{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ }
هذا قسم منه تعالى بالملائكة الكرام ، في حال عبادتها وتدبيرها ما تدبره بإذن ربها ، على ألوهيته تعالى وربوبيته ، فقال : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } أي : صفوفا في خدمة ربهم ، وهم الملائكة .
1- سورة الصافات هي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها كما ذكر صاحب الإتقان –بعد سورة " الأنعام " ( {[1]} ) .
ومعنى ذلك أن نزولها كان في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ، لأننا قد سبق لنا أن قلنا عند تفسيرنا لسورة الأنعام ، أنه يغلب على الظن أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة( {[2]} ) .
2- قال الآلوسي : هي مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا . وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين ، ومائة واثنتان وثمانون آية عند غيرهم( {[3]} ) .
وتعتبر هذه السورة –من حيث عدد الآيات- السورة الثالثة من بين السور المكية ، ولا يفوقها في ذلك سوى سورتي الأعراف والشعراء .
3- وسميت بهذا الاسم لافتتاحها بقوله –تعالى- : [ والصافات صفا ] . وقد سماها بعض العلماء بسورة " الذبيح " ، وذلك لأن قصة الذبيح لم تأت في سور أخرى سواها .
4- وقد افتتحت سورة " الصافات " بقسم من الله –تعالى- بجماعات من خلقه على أن الألوهية والربوبية الحقة إنما هي لله –تعالى- وحده ، ثم أقام –سبحانه- بعد ذلك ألوانا من الأدلة على صدق هذه القضية ، منها خلقه للسموات والأرض وما بينهما ، ومنها تزيينه لسماء الدنيا بالكواكب .
قال –تعالى- : [ والصافات صفا فالزاجرات زجرا . فالتاليات ذكرا . إن إلهكم لواحد . رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق . إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب . وحفظا من كل شيطان مارد ] .
5- ثم حكى –سبحانه- بعض الشبهات التي تذرع بها المشركون في إنكارهم للبعث والحساب ، ورد عليها بما يمحقها ، فقال –تعالى- : [ وقالوا إن هذا إلا سحر مبين . أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون . أو آباؤنا الأولون . قل نعم وأنتم داخرون . فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون ] .
6- وبعد أن بين –سبحانه- سوء عاقبة هؤلاء المشركين ، وتوبيخ الملائكة لهم ، وإقبال بعضهم على بعض للتساؤل والتخاصم . . بعد كل ذلك بين –سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين ، فقال –تعالى- [ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون : إلا عباد الله المخلصين . أولئك لهم رزق معلوم . فواكه وهم مكرمون . في جنات النعيم . على سرر متقابلين . يطاف عليهم بكأس من معين . بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ] .
7- ثم حكى –سبحانه- جانبا من المحاورات التي تدور بين أهل الجنة وأهل النار ، وكيف أن أهل الجنة يتوجهون بالحمد والشكر لخالقهم ، حيث أنعم عليهم بنعمة الإيمان ، ولم يجعلهم من أهل النار الذين يأكلون من شجرة الزقوم .
قال –تعالى- : [ إن هذا لهو الفوز العظيم . لمثل هذا فليعمل العاملون . أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم . إنا جعلناها فتنة للظالمين . إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رءوس الشياطين . فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ] .
8- ثم ساق –سبحانه- بعد ذلك جانبا من قصة نوح مع قومه ، ومن قصة إبراهيم مع قومه . ومع ابنه إسماعيل – عليهما السلام .
ومن قصة موسى وهارون وإلياس ولوط ويونس –عليهم الصلاة والسلام- .
9- ثم أخذت السورة الكريمة –في أواخرها- في توبيخ المشركين الذين جعلوا بين الله –سبحانه- وبين الملائكة نسبا ، ونزه –سبحانه- ذاته عن ذلك ، وهدد أولئك الكافرين بأشد ألوان العذاب بسبب كفرهم وأقوالهم الباطلة .
وبين بأن عباده المؤمنين هم المنصورون ، وختم –سبحانه- السورة الكريمة بقوله : [ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين ] .
10- والمتأمل في هذه السورة الله –تعالى- ، وعلى أن البعث حق ، وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، وذلك لكي تغرس العقيدة السليمة في النفوس . . كما يراها تهتم بحكاية أقوال المشركين وشبهاتهم . . ثم ترد على تلك الأقوال والشبهات بما يزهقها ويبطلها .
كما يراها –كذلك- تسوق ألوانا من المحاورات التي تدور بين المشركين فيما بينهم عندما يحيط بهم العذاب يوم القيامة ، وألوانا من المحاورات التي تدور بينهم وبين أهل الجنة الذين نجاهم الله –تعالى- من النار وسعيرها .
كل يراها –أيضا- تسوق لنا نماذج من قصص الأنبياء مع أقوامهم ، تارة بشيء من التفصيل كما في قصة إبراهيم مع قومه ، وتارة بشيء من التركيز والإجمال كما في بقية قصص الأنبياء الذين ورد الحديث عنهم فيها .
وتمتاز بعرضها للمعاني والأحداث بأسلوب مؤثر . ترى فيه قصر الفواصل وكثرة المشاهد ، والمواقف . مما يجعل القارئ لآياتها في شوق إلى ما تسوقه من نتائج .
نسأل الله –تعالى- أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وأنس نفوسنا .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الواو فى قوله - تعالى - : { والصافات } للقسم . وجوابه قوله : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ }
و { الصافات } من الصف ، وهو أن تجعل الشئ على خط مستقيم . تقول : صففت القوم فاصطفوا ، إذا أقمتهم على خط مستقيم . سواء أكانوا فى الصلاة ، أم فى الحرب ، أم فى غير ذلك .
اسمها المشهور المتفق عليه { الصافات } . وبذلك سميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف كلها ، ولم يثبت شيء عن النبي { ص } في تسميتها ، وقال في الإتقان : رأيت في كلام الجعبري أن سورة { الصافات } تسمى { سورة الذبيح } وذلك يحتاج إلى مستند من الأمر .
ووجه تسميتها باسم { الصافات } وقوع هذا اللفظ فيها بالمعنى الذي أريد به أنه وصف الملائكة وإن كان قد وقع في سورة { الملك } لكن بمعنى آخر إذ أريد هنالك صفة الطير ، على أن الأشهر أن { سورة الملك } نزلت بعد سورة الصافات .
وهي مكية بالاتفاق وهي السادسة والخمسون في تعداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الأنعام وقبل سورة لقمان .
وعدت آيها مائة واثنتين وثمانين عبد أكثر أهل العدد . وعدها البصريون مائة وإحدى وثمانين .
أغراضها إثبات وحدانية الله تعالى ، وسوق دلائل كثيرة على ذلك دلت على انفراده بصنع المخلوقات العظيمة التي لا قبل لغيره بصنعها وهي العوالم السماوية بأجزائها وسكنها ولا قبل لمن على الأرض أن يتطرق في ذلك .
إثبات أن البعث يعقبه الحشر والجزاء .
ووصف حال المشركين يوم الجزاء ووقوع بعضهم في بعض .
ووصف حسن أحوال المؤمنين ونعيمهم .
ومذاكرتهم فيما كان يجري بينهم وبين بعض المشركين من أصحابهم في الجاهلية ومحاولتهم صرفهم عن الإسلام .
ثم انتقل إلى تنظير دعوة محمد( ص ) قومه بدعوة الرسل من قبله ، وكيف نصر الله رسله ورفع شأنهم وبارك عليهم .
وأدمج في خلال ذلك شيء من مناقبه وفضائلهم وقوتهم في دين الله وما نجاهم الله من الكروب التي حفت بهم . وخاصة منقبة الذبيحة ، والإشارة إلى أنه إسماعيل .
ووصف ما حل بالامم الذين كذبوهم .
ثم الأنحاء على المشركين فساد معقتقداتهم في الله ونسبتهم اليه الشركاء .
وقولهم : الملائكة بنات الله ، وتكذيب الملائكة إياهم على رؤوس الأشهاد .
وقولهم في النبي ( ص ) والقرآن وكيف كانوا يودون أن يكون لهم كتاب .
ثم وعد الله رسوله بالنص كدأب المرسلين ودأب المؤمنين السابقين ، وأن عذاب الله نازل بالمشركين ، وتخلص العاقبة الحسنى للمؤمنين .
وكانت فاتحتها مناسبة لأغراضها بأن القسم بالملائكة مناسب لأثبات الوحدانية لأن الأصنام لم يدعوا لها ملائكة ، والذي تخدمه الملائكة هو الإله الحق ولأن الملائكة من جملة المخلوقات الدال خلقها على عظم الخالق ، ويؤذن القسم بأنها أشرف المخلوقات العلوية .
ثم إن الصفات التي لوحظت في القسم بها مناسبة للأغراض المذكورة بعدها ، ف{ الصافات } يناسب عظمة ربها ، و{ الزاجرات } يناسب قذف الشياطين عن السماوات ، ويناسب تسيير الكواكب وحفظها من أن يدرك بعضها بعضا ، ويناسب زجرها الناس في المحشر .
و{ التاليات ذكرا } يناسب أحوال الرسول والرسل عليهم الصلاة والسلام وما أرسلوا به إلى أقوامهم .
هذا وفي الافتتاح بالقسم تشويق إلى معرفة المقسم عليه ليقبل عليه السامع بشراشره .
القسم لتأكيد الخبر مَزيدَ تأكيد لأنه مقتضى إنكارهم الوحدانية ، وهو قسم واحد والمقسم به نوع واحد مختَلف الأصناف ، وهو طوائف من الملائكة كما يقتضيه قوله : { فالتَّالِيَاتِ ذِكْراً } .
وعطف « الصِّفات » بالفاء يقتضي أن تلك الصفات ثابتة لموصوف واحد باعتبار جهة ترجع إليها وحدته ، وهذا الموصوف هو هذه الطوائف من الملائكة فإن الشأن في عطف الأوصاف أن تكون جارية على موصوف واحد لأن الأصل في العطف بالفاء اتصال المتعاطفات بها لما في الفاء من معنى التعقيب ولذلك يعطفون بها أسماء الأماكن المتصللِ بعضها ببعض كقول امرىء القيس :
بِسِقط اللِّوَى بين الدَّخول فَحَوْمَل *** فتُوضِحَ فالمقرةِ . . . البيت
بمشارق الجبليين أو بمحجر *** فتضمنتها فَردَه فمرخاها
فصدائق إن أيْمَنت فمظنة *** . . . . . . . . . . . . . . . البيت
ويعطفون بها صفاتِ موصوف واحد كقول ابن زيَّابة :
يا لهف زيَّابة للحارث ال *** صابح فالغَانم فالآيب
يريد صفات للحارث ، ووصفه بها تهكماً به .
فعن جماعة من السلف : أن هذه الصفات للملائكة . وعن قتادة أن « التاليات ذكراً » الجماعة الذين يتلون كتاب الله من المسلمين . وقسَمُ الله بمخلوقاته يُومىء إلى التنويه بشأن المقسم به من حيث هو دَالّ على عظيم قدرة الخالق أو كونه مشرّفاً عند الله تعالى .
وتأنيث هذه الصفات باعتبار إجرَائها على معنى الطائفة والجماعة ليدل على أن المراد أصناف من الملائكة لا آحادٌ منهم .
و { الصافات } جمع : صافة ، وهي الطائفة المصطفّ بعضها مع بعض . يقال : صف الأمير الجيش ، متعدياً إذا جعله صفاً واحداً أو صفوفاً ، فاصطفوا . ويقال : فَصَفُّوا ، أي صاروا مصطفِّين ، فهو قاصر . وهذا من المطاوع الذي جاء على وزن فعله مثل قول العجاج :
وتقدم قوله : { فاذكروا اسم اللَّه عليها صَوافّ } في سورة [ الحج : 36 ] ، وقوله : { والطير صافات } [ النور : 41 ] .
ووصف الملائكة بهذا الوصف يجوز أن يكون على حقيقته فتكون الملائكة في العالم العلوي مصطفّة صفوفاً ، وهي صفوف متقدم بعضها على بعض باعتبار مراتب الملائكة في الفضل والقرب . ويجوز أن يكون كناية عن الاستعداد لامتثال ما يلقى إليهم من أمر الله تعالى قال تعالى ، حكاية عنهم في هذه السورة { وإنَّا لنحن الصَّافونَ وإنَّا لنحنُ المُسَبِحُونَ } [ الصافات : 165 ، 166 ] .