ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاما يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود . فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة .
فيغفر له ما صدر منه من الذنب ، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب ، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة ، ويوفقه فيما يستقبله من عمره ، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه ، لأنه قد غفره ، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه .
واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي ، الصغيرة والكبيرة ، وسمي " سوءًا " لكونه يسوء عامله بعقوبته ، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن .
وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه . ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه ، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس ، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم .
ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده ، وسمي ظلم النفس " ظلما " لأن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء ، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل ، بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملاً ، فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب ، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل ، الذي ضده الجور والظلم .
ثم فتح - سبحانه - بعد هذا التوبيخ الشديد للخائنين - باب التوبة لعباده فقال : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أى : ومن يعمل عملا سيئا يؤذى به غيره كما فعل طعمة باليهودى ، أو يظلم نفسه باتركاب الفواحش ، التى يعود معظم ضررها على نفسه كشرب الخمر ، وترك فرائض الله التى فرضها على عباده ؛ ثم بعد كل ذلك { يَسْتَغْفِرِ الله } بأن يتوب إليه توبة صادقة نصوحا " يجد الله " بفضله وكرمه { غَفُوراً رَّحِيماً } أى كثير الغفران لعباده التائبين ، واسع الرحمة إليهم .
والمراد بظلم النفس : الأعمال السيئة التى يعود ضررها ابتداء على فاعلها نفسه كشرب الخمر ، وترك الصلاة أو الصيام وما يشبه ذلك .
وإنما فسروا كل جملة بهذا التفسير للآخر لوجود المقابلة بينهما .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا } أى عملا قبيحا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودى { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بما يختص به كالحلف الكاذب . وقيل ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك . وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذنب عنه .
والتعبير " بثم " فى قوله { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } للإِشارة إلى ما بين المعصية والاستغفار من تفاوت معنوى شاسع . إذ المعصية تؤدى بفاعلها إلى الخسران أما الاستغفار الذى تصحبه التوبة الصادقة فيؤدى إلى الفلاح والسعادة .
وقوله { يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } يفيد أن الله - تعالى - يستجيب لطلب الغفران من عبده متى تاب إليه وأناب ، لأنه - سبحانه - قد وصف نفسه بأن كثير المغفرة والرحمة لعباده متى أقبلوا على طاعته بقلب سليم ، ونية صادقة .
ولما تمكن هذا الوعيد وقضت العقول بأن لا مجادل لله ولا وكيل يقوم بأمور العصاة عنده ، عقب ذلك هذا الرجاء العظيم ، والمهل المنفسح بقوله تعالى : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله } الآية ، منحنى من عمل السوء ، وهما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة ، واستغفار الله تعالى مع التحقيق في ذلك توبة وقوله تعالى : { يجد الله } استعارة ، لما كانت الرحمة والغفران معدة للمستغفرين التائبين ، كانوا كالواجدين لمطلوب ، وكأن التوبة ورود على رحمة الله وقرب من الله ، وقال عبد الله بن مسعود يوماً في مجلسه : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتبت كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئاً من ثيابه قرضه بالمقراضين ، فقال رجل من القوم : لقد آتى الله بني إسرائيل خيراً ، فقال عبد الله : ما آتاكم الله خير مما آتاهم ، جعل لكم الماء طهوراً ، وقال { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } الآية وهذه آية وعد بشرط المشيئة على ما تقتضيه عقيدة أهل السنة ، وفضل الله مرجو وهو المستعان{[4277]} .
اعتراض بتذييل بين جملة { هَأنتم هَؤلاء جادلتم عنهم } وبين جملة : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمَّت طائفة منهم أن يُضلّوك } [ النساء : 109 113 ] .
وعَمل السوء هو العصيان ومخالفة ما أمر به الشرع ونهى عنه . وظلم النفس شاع إطلاقه في القرآن على الشرك والكفر ، وأطلق أيضاً على ارتكاب المعاصي . وأحسنُ ما قيل في تفسير هذه الآية : أنّ عمل السوء أريد به عمل السوء مع الناس ، وهو الاعتداء على حقوقهم ، وأنّ ظلم النفس هو المعاصي الراجعة إلى مخالفة المرء في أحواله الخاصّة ما أمر به أو نُهيَ عنه .
والمراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من اللَّهِ عمّا مضى من الذنوب قبل التوبة ، ومعنى { يجد الله غفوراً رحيماً } يتحقّق ذلك ، فاستعير فعل { يجد } للتحقّق لأنّ فعل وَجد حقيقته الظَفَر بالشيء ومشاهدته ، فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة . ومعنى { غفوراً رحيماً } شديد الغفران وشديد الرحمة وذلك كناية عن العموم والتعجيل ، فيصير المعنى يجد الله غافراً له راحماً له ، لأنّه عامّ المغفرةِ والرحمةِ فلا يخرج منها أحد استغفره وتاب إليه ، ولا يتخلّف عنه شمول مغفرته ورحمته زَمناً ، فكانت صيغة { غفوراً رحيماً } مع { يجد } دَالَّةً على القبول من كلّ تائب بفضل الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عرض على طعمة التوبة فقال: {ومن يعمل سوءا}، يعني إثما، {أو يظلم نفسه}، يعني قذف البريء أبا مليك، {ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومن يعمل ذنبا، وهو السوء، أو يظلم نفسه بإكسابه إياها ما يستحقّ به عقوبة الله، {ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ}: ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جُرمه، {يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما}: يجد ربه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبته جرمه، رحيما به.
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية؛
فقال بعضهم: عني بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ}.
وقال آخرون: بل عني بها الذين يجادلون عن الخائنين، الذين قال الله لهم: {ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنْيا} وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنه عنى بها كل من عمل سوءا أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرهم في الآيات قبلها.
عن ابن عباس، قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما} قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه، وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب صغيرا كان أو كبيرا، ثم يستغفر الله، يجد الله غفورا رحيما، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {ومن يعمل سواء أو يظلم نفسه} هما سواء؛ أي من عمل سوءا فقد ظلم نفسه، ومن ظلم نفسه فقد عمل سوءا. ويحتمل ما قال ابن عباس: {ومن يعمل سوءا} إلى الناس، {أو يظلم نفسه} في ما بينه وبين الله. ثم روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أرجى آية في القرآن هذه: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه}...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
ثم استأنف وقال {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً} يعني يسرق الدرع {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} برميه البريء في السرقة. يقال: ومن يعمل سوءاً أي شركاً أو يظلم نفسه يعني بما دون الشرك {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ}: يتوب إلى الله {يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} متجاوزاً {رَّحِيماً} به حين قبل توبته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَن يَعْمَلْ سواءا} قبيحاً متعدياً يسوء به غيره، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به كالحلف الكاذب... وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة، مع العلم بما يكون منه. أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذبّ عنه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما تمكن هذا الوعيد وقضت العقول بأن لا مجادل لله ولا وكيل يقوم بأمور العصاة عنده، عقب ذلك هذا الرجاء العظيم، والمهل المنفسح بقوله تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله} الآية، منحنى من عمل السوء، وهما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة، واستغفار الله تعالى مع التحقيق في ذلك توبة وقوله تعالى: {يجد الله} استعارة، لما كانت الرحمة والغفران معدة للمستغفرين التائبين، كانوا كالواجدين لمطلوب، وكأن التوبة ورود على رحمة الله وقرب من الله...
والمراد بالسوء: القبيح الذي يسوء به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع ومن رمى اليهودي بالسرقة، والمراد بظلم النفس ما يختص به الإنسان كالحلف الكاذب، وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالا للضرر إلى الغير، والضرر سوء حاضر، فأما الذنب الذي يخص الإنسان فذلك في الأكثر لا يكون ضررا حاضرا لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه.
واعلم أن هذه الآية دالة على حكمين:
الأول: أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب سواء كانت كفرا أو قتلا، عمدا أو غصبا للأموال لأن قوله {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه} عم الكل. الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف، وقال بعضهم: أنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار. وقوله {يجد الله غفورا رحيما} معناه غفورا رحيما له، وحذف هذا القيد لدلالة الكلام عليه، فإنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وقيل: السوء الذنب الصغير، وظلم النفس الذنب الكبير...
والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصي على مجرد الاستغفار وأنه كاف، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة. وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة، وخص بعضهم ذلك بأنْ تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه، دون ما بينه وبين العبيد. وقيل: الاستغفار التوبة. وفي لفظة: يجد الله غفوراً رحيماً، مبالغة في الغفران...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نهى عن نصرة الخائن وحذر منها، ندب إلى التوبة من كل سوء فقال -عاطفاً على ما تقديره: فمن يصر على مثل هذه المجادلة يجد الله عليماً حكيما-: {من يعمل سوءاً} أي قبيحاً متعدياً يسوء غيره شرعاً، عمداً- كما فعل طعمة -أو غير عمد {أو يظلم نفسه} بما لا يتعداه إلى غيره شركاً كان أو غيره، أو بالرضى لها بما غيره أعلى منه، ولم يسمه بالسوء لأنه لا يقصد نفسه بما يضرها في الحاضر {ثم يستغفر الله} أي يطلب من الملك الأعظم غفرانه بالتوبة بشروطها {يجد الله} أي الجامع لكل كمال {غفوراً} أي ممحيّاً للزلات {رحيماً} أي مبالغاً في إكرام من يقبل إليه "من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة "روى إسحاق بن راهويه عن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو يعلى الموصلي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية نسخت {من يعمل سوءاً يجز به} [النساء: 123] وأنها نزلت بعدها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا بيان للمخرج من الذنب بعد وقوعه. والسوء ما يسوء أي ما يترتب عليه الغم والكدر، وفسروه بالذنب مطلقا لأن عاقبته تسوء ولو عند الجزاء. وهذه الآيات تشير إلى كل نوع من أنواع الذنوب التي ارتكبت في القصة التي نزل السياق بسببها.
هذه الآيات تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدم ركنهما وهذا الركن هو المقصود من الشرائع، وإنما يمتثل هذا التحذير بالاجتهاد وتحري العدل وعدم الاغترار بظواهر الخصماء. والسوء ما يسوء به الإنسان غيره، والظلم ما كان ضرره خاصا بالعامل كترك الفريضة (أي هذا هو المراد بهما هنا) والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى ويتضمن ذلك لازمه وهو الشعور بقبح الذنب والتوبة منه. ولسيدنا علي كرم الله وجهه وجه خطبة في تفسير الاستغفار بالتوبة التي تذيب الشحم وتفني العظم. ومعنى وجدانه الله غفورا رحيما: أن الله أكرم من أن يرد توبة عبده إذا اطلع على قلبه وعرف منه الصدق والإخلاص.
ولعل المراد بوجدان الله غفورا رحيما هو أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة في نفسه بكراهة الذنب وذهاب داعيته، ويجد أثر الرحمة بالرغبة في الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل ذلك الدرن منها. فيكون السوء أو الظلم الذي تاب منه العبد مصداقا لقول ابن عطاء الله الإسكندري:"رب معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا" والمراد الذل والانكسار لله عز وجل الذي يورث صاحبه العزة والرفعة مع غيره. وفي الآية ترغيب لطعمة وأنصاره في التوبة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
اعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة، وسمي "سوءًا "لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن. وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه. ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم. ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده، وسمي ظلم النفس "ظلما" لأن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين. هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بواب! حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفورا رحيما..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من اللَّهِ عمّا مضى من الذنوب قبل التوبة، ومعنى {يجد الله غفوراً رحيماً} يتحقّق ذلك، فاستعير فعل {يجد} للتحقّق لأنّ فعل وَجد حقيقته الظَفَر بالشيء ومشاهدته، فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة. ومعنى {غفوراً رحيماً} شديد الغفران وشديد الرحمة وذلك كناية عن العموم والتعجيل، فيصير المعنى يجد الله غافراً له راحماً له، لأنّه عامّ المغفرةِ والرحمةِ فلا يخرج منها أحد استغفره وتاب إليه، ولا يتخلّف عنه شمول مغفرته ورحمته زَمناً، فكانت صيغة {غفوراً رحيماً} مع {يجد} دَالَّةً على القبول من كلّ تائب بفضل الله.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
السوء هو الأمر الذي يحدث غما وألما، سواء أكان لفاعله أم لغير فاعله،... ولا بد أن نذكر بإجمال عبارات في بعض الإشارات البيانية القرآنية: الأولى: عن التعبير بقوله تعالى {ومن يعمل سوءا} فإن هذا التعبير يشير إلى أن نفسه لم تركس في الشر، ولم يستغرقها، بل إنه عمل عارض، ولذا كان التعبير {يعمل}، وهذا في مقابل قوله في الطبقة الثانية: {يكتسب}، فإن الكسب كما تبين يشير إلى تدنس النفس وارتكاسها في الشر، أما العمل ففي ظاهر الأمر لا يتجاوز الجوارح ولذا كانت التوبة قريبة وكان الاستغفار غير بعيد. الثانية: أن التعبير عن المعاصي الشخصية التي لا تتعدى صاحبها ابتداء بظلم النفس، فيه معان واضحة، فهي تفيد أن كل ما نهى الله عنه فلمصلحة العبد، فإن تجاوز حدود ما نهى الله عنه فقد وقع في ضرر مؤكد. وفيه تنبيه إلى أن المعاصي سواء أكانت إيجابية كشرب الخمر أم سلبية كترك الصلاة والصوم، مغبة وقوعها تكون على العبد ابتداء، ثم تكون على غيره من بعد...
الثالثة: أن التعبير ب "ثم "في قوله تعالى: {ثم يستغفر الله} للإشارة إلى تفاوت ما بين المعصية والاستغفار فالتراخي الذي عليه كلمة "ثم" تفاوت معنوي وليس بتراخ زمني لأن من يعمل السوء أو يظلم نفسه من غير أن يحيط بالنفس، توبته قريبة، كما قال تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17)} (النساء)...
فالتوبة من الله، مشروعية وقبولا إنما هي حماية للبشر من شراسة من يصنع أول ذنب. وهكذا جاءت التوبة لتحمي الناس من شراسة أهل المعصية الذين بدأوا بمعصية واحدة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في ذلك إيحاء للإنسان بأن الخطيئة ليست ضريبةً لازمة للخاطئ، بل هي حالة طارئة يمكنه أن يتجاوزها إلى حيث الطاعة والرضوان بالاستغفار الذي يعبر عن الندم والتوبة وإرادة التغيير، والتصميم على أن يصحح الإنسان نفسه وطريقه، كوسيلة من وسائل السمو بالنفس الإنسانية إلى آفاق الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد بيّنت هذه الآيات الثلاث، ثلاثة أحكام كلية بعد أن تطرقت الآيات السابقة إِلى مسائل خاصّة بالخيانة والتهمة.
-لقد وردت في الآية (110) من الآيات الثلاث أعلاه الإِشارة أوّلاً إِلى هذه الحقيقة وهي أن باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال، فإِذا ارتكب أحد ظلماً بحقّ نفسه أو غيره، وندم حقيقة على فعلته، أو استغفر الله لذنبه، وكفّر عن خطيئته فيجد الله غفوراً رحيماً، حيث تقول الآية: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً).
- يجب الانتباه إِلى أنّ الآية الأُولى تشير إِلى نوعين من الذنوب، حيث جاءت فيها كلمة «سوء» وكلمة «الظلم» للنفس، ولدى النظر إِلى قرينة المقابلة، وكذلك الأصل اللغوي لعبارة «سوء» التي تعني هنا الإِضرار بالغير، يفهم من الآية أنّ أي نوع من الذنوب سواء كانت من نوع الإِضرار بالغير، أو الإِضرار بالنفس قابلة للغفران إِذا تاب فاعلها توبة حقيقية وسعى إِلى التكفير عنها...
ويفهم أيضاً من العبارة القرآنية: (يجد الله غفوراً رحيماً) إنّ التوبة الحقيقية لها من الأثر بحيث يجد الإِنسان التائب نتيجتها في باطن نفسه، فمن ناحية فإنّ تأنيب الضمير الذي يخلقه ارتكاب الذّنب يزول عن المذنب التائب نظراً للغفران الذي يناله من الله الغفور، ومن جانب آخر يحسّ الإِنسان التائب بالقرب إِلى الله بسبب رحمته سبحانه وتعالى بعد أن كان يحس بالبعد عنه بسبب الذنب الذي ارتكبه...