{ و } كذلك لقد تاب الله { عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } عن الخروج مع المسلمين ، في تلك الغزوة ، وهم : " كعب بن مالك " وصاحباه ، وقصتهم مشهورة معروفة ، في الصحاح والسنن .
{ حَتَّى إِذَا } حزنوا حزنا عظيما ، و { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : على سعتها ورحبها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } التي هي أحب إليهم من كل شيء ، فضاق عليهم الفضاء الواسع ، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه ، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج ، بلغ من الشدة والمشقة ما لا يمكن التعبير عنه ، وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء .
{ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ } أي : تيقنوا وعرفوا بحالهم ، أنه لا ينجي من الشدائد ، ويلجأ إليه ، إلا اللّه وحده لا شريك له ، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين ، وتعلقوا باللّه ربهم ، وفروا منه إليه ، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة .
{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي : أذن في توبتهم ووفقهم لها { لِيَتُوبُوا } أي : لتقع منهم ، فيتوب اللّه عليهم ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } أي : كثير التوبة والعفو ، والغفران عن الزلات والعصيان ، { الرَّحِيمِ } وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين ، في جميع اللحظات ، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية .
وفي هذه الآيات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات ، وأعلى النهايات ، فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده ، وامتن عليهم بها ، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها .
ومنها : لطف الله بهم وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة .
ومنها : أن العبادة الشاقة على النفس ، لها فضل ومزية ليست لغيرها ، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر .
ومنها : أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد ، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله ، فإن توبته مدخولة ، وإن زعم أنها مقبولة .
ومنها : أن علامة الخير وزوال الشدة ، إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقا تاما ، وانقطع عن المخلوقين .
ومنها : أن من لطف اللّه بالثلاثة ، أن وسمهم بوسم ، ليس بعار عليهم فقال : { خُلِّفُوا } إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم ، [ أو خلفوا عن من بُتّ في قبول عذرهم ، أو في رده ]{[387]} وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير ، ولهذا لم يقل : " تخلفوا " .
ومنها : أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق ، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال :
وكما تقبل الله - تعالى - توبة المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا رسولهم - صلى الله عليه وسلم - في ساعة السعرة . فقد تقبل توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن الاشتراك في غزوة تبوك ، فقال - تعالى - : { وَعَلَى الثلاثة الذين . . . } .
هذه الآية الكريمة معطوفة على الآية السابقة لها . والمعنى : لقد تقبل الله - تعالى - بفضله وإحسانه توبة النبى والمهاجرين والأنصار ، وتقبل كذلك توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن هذه الغزوة كسلا وحبا للراحة ، والذين سبق أن أرجأ الله حكمه فيهم بقوله { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ . . } وقوله : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ } كناية عن شدة تحيرهم ، وكثرهم حزنهم ، واستسلامهم لحكم الله فيهم .
أى : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض على سعتها ، بسبب إعراض الناس عنهم ، ومقاطعتهم لهم ، وضاقت عليهم أنفسهم ، بسبب الهم والغم الذي ملأها واعتقدوا أنهم ملجأ ولا مهرب لهم من حكم الله وقضائه إلا إليه .
حتى إذا كان كذلك ، جاءهم فرج الله ، حيث قبل توبتهم ، وغفر خطأهم وعفا عنهم .
وقوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } أى : بعد هذا التأديب الشديد لهم ، تقبل - سبحانه - توبتهم ، ليتوبوا إليه توبة نصوحا ، لا تكاسل معها بعد ذلك عن طاعة الله وطاعة رسوله ، إن الله - تعالى - هو الكثير القبول لتوبة التائبين ، وهو الواسع الرحمة بعباده المحسنين .
هذا ، والمقصود بهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ؛ وكلهم من الأنصار .
وقد ذكرت قصتهم في الصحيحين وفى غيرهما من كتب السنة والسيرة ، وهناك خلاصة لها :
قال الإِمام ابن كثير : روى الإِمام " أن كعب بن مالك قال ، لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزة غزاها قط إلا في تبوك .
وكان من خبرى حين تخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك . أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه في تلك الغزوة .
وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والضلال ، وتجهر لها المؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكى أتجهز معهم . فأرجع ولم أقض من جهازى شيئاً . . فأقول لنفسى أنا قادر على ذلك إذا أردت . . . ولم يزل ذلك شأنى أسرعوا وتفارظ الغزوة ، فهممت أن أرتحل فألحقهم - وليتنى فعلت - ولكن لم يقدر لى ذلك .
ولم يذكرنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك فقال : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بنى سلمة : حبسه برداه والنظر في عطفيه .
فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت . والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال كعب : فلما بلغنى أن رسول الله قد توجه قافلا من تبوك ، حضرنى بثى ، وطفقت أتذكر الكذب وأقوال بماذا أخرج من سخط غدا ؟ .
وعندما عاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه . . وجئت إليه فقال : تعالى . . ما خلفك ؟ ! ألم تكن قد اشتريت ظهرا ؟
فقلت يا رسول الله ؛ إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر . والله لقد علمت لئن حدثتك اليم بحديث كذاب ترضى به عنى ، ليوشكن الله أن يسخطك على . ولئن حدثتك بصدق تغضب على فيه ، إنى لأرجو عقبى ذلك من الله - تعالى - والله ما كان لى من عذر .
قال - صلى الله عليه وسلم - أما هذا فقد صدق . فقم حتى يقضى الله فيك . وكان هناك رجلان قد قالا مثل ما قلت هما مرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية .
قال : ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامنا ، فاعتزلنا الناس وتغيروا لنا . . . ولبثنا على ذلك خمسين ليلة . . . . ثم أمرنا أن نعتزل نساءنا ففعلنا .
قال : ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتها فبينا أنا على الحال التي ذكرها الله عنا ، قد ضاقت على نفسى . . سمعت صراخا يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك .
وذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبشر بخير يوم مر عليك منذر ولدتك أمك . قال : وأنزل الله - تعالى - { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } "
قال الإِمام ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث بتمامه : هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا جانبا من فضل الله على عباده ، حيث قبل توبتهم ، وغسل حوبتهم . إنه بهم رءوف رحيم .
{ وعلى الثلاثة } معطوف { على النبي } [ التوبة : 117 ] بإعادة حرف الجر لبُعد المعطوف عليه ، أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا . وهؤلاء فريق له حالة خاصة من بين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك غير الذين ذكروا في قوله : { فرح المخلفون بمقعدهم } [ التوبة : 81 ] الآية ، والذين ذكروا في قوله : { وجاء المعذرون } [ التوبة : 90 ] الآية .
والتعريف في { الثلاثة } تعريف العهد فإنهم كانوا معروفين بين الناس ، وهم : كَعب بن مالك من بني سَلِمَة ، ومُرارة بن الربيع العَمْري من بني عَمرو بن عَوْف ، وهلال بن أمية الواقفي من بني واقف ، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر . ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعترفوا بذنبهم وحزنوا . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم ، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم . ثم عفا الله عنهم بعد خمسين ليلة . وحديث كعب بن مالك في قصته هذه مع الآخرين في « صحيح البخاري » و« صحيح مسلم » طويل أغر وقد ذكره البغوي في « تفسيره » .
و { خلفوا } بتشديد اللام مضاعف خَلَف المخفف الذي هو فعل قاصر ، معناه أنه وراء غيره ، مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء . والمقصود بَقي وراء غيره . يقال : خَلَف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشيء يَخْلُف بضم اللام في المضارع ، فمعنى { خُلِّفوا } خَلّفهم مُخَلِّف ، أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم . فيجوز أن يكون { خلفوا } بمعنى خلَّفوا أنفسهم على طريقة التجريد . ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفاً مجازياً استعير لتأخير البت في شأنهم ، أي الذين خُلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا آيسهم من التوبة كما آيس المنافقين . فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء . وبهذا التفسير فَسره كعب بن مالك في حديثه المروي في « الصحيح » فقال : وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا عن الغزو وإنما تخليفُه إياناً وإرجاؤه أمرنا عَمَّن حَلَف له واعتذر إليه فقُبل منه . اه .
يعني ليس المعنى أنهم خَلَّفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلَّفهم أحد ، أي جعلهم خَلْفاً وهو تخليف مجازي ، أي لم يُقض فيهم . وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو الله تعالى .
وبناء فعل { خلفوا } للنائب على ظاهره ، فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم .
وتعليق التخليف بضمير { الثلاثة } من باب تعليق الحكم باسم الذات . والمراد : تعليقه بحاللٍ من أحوالها يعلم من السياق ، مثلُ { حُرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] .
وهذا الذي فَسَّر كعب به هو المناسب للغاية بقوله : { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت } لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيقِ أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف ، وليس غايةً لتخلفهم عن الغزو ، لأن تخلفهم لا انتهاء له .
وضيق الأرض : استعارة ، أي حتى كانت الأرض كالضَّيقة عليهم ، أي عندهم . وذلك التشبيه كناية عن غمهم وتنكر المسلمين لهم . فالمعنى أنهم تخيلوا الأرض في أعينهم كالضيقة كما قال الطرماح :
مَلأتُ عليه الأرض حتى كأنها *** من الضيق في عينيه كِفَّة حَابل
وقوله : { بما رحبت } حال من { الأرض } . والباء للملابسة ، أي الأرض الملابسة لسعتها المعروفة . و { ما } مصدرية .
{ ورحُبت } اتسعت ، أي تخيلوا الأرض ضيقة وهي الأرض الموصوفة بسعتها المعروفة .
وضيق أنفسهم : استعارة للغم والحزن لأن الغم يكون في النفس بمنزلة الضيق . ولذلك يقال للمحزون : ضاق صدره ، وللمسرور : شُرح صدره .
والظن مستعمل في اليقين والجَزمِ ، وهو من معانيه الحقيقية . وقد تقدم عند قوله تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } في سورة البقرة ( 46 ) وعند قوله تعالى : { وإنّا لنظنك من الكاذبين } في سورة الأعراف ( 66 ) ، أي وأيقنوا أن أمر التوبة عليهم موكول إلى الله دون غيره بما يُوحي به إلى رسوله ، أي التجأوا إلى الله دون غيره . وهذا كناية عن أنهم تابوا إلى الله وانتظروا عفوه .
وقوله : ثم تاب عليهم } عطف على ضاقت عليهم الأرض وما بعده ، أي حتى وقع ذلك كله ثم تاب عليهم بعده .
و{ ثُم } هنا للمهلة والتراخي الزمَني وليست للتراخي الرتبي ، لأن ما بعدها ليس أرفع درجة مما قبلها بقرينة السياق ، وهو مغن عن جواب ( إذا ) لأنه يفيد معناه ، فهو باعتبار العطف تنهية للغاية ، وباعتبار المعطوف دال على الجواب .
واللام في { ليتوبوا } للتعليل ، أي تاب عليهم لأجل أن يكفوا عن المخالفة ويتنزهوا عن الذنب ، أي ليدوموا على التوبة ، فالفعل مستعمل في معنى الدوام على التلبس بالمصدر لا على إحداث المصدر .
وليس المراد ليذنبوا فيتوبوا ، إذ لا يناسب مقام التنويه بتوبته عليهم . وجملة { إن الله هو التواب الرحيم } تذييل مفيد للامتنان .