تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (115)

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }

يعني أن اللّه تعالى إذا منَّ على قوم بالهداية ، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم ، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه ، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه ، وتدعو إليه ضرورتهم ، فلا يتركهم ضالين ، جاهلين بأمور دينهم ، ففي هذا دليل على كمال رحمته ، وأن شريعته وافية بجميع ما يحتاجه العباد ، في أصول الدين وفروعه .

ويحتمل أن المراد بذلك { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ْ } فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له ، عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين ، والأول أولى .

{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ } فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، وبين لكم ما به تنتفعون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (115)

ثم بين - سبحانه - سنة من سننه العامة في خلقه ، وهى تدل على سعة رحمته ، ووافر عدله فقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ . . } .

أى : وما كان من شأن الله - تعالى - في لطفه وعدله . . أن يصف قوما بالضلال عن طريق الحق { بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } إلا الإِسلام ، لمجرد قول أو عمل صدر عنهم عن طريق الخطأ في الاجتهاد .

وإنما يصفهم بذلك بعد أن يبين لهم ما يبج اتقاؤه من الأقوال والأفعال ، فلا يطيعون أمره ، ولا يستجيبون لتوجيه - سبحانه - .

قال صاحب الكشاف : يعنى - سبحانه - أن أمر باتقائه واجتنا به كالاستغفار للمشركين وغيرهما مما نهى عنه وبين أنه محظور ، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإِسلام ، ولا يسميهم ضلالا ، إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم ، وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب . وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشر الخمر ، ولا بببيع الصاع بصاعين قبل التحريم .

وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه . وفى هذه الآية شديدة ما ينبغى أن يغفل عنها : وهى أن المهدى للإِسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله صار داخلا في حكم الإِضلال .

وقال صاحب المنار : أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن معسود كان يخطب أصحابه لك عشية خميس ثم يقول : فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل ، ولا يغدو لسوى ذلك ، فإن العالم والمتعلم شريكان في الخير . أيها الناس : إنى والله لا أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم ، وقد قال - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ . . } .

وقوله : { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعليل لما قبله ، أى إن الله - تعالى - عليم بكل شئ ، ولا يخفى عليه شئ من أقوال الناس وأفعالهم ، وسيحاسبهم يوم القيامة على ذلك ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (115)

عطف على جملة : { وما كان استغفار إبراهيم } [ التوبة : 114 ] لاعتذار عن النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رَجاءً منهما هُدى من استغفرا له ، وإعانة له إن كان الله يريده ، فلما تبين لهما الثابتُ على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له ، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له . ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله : { من بعدِ ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ] وقولِه : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [ التوبة : 114 ] . وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولي قرابتهم قبل هذا النهي . فهذا من باب { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] .

وفيه تسجيل أيضاً لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم إلا بعد أن أمهلوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغياناً .

ومعنى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها ، أي يتجنبوها . فهنالك يُبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح عليه السَّلام : { فلا تسألنِ ما ليس لك به علم } [ هود : 46 ] ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل .

ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة ، لأن الله لا يؤاخذ قوماً هداهم إلى الحق فيكتبهم ضُلالاً بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية ، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيّرها كلاماً جامعاً تذييلاً .

وجملة { إن الله بكل شيء عليم } تذييل مناسب للجملة السابقة ، ووقوع { إن } في أولها يفيد معنى التفريع . والتعليل مضمون للجملة السابقة ، وهو أن الله لا يضل قوماً بعد أن هداهم حتى يبين لهم الحق .