّمَ } بيان لمحل النعمة . أى : ولكن الله - تعالى - بفضله وإحسانه أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والنزاع وتفرق الآراء في شأن القتال : حيث ربط على قلوبكم ، ورزقكم الجرأة على أعدائكم وعدم المبالاة بهم بسبب رؤيا نبيكم .
وقوله : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تذييل يدل على شمول علمه - سبحانه - .
أى : إنه - سبحانه - عليكم بكل ما يحصل في القلوب وما يخطر بها من شجاعة وجبن ومن صبر وجزع ولذلك دير ما دبر .
قال الفخر الرازى ، قال مجاهد : أرى الله النبى - صلى الله عليه وسلم - كفار قريش في منامه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا : رؤيا النبى حق . القوم قليل ، فصار ذلك سببا لجرأتهم وقوة قلوبهم .
فإن قيل : رؤية الكثر قليلا غلط ، فيكف يجوز من الله - تعالى - أن يفعل ذلك ؟
قلنا : ذهبنا أنه - تعالى - يفعل ما يشاء ويحكم ما يريده وأيضا لعله - سبحانه - أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون .
ونستطيع أن نضيف إلى ما أجاب به الفخر الرازى أنه يجوز أن يكون المراد بالقلة : الضعف وهوان الشأن . .
أى : أن المشركين وإن كانوا في حقيقتهم يقاربون الألف - أي أكثر من ثلاثة أمثال المؤمنين - إلا أنهم لا قوة لهم ولا وزن ، فهم كثير عددهم ولكن قليل غناؤهم ، قليل وزنهم في المعركة . لأنهم ينقصهم الإِيمان الصحيح الذي يقوى القلوب ، ويدفع النفوس إلى الإِقدام لنصرة الحق لكى تفوز برضا الله وحسن مثوبته .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله : وقد تقدم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك ، ولكنه أخبرهم مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا ، لا أنهم قليل في الواقع ، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا ، وأن كيدهم يكون ضعيفا ، فتجروا وقويت قلوبهم .
هذا ، ونسب إلى الحسن أنه ذكر أن هذه الآراء كانت في اليقظة ، وأن المراد من المنام العين التي هى موضع النوم . قال الزمخشري . وهذا تفسير فيه تعسف . وما أحسبت الرواية صحيحة فيه عن الحسن .
وقال الآلوسى : وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين ، لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها ، فلم يكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية ، وإليه ذنب البالخى . ولا يخفى ما فيه ، لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمى . ففى الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه . . على أن الروايات الجمة برؤيته - صلى الله عليه وسلم - إياهم مناما ، وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر . . ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة ، فانه الفصيح العالم بكلام العرب .
{ إذ يريكهم الله } بدل من قوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } [ الأنفال : 42 ] فإنّ هذه الرؤيا ممّا اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا لوقوعها في مدّة نزول المسلمين بالعدوة من بدر ، فهو بدل من بدل .
والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم ، ويطلق على زمن النوم وعلى مكانه .
ويتعلق قوله : { في منامك } بفعل { يريكهم } ، فالإراءة إراءة رؤيا ، وأسندت الإراءة إلى الله تعالى ؛ لأنّ رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي بمدلولها ، كما دلّ عليه قوله تعالى ، حكاية عن إبراهيم وابنه { قال يا بُنَيّ إنّيَ أرى في المنام أنِّي أذْبَحُك فانْظُر ماذا ترى قال يا أبَتِ افعل ما تؤمر } [ الصافات : 102 ] فإنّ أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط ، ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث ، فما رؤياهم إلاّ مكاشفات روحانية على عالم الحقائِق .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا منامٍ ، جيشَ المشركين قليلاً ، أي قليل العَدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجّعوا للقاء المشركين ، وحملوها على ظاهرها ، وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيّب جيش المشركين . فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر ، وكانت تلك الرؤيا منّة من الله على رسوله والمؤمنين ، وكانت قِلة العدد في الرؤيا رَمزاً وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلّة عددهم .
ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي ، لأنّ صور المَرائي المنامية تكَون رموزاً لمعان فلا تُعَدُّ صورتها الظاهرية خلفاً ، بخلاف الوحي بالكلام .
وقد حكاها النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين ، فأخذوها على ظاهرها ، لعلمهم أنّ رؤيا النبي وحي ، وقد يكون النبي قد أطلعه الله على تعبيرها الصائِب ، وقد يكون صرفه عن ذلك فظنّ كالمسلمين ظاهرها ، وكلّ ذلك للحكمة . فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لم تخطىء ولكنها أوهمتهم قلّة العَدد ، لأنّ ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل ، وهو تحقّق النصْر ، ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنُوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة . ورؤيا النبي لا تخطىء ، ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج ، كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي : أنّه كان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلَق الصبح ، وهذا هو الغالب ، وخاصّة قبل ابتداء نزول المَلك بالوحي ، وقد تكون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بَقَراً تُذبح ، ويُقال له : الله خير ، فلم يعْلَم المراد حتّى تبيّن له أنّهم المؤمنون الذين قُتلوا يوم أُحد . فلمّا أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيئه المشركين قليلاً كناية بأحد أسباب الانهزام ، فإنّ الانهزام يجيء من قلّة العدد . وقد يُمسك النبي عليه الصلاة والسلام عن بيان التعبير الصحيح لحكمة ، كما في حديث تعْبير أبي بكر رؤيا الرجل الذي قصّ رؤياه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول النبي له : " أصبتَ بعضاً وأخطأت بعضاً " وأبى أن يبيّن له ما أصاب منها وما أخطأ . ولو أخبر الله رسوله ليُخبر المؤمنين بأنّهم غالبون المشركون لآمنوا بذلك إيماناً عقلياً لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس ، ولو لم يخبره ولم يُرِه تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون للمشركين حساباً كبيراً . لأنّهم معروفون عندهم بأنّهم أقوى من المسلمين بكثير .
وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية ، فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة .
والقليل هنا قليل العَدد بقرينة قوله : { كثيرا } . أراه إيّاهم قليلي العدد ، وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف . فإنّ لغة العقول والأرواح أوسع من لغة التخاطب ، لأنّ طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس ، فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية .
وأخبر ب « قليل » و« كثير » وكلاهما مفرد عن ضمير الجمع لما تقدّم عند قوله تعالى : { معه ربيون كثير } [ آل عمران : 146 ] .
ومعنى : { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } أنّه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين ؛ لدخل قلوبَ المسلمين الفشلُ ، أي إذا حدثهم النبي بما رأى ، فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع ، وإن كان النصر مضموناً لهم .
فإن قلت : هذا يقتضي أنّ الإراءة كانت متعيّنة ولِمَ لَمْ يَتْرُك الله إراءتَه جيش العدوّ فلا تكونَ حاجة إلى تمثيلهم بعَدد قليل ، قلتُ : يظهر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدوّ ، فحقّق الله رجاءه ، وجنّبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين ، أو لعلّ المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعلم ربّه عن حال العدوّ .
والفشل : الجبن والوهن . والتنازع : الاختلاف . والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدوّ من ثبات أو انجلاء عن القتال .
والتعريف في { الأمر } للعهد وهو أمر القتال وما يقتضيه .
والاستدراك في قوله : { ولكن الله سلم } راجع إلى ما في جملة : { ولو أراكهم كثيراً } من الإشعار بأنّ العدوّ كثير في نفس الأمر ، وأنّ الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر ، وهو الأكثر في مرائي الأنبياء ، وقد تحاكي المعنى الرمزيَّ وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء ، مثل رؤيا مَلِك مصر سبعَ بقرات ، ورؤيا صاحبي يوسف في السِّجْن ، وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه هَزَّ سيفاً فانكسر في يده ، فمعنى الاستدْراك رفع ما فرض في قوله : { ولو أراكهم كثيراً } . فمفعول { سلم } ومتعلِّقه محذوفان إيجازاً إذ دلّ عليه قوله : { لفشلتم ولتنازعتم } والتقدير : سَلَّمكم من الفَشَل والتنازع بأن سلمكم من سببهما ، وهو إراءتكم واقِع عدد المشركين ، لأنّ الاطّلاع على كثرة العدوّ يلقي في النفوس تهيّباً له وتخوّفاً منه ، وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفّر لهم منتهى الشجاعة .
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : { ولكن الله سلم } دون أن يقول : ولكنّه سلّم ، لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله ، وأنّه بعنايته ، واهتماماً بهذا الحادث .
وجملة : { إنه عليم بذات الصدور } تذييل للمنة ، أي : أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية ، لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثّر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر ممّا تتأثّر بالاعتقادات ، فعَلِم أنّه لو أخبركم بأنّ المشركين ينهزمون ، واعتقدتم ذلك لصِدْق إيمانكم ، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيراً في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره إعتقادي أنّ عددهم قليل ، لأنّ الاعتقاد بأنّهم ينهزمون لا ينافي توقّع شدّة تَنْزِل بالمسلمين ، من موت وجراح قبل الانتصار ، فأمّا اعتقاد قلّة العدوّ فإنّها تثير في النفوس إقداماً واطمئنان بال ، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلاً .
ومعنى { ذات الصدور } الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس ، فالصدور أطلقت على ما حلّ فيها من النوايا والمضمرات ، فكلمة { ذَات } بمعنى صاحبة ، وهي مؤنث ( ذو ) أحدِ الأسماء الخمسة ، فأصل ألفها الواو ووزنها ( ذَوَت ) انقلبت واوها ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، قال في « الكشّاف » في تفسير سورة [ فاطر : 38 ] في قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } هي تأنيث ذُو ، وذُو موضوع لمعنى الصحبة من قوله :
لتَغْنِيَ عَنّي ذَا إنائِك أجمَعا
يعني أنّ ذات الصدور الحالةُ التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتُها ، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهمّ به المرء وما يدبّره ويكيده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذ يريكهم الله} يا محمد في التقديم {في منامك قليلا}، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل أن يلتقوا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما رأى، فقالوا: رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق والقوم قليل، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين الناس، لتصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: {ولو أراكهم كثيرا} حين عاينتموهم {لفشلتم}، يعنى لجبنتم وتركتم الصف، {ولتنازعتم}، يعني و اختلفتم، {في الأمر ولكن الله سلم}، يقول: أتم المسلمون أمرهم على عدوهم، فهزموهم ببدر، {إنه} الله {عليم بذات الصدور} عليم بما في قلوب المؤمنين من أمر عدوهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإن الله يا محمد سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدوّك وعدوّهم "فِي مَنامِكَ قَلِيلاً "يقول: يريكهم في نومك قليلاً فتخبرهم بذلك، حتى قويت قلوبهم واجترأوا على حرب عدوّهم، ولو أراك ربك عدوّك وعدوّهم كثيرا لفشل أصحابك، فجبنوا وخافوا، ولم يقدروا على حرب القوم، ولتنازعوا في ذلك، ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا، إنه عليم بما تخفيه الصدور، لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ"؛ فقال بعضهم: معناه: ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم [هذا قول ابن عباس]...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولكن الله سلم أمره فيهم...
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس، وهو أن الله سلم القوم بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه من الفشل والتنازع حتى قويت قلوبهم واجترأوا على حرب عدوّهم وذلك أن قوله: "وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ" عقيب قوله: "وَلَوْ أرَاكَهُمْ كَثِيرا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ" فالذي هو أولى بالخبر عنه، أنه سلمهم منه جلّ ثناؤه ما كان مخوفا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ففائدة الآية: أن الله لطف للمؤمنين بما لو لم يكن لفشلوا ولاضطرب أمرهم واختلفت كلمتهم. ولكن سلمهم الله من ذلك بلطفه لهم وإحسانه بهم حتى بلغوا ما ارادوه من عدوهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وفي الجملة أراد اللهُ جريانَ ما حصل بينهم من القتال يومَ بدر، وإنَّ اللهَ إذا أراد أمراً هَيَّأ أسبابَه؛ فقلَّلَ الكفارَ في أعين المسلمين فزادوا جسارةً، وقلَّلَ المسلمين في أعين الكفار فازدادوا -عند نشاطهم إلى القتال- صغراً في حكم الله وخسارةً. {واللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]: وكيف لا؟ ومنه تصدُرُ المقاديرُ، وإليه تُرْجَع الأمور.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله}... إذ يقللهم في عينك {فِي مَنَامِكَ} في رؤياك. وذلك أن الله عزّ وجل أراه في رؤياه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم...
... {لَّفَشِلْتُمْ} لجبنتم وهبتم الإقدام {ولتنازعتم} في الرأي، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم، وترجحتم بين الثبات والفرار، {ولكن الله سَلَّمَ} أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى فيها عدد الكفار قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فقويت نفوسهم وحرضوا على اللقاء، فهذا معنى قوله {في منامك} أي في نومك قاله مجاهد وغيره. {سلم} لفظ يعم كل متخوف اتصل بالأمر أو عرض في وجهه، فسلم الله من ذلك كله {إنه عليم بذات الصدور} أي بإيمانكم وكفركم...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
و لم يقل لفشلت لأَنه صلى الله عليه وسلم لا يفشل، والخطاب في فشلتم لا يشمله، أَو شمله بطريق الحكم على المجموع والتنازع سبب للفشل فعطفه عطف سبب على مسبب، ويفصح بذلك فاءَ السببية في قوله تعالى "ولا تنازعوا فتفشلوا "{وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ} سلمكم من الفشل والتنازع بإِراءَته نبيه إِياهم قليلا وإِخباره إِياكم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... فإن قلت كيف يصح مع هذا أن تكون رؤيا الأنبياء حق وأنها ضرب من الوحي؟ (قلت) قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك مع أن عددهم 313 ولكنه أخبرهم مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا لا أنهم قليلا في الواقع، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا، وأن كيدهم يكون ضعيفا، فتجرؤوا وقويت قلوبهم {ولكن الله سلم} أي سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الكلمة وعواقب ذلك {إنه عليم بذات الصدور} أي عليم بما في القلوب التي في الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتنكل عن الإقدام على القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث فيها طمأنينة الشجاعة والصبر فيحملها على الإقدام، فيسخر لكل منها الأسباب التي تفضي إلى ما يريده منها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الموقعة -بظروفها التي صاحبتها- تحمل بينة لا تجحد، وتدل دلالة لا تنكر، على تدبير وراء تدبير البشر، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر.. إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا، وأنه له كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... فالإراءة إراءة رؤيا، وأسندت الإراءة إلى الله تعالى؛ لأنّ رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي بمدلولها، كما دلّ عليه قوله تعالى، حكاية عن إبراهيم وابنه {قال يا بُنَيّ إنّيَ أرى في المنام أنِّي أذْبَحُك فانْظُر ماذا ترى قال يا أبَتِ افعل ما تؤمر} [الصافات: 102] فإنّ أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط، ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث، فما رؤياهم إلاّ مكاشفات روحانية على عالم الحقائِق.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا منامٍ، جيشَ المشركين قليلاً، أي قليل العَدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجّعوا للقاء المشركين، وحملوها على ظاهرها، وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيّب جيش المشركين. فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر، وكانت تلك الرؤيا منّة من الله على رسوله والمؤمنين، وكانت قِلة العدد في الرؤيا رَمزاً وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلّة عددهم.
ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي، لأنّ صور المَرائي المنامية تكَون رموزاً لمعان فلا تُعَدُّ صورتها الظاهرية خلفاً، بخلاف الوحي بالكلام.
وقد حكاها النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين، فأخذوها على ظاهرها، لعلمهم أنّ رؤيا النبي وحي، وقد يكون النبي قد أطلعه الله على تعبيرها الصائِب، وقد يكون صرفه عن ذلك فظنّ كالمسلمين ظاهرها، وكلّ ذلك للحكمة. فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لم تخطئ ولكنها أوهمتهم قلّة العَدد، لأنّ ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل، وهو تحقّق النصْر، ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنُوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة. ورؤيا النبي لا تخطئ، ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج، كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي: أنّه كان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلَق الصبح، وهذا هو الغالب، وخاصّة قبل ابتداء نزول المَلك بالوحي، وقد تكون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بَقَراً تُذبح، ويُقال له: الله خير، فلم يعْلَم المراد حتّى تبيّن له أنّهم المؤمنون الذين قُتلوا يوم أُحد. فلمّا أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيئه المشركين قليلاً كناية بأحد أسباب الانهزام، فإنّ الانهزام يجيء من قلّة العدد. وقد يُمسك النبي عليه الصلاة والسلام عن بيان التعبير الصحيح لحكمة، كما في حديث تعْبير أبي بكر رؤيا الرجل الذي قصّ رؤياه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول النبي له:"أصبتَ بعضاً وأخطأت بعضاً" وأبى أن يبيّن له ما أصاب منها وما أخطأ. ولو أخبر الله رسوله ليُخبر المؤمنين بأنّهم غالبون المشركون لآمنوا بذلك إيماناً عقلياً لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس، ولو لم يخبره ولم يُرِه تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون للمشركين حساباً كبيراً. لأنّهم معروفون عندهم بأنّهم أقوى من المسلمين بكثير.
وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية، فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة.
والقليل هنا قليل العَدد بقرينة قوله: {كثيرا}. أراه إيّاهم قليلي العدد، وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف. فإنّ لغة العقول والأرواح أوسع من لغة التخاطب، لأنّ طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس، فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية...
ومعنى: {ولو أراكهم كثيراً لفشلتم} أنّه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين؛ لدخل قلوبَ المسلمين الفشلُ، أي إذا حدثهم النبي بما رأى، فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع، وإن كان النصر مضموناً لهم.
فإن قلت: هذا يقتضي أنّ الإراءة كانت متعيّنة ولِمَ لَمْ يَتْرُك الله إراءتَه جيش العدوّ فلا تكونَ حاجة إلى تمثيلهم بعَدد قليل، قلتُ: يظهر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدوّ، فحقّق الله رجاءه، وجنّبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين، أو لعلّ المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعلم ربّه عن حال العدوّ.
والفشل: الجبن والوهن. والتنازع: الاختلاف. والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدوّ من ثبات أو انجلاء عن القتال.
والتعريف في {الأمر} للعهد وهو أمر القتال وما يقتضيه.
والاستدراك في قوله: {ولكن الله سلم} راجع إلى ما في جملة: {ولو أراكهم كثيراً} من الإشعار بأنّ العدوّ كثير في نفس الأمر، وأنّ الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر، وهو الأكثر في مرائي الأنبياء، وقد تحاكي المعنى الرمزيَّ وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء، مثل رؤيا مَلِك مصر سبعَ بقرات، ورؤيا صاحبي يوسف في السِّجْن، وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه هَزَّ سيفاً فانكسر في يده، فمعنى الاستدْراك رفع ما فرض في قوله: {ولو أراكهم كثيراً}. فمفعول {سلم} ومتعلِّقه محذوفان إيجازاً إذ دلّ عليه قوله: {لفشلتم ولتنازعتم} والتقدير: سَلَّمكم من الفَشَل والتنازع بأن سلمكم من سببهما، وهو إراءتكم واقِع عدد المشركين، لأنّ الاطّلاع على كثرة العدوّ يلقي في النفوس تهيّباً له وتخوّفاً منه، وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفّر لهم منتهى الشجاعة.
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {ولكن الله سلم} دون أن يقول: ولكنّه سلّم، لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله، وأنّه بعنايته، واهتماماً بهذا الحادث.
وجملة: {إنه عليم بذات الصدور} تذييل للمنة، أي: أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية، لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثّر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر ممّا تتأثّر بالاعتقادات، فعَلِم أنّه لو أخبركم بأنّ المشركين ينهزمون، واعتقدتم ذلك لصِدْق إيمانكم، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيراً في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره إعتقادي أنّ عددهم قليل، لأنّ الاعتقاد بأنّهم ينهزمون لا ينافي توقّع شدّة تَنْزِل بالمسلمين، من موت وجراح قبل الانتصار، فأمّا اعتقاد قلّة العدوّ فإنّها تثير في النفوس إقداماً واطمئنان بال، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلاً.
ومعنى {ذات الصدور} الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس، فالصدور أطلقت على ما حلّ فيها من النوايا والمضمرات، فكلمة {ذَات} بمعنى صاحبة...
يعني أنّ ذات الصدور الحالةُ التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتُها، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهمّ به المرء وما يدبّره ويكيده.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ذات الصدور هي ما يكون في الصدور مما يدفعها إلى الإقدام، أو يثبط فيها العزائم، أو يلقي فيها بالخور والخوف، فالله تعالى عليم بها، وبما يدفع الهمم، ويقوي القلوب، ويمنع الفشل والنزاع هذا ما أودعه قلب القائد الحكيم، وأودعه قلوب المؤمنين بتلك الرؤيا الصادقة التي أراه إياها.