تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

{ 42 } { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

يخبر تعالى أنه المتفرد بالتصرف بالعباد ، في حال يقظتهم ونومهم ، وفي حال حياتهم وموتهم ، فقال : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } وهذه الوفاة الكبرى ، وفاة الموت .

وإخباره أنه يتوفى الأنفس وإضافة الفعل إلى نفسه ، لا ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت وأعوانه ، كما قال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } لأنه تعالى يضيف الأشياء إلى نفسه ، باعتبار أنه الخالق المدبر ، ويضيفها إلى أسبابها ، باعتبار أن من سننه تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من الأمور سببا .

وقوله : { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } وهذه الموتة الصغرى ، أي : ويمسك النفس التي لم تمت في منامها ، { فَيُمْسِكُ } من هاتين النفسين النفس { الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } وهي نفس من كان مات ، أو قضي أن يموت في منامه .

{ وَيُرْسِلُ } النفس { الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : إلى استكمال رزقها وأجلها . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } على كمال اقتداره ، وإحيائه الموتى بعد موتهم .

وفي هذه الآية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه ، مخالف جوهره جوهر البدن ، وأنها مخلوقة مدبرة ، يتصرف اللّه فيها في الوفاة والإمساك والإرسال ، وأن أرواح الأحياء والأموات تتلاقى في البرزخ ، فتجتمع ، فتتحادث ، فيرسل اللّه أرواح الأحياء ، ويمسك أرواح الأموات .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، ونفاذ مشيئته فقال - تعالى - : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا . . . } .

أى : الله - بقدرته وحدها يقبض أرواح مخلوقاته حين انتهاء آجالها بأن يقطع تعلقها بالأجسام قطعا كليا ، ويسلب هذه الأجسام والأبدان ما به قوام حياتها ، بأن تصير أجساما هامدة لا إدراك لها . ولا حركة فيها .

وقوله - تعالى - : { والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } معطوف على الأنفس ، أى : يسلب الحياة عن الأنفس التى انتهى أجلها سلبا ظاهرا وباطنا ، ويسلب الحياة عنها سلبا ظاهرا فقط فى حال نومها ، إذ أنها فى حالة النوم تشبه الموتى من حيث عدم التمييز والتصرف .

فالآية الكريمة تشير إلى أن التوفى للأنفس أعم من الموت ، إذ أن هناك وفاتين . وفاة كبرى وتكون عن طريق الموت ، ووفاة صغرى وتكون عن طريق النوم . كما قال - تعالى - { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل . . . } أى : يجعلكم تنامون فيه نوما يشبه الموت فى انقطاع الإدراك والإحساس .

وقوله - تعالى - : { فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } بيان لحالة الأنفس التى انتهى أجلها ، والتى لم ينته أجلها بعد .

أى : الله - تعالى - وحده هو الذى يتوفى الأنفس حين الموت ، وحين النوم ، أما الأنفس التى انتهى أجلها فيمسك - سبحانه - أرواحها إمساكا تاما بحيث لا تعود إلى أبدانها مرة أخرى ، وأما التى لم يحن وقت موتها ، فإن الله - تعالى - يعيدها إلى أبدانها عند اليقظة من نومها ، وتستمر على هذه الحالة إلى أجل مسمى فى علمه - تعالى - فإذا ما انتهى أجلها الذى حدده - سبحانه - لها ، خرجت تلك الأرواح من أبدانها خروجا تاما ، كما هو الشأن فى الحالة الأولى .

ولا شك أن الله - تعالى - الذى قدر على ذلك ، قادر أيضا - على إعادة الأرواح إلى أجسادها عند البعث والنشور يوم القيامة .

فالآية الكريمة مسوقة لبيان كما قدرة الله - تعالى - ولبيان أن البعث حق ، وأنه يسير على قدرة الله التى لا يعجزها شئ .

ولا منافاة بين هذه الآية التى صرحت بأن الله - تعالى - هو الذى يتوفى الأنفس عند موتها ، وبين قوله - تعالى - : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت . . . } وقوله - تعالى - { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا . . . } لأن المتوفى فى الحقيقة هو الله - تعالى - وملك الموت إنما يقبض الأرواح بإذنه - سبحانه - ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الأرواح بأمره المستمد من أمر الله - عز وجل - .

قال القرطبى : " فإذا يقبض الله الروح فى حالين : فى حالة النوم وحالة الموت ، فما قبضه فى حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شئ مقبوض . وما يقبضه فى حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة .

وفى الآية تنبيه على عظيم قدرته ، وانفراده بالألوهية ، وأنه يفعل ما يشاء ويحيى ويميت ، ولا يقدر على ذلك سواه .

واسم الإشارة فى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يعود إلى المذكور من التوفى والإِمساك والإرسال .

أى : إن فى ذلك الذى ذكرناه لكم من قدرتنا على توفى الأنفس وإمساكها وإرسالها ، لآيات بينات على وحدانيتنا وقدرتنا ، لقوم يحسنون التأمل والتفكير والتدبر ، فيما أرشدناهم إليه وأخبرناهم به .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبر تدل الناظر على الوحدانية وأن ذلك لا شرك{[9903]} فيه لصنم وهي حالة التوفي ، وذلك أن الله تعالى ما توفاه على الكمال فهو الذي يموت ، وما توفاه متوفياً غير مكمل فهو الذي يكون في النوم ، قال ابن زيد : النوم وفاة ، والموت وفاة . وكثرت فرقة في هذه الآية وهذا المعنى . ففرقت بين النفس والروح ، وفرق قوم أيضاً بين نفس التمييز ونفس التخيل ، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي غلبة ظن . وحقيقة الأمر في هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن عباده في قوله : { قل الروح من أمر ربي }{[9904]} [ الإسراء : 85 ] ويكفيك أن في هذه الآية { يتوفى الأنفس } ، وفي الحديث الصحيح : «إن الله قبض أرواحنا حين شاء وردها علينا حين شاء » في حديث بلال في الوادي{[9905]} ، فقد نطقت الشريعة بقبض الروح والنفس في النوم وقد قال الله تعالى : { قل الروح من أمر ربي }{[9906]} [ الإسراء : 85 ] فظاهر أن التفصيل والخوض في هذا كله عناء وإن كان قد تعرض القول في هذا ونحوه أئمة ، ذكره الثعلبي وغيره عن ابن عباس أنه قال : في ابن آدم نفس بها العقل والتمييز ، وفيه روح به النفس والتحرك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه . والأجل المسمى في هذه الآية : هو عمر كل إنسان .

وقرأ جمهور القراء «قَضى عليها » بفتح القاف على بناء الفعل للفاعل . وقرأ حمزة والكسائي «قُضي » بضم القاف على بنائه للمفعول ، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى . ثم أحال أهل الفكرة على النظر في هذا ونحوه فأنه من البين أن هذه القدرة لا يملكها ويصرفها إلا الواحد الصمد ، لا رب غيره .


[9903]:شرك هنا مصدر: شرك، يقال: شرك زيد فلانا في الأمر شركا، وشركة، وشِركة: كان لكل منهما نصيب منه، فهو شريك.
[9904]:من الآية(85) من سورة (الإسراء).
[9905]:أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، عن أبي قتادة رضي الله عنه، ولفظه كما في (الدر المنثور):(إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي: إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء)، ويفسر السبب في ذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقلت: أنا، فنام ونام الناس ونمت، فلم نستيقظ إلا بحر الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أيها الناس، إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد، فيقبضها إذا شاء ويرسلها إذا شاء).
[9906]:من الآية(85) من سورة (الإسراء).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{الله يتوفى الأنفس حين موتها}: عند أجلها، يعني التي قضى الله عليها الموت، فيمسكها على الجسد في التقديم.

{والتي لم تمت في منامها} فتلك الأخرى التي يرسلها إلى الجسد.

{فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات} لعلامات.

{لقوم يتفكرون} في أمر البعث.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ومن الدلالة على أن الألوهة لله الواحد القهار خالصة دون كلّ ما سواه، أنه يميت ويحيي، ويفعل ما يشاء، ولا يقدر على ذلك شيء سواه فجعل ذلك خبرا نبههم به على عظيم قُدرته، فقال:"اللّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" فيقبضها عند فناء أجلها، وانقضاء مدة حياتها، ويتوفى أيضا التي لم تمت في منامها، كما التي ماتت عند مماتها، "فَيُمْسِكُ التي قَضَى عَلَيْها المَوْتَ"؛ ذُكر أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها "إلى أجل مسمى "وذلك إلى انقضاء مدة حياتها...

وقوله: "إنّ فِي ذلكَ لآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ" يقول تعالى ذكره: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعدُ نَفْسَ هذا ترجع إلى جسمها، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرةً وعظة لمن تفكر وتدبر، وبيانا له أن الله يحيي من يشاء من خلقه إذا شاء، ويميت من شاء إذا شاء.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

يحتمل أن يكون المراد بهذا أن الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلها موصوفا بهذه القدرة وبهذه الحكمة، وأن لا يعبد الأوثان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك،...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

يرسل الأنفس النائمة وإرسالها هو ردها إلى الدنيا، والأجل المسمى هو أجل الموت الحقيقي، وقد تكلم الناس في النفس والروح وأكثروا القول في ذلك بالظن دون تحقيق، والصحيح أن هذا مما استأثر الله بعلمه لقوله: {قل الروح من أمر ربي}

[الإسراء:85]...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادراً عليه بطريق من الطرق، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت، لم تصح وكالة أحد من الخلق فيه، وكان كأنه قيل: لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله، فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب، فهي تسلية له صلى الله عليه وسلم، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلاً، فقال: {الله} أي الذي له مجامع الكمال، وليس لشائبة نقص إليه سبيل.

{يتوفى الأنفس} التي ماتت عند انقضاء آجالها، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها.

{حين موتها} أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له، وعطف على الأنفس قوله: {والتي} أي ويتوفى الأنفس التي.

{لم تمت} لأنها لم تنقض آجالها حين نومها كائنة {في منامها} بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجوداً مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة، فالجامع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف، ولو قيل: بموتها وبمنامها، لم يفد أن كلاًّ من الموت والوفاة آية مغايرة للأخرى.

ولما كان النوم منقضياً، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضاً منقض ولا بد؛ لأن الفاعل لكل منهما واحد، فسبب عن ذلك قوله: {فيمسك} أي فيتسبب عن الوفاتين أنه يمسك عنده.

{التي قضى} أي ختم وحكم وبت بتاً مقدراً مفروغاً منه، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة.

{عليها الموت} مظروفة لمماتها، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطاً بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطاً بها.

{ويرسل الأخرى} أي التي أخر موتها، وجعلها مظروفة للمنام؛ لأنها لم ينقض أجلها الذي ضربه لها بأن يفنى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها، ويجعل ذلك الإمساك للميتة، والإرسال للنائمة.

{إلى أجل مسمى} لبعث الميتة ولموت النائمة، لا يعلمه غيره، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعاً السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح، قال ابن الصلاح في فتاويه: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة -انتهى. روى الطبراني في الأوسط- قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح -عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال: تلتقي أرواح الأحياء والأموات، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل" باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين "

"وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك: ذكر الحين أولاً دليلاً على تقدير مثله في النوم ثانياً، والمنام ثانياً دليلاً على حذف الممات أولاً. ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع، والنظم المنيع، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكداً قرعاً بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الوفاة والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه {لآيات}.

{لقوم} أي ذوي قوة في مزاولة الأمور.

ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال: {يتفكرون} أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

إخباره أنه يتوفى الأنفس وإضافة الفعل إلى نفسه، لا ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت وأعوانه، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} لأنه تعالى يضيف الأشياء إلى نفسه، باعتبار أنه الخالق المدبر، ويضيفها إلى أسبابها، باعتبار أن من سننه تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من الأمور سببا...

وفي هذه الآية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه، مخالف جوهره جوهر البدن، وأنها مخلوقة مدبرة، يتصرف اللّه فيها في الوفاة والإمساك والإرسال.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

يصلح هذا أن يكون مثَلاً لحال ضلال الضالين وهُدى المهتدين نشأ عن قوله:

{فمن اهتدى فلنفسه إلى قوله: وما أنت عليهم بوكيل} [الزمر: 41]، والمعنى: أن استمرار الضالّ على ضلاله، قد يحصل بعدَه اهتداء، وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه، وهذا تهوين على نفس النبي برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذٍ في ضلال وشرك كما تَحقّقَ ذلك. فتكون الجملة تعليلاً للجملة قبلَها ولها اتصال بقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} إلى قوله: {في ضلال مبين} [الزمر: 22].

ويجوز أن يكون انتقالاً إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداءً من قوله: خلق السموات والأرض بالحق إلى قوله: {في ظُلُمات ثَلاث} [الزمر: 5، 6]، ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذواتٍ وإنشاءِ ذواتٍ من تلك الأحوال وذلك من قوله: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض إلى قوله: {لأُولى الألباب} [الزمر: 21] وأعقَبَ كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفُس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم. وقد أنبأ عن الاستدلال قوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، فهذا دليل للناس من أنفسهم، قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً للتدرج في الاستدلال، ولها اتصال بجملة خلق السموات والأرض بالحق} وجملة {ألم تر أن الله أنزل} المتقدمتين، وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظيمتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية، وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإِفادة تخصيصه بمضمون الخبر، أي الله يتوفّى لا غيره فهو قصر حقيقي لإِظهار فساد أَنْ أشركوا به آلهة لا تملك تصرفاً في أحوال الناس...

(الآياتُ لقوم يتفكرون) حاصلة على كل من إرادة التمثيل وإرادة استدلال على الانفراد بالتصرف، وتأكيد الخبر ب {إنَّ} لتنزيل معظم الناس منزلة المنكر لتلك الآيات؛ لعدم جريهم في أحوالهم على مقتضى ما تدل عليه.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا} الأنفس جمع النفس، والنفس هي مجموع التقاء مادة الجسد بالروح، بحيث تنشأ منهما الأغيار الموجودة في الجوارح، فالمادة وحدها لا تُسمَّى نفساً، والروح وحدها لا تُسمَّى نفساً.

ومعنى {يَتَوَفَّى الأَنفُسَ} أي: يقبضها إليه سبحانه. وتوفِّي الأنفس له ظاهرتان: النوم والموت، ففي النوم يسلب الإنسان الوعي والتمييز، وتبقى فيه الروح لإدارة حركة الحياة فيه واستبقائها، فإذا استيقظ من نومه عاد إليه وَعْيه وعقله وتمييزه، أما في الموت فالله يتوفَّى الكل: الوعي، والتمييز، والأصل: وهو الروح والجسد، فالجسم في النوم لا يزاول شيئاً حتى المخ الذي يجب أنْ يظل عاملاً لا يعمل في النائم إلا كلّ سبع ثوان.

ولذلك لما تتوقف حركة الجسم تنخفض فيه درجة الحرارة ويحتاج إلى تدفئة، لذلك ننصح النائم بأنْ يتغطى لأن الحركة مفقودة، وينبغي أن نحفظ للجسم حرارته، البعض يظن أن الغطاء هو الذي يُدفئ النائم، لكن العكس هو الصحيح فحرارة الجسم هي التي تُدفئ الغطاء، وعمل الغطاء أنْ يحفظ لك حرارة الجسم حتى لا تتبدد، بدليل أنك تذهب إلى فراشك فتجده بارداً، وحين تستيقظ من نومك تجده دافئاً.

وقلنا: إن الإنسان يمرُّ بحالات: يقظة، نوم، موت، بعث. ولكل مرحلة من هذه المراحل قانونٌ خاص، فإياك أنْ تخلط قانوناً بقانون، فمثلاً الإنسان منا وهو نائم يفقد الوعي والتمييز، ومع ذلك يصبح فيذكر رُؤْيا رآها فيها أشكال وأشخاص وألوان يستطيع التمييز بينها وكأنها يقظة، فبأيِّ شيء أدرك هذه المدركات وميَّز بين الألوان وعينه مغمضة؟

قالوا: لأن للنائم أدواتٍ ووعياً غير التي له في اليقظة، فيرى لكن ليس بالعين.

إذن: في حالة الموت يكون له وعي آخر، البعض يتعجب وربما ينكر أنْ يضم القبرُ الواحد جسدين أحدهما يُنعِّم والآخر يُعذَّب، فلماذا لا تنكر مثل هذا في النوم مثلاً، فأنت تنام مع غيرك في فراش واحد يرى هو أنه في رحلة ممتعة فيها مَا لَذَّ وطابَ، وترى أنت أنك فيه تُضرب أو تمر بحادث مؤلم، لا هو يدري بك ولا أنت تدري به.

وقوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] أي: لا تعود إلى الجسم {وَيُرْسِلُ الأُخْرَىٰ..} [الزمر: 42] أي: في حالة النوم يعود إليك الوعي والتمييز {إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الزمر: 42] إلى الأجل المعلوم الذي قدَّره الله لك في اللوح المحفوظ.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] ساعة تجد الذي يخبرك بشيء ينبه فيك أدوات التمييز بين المقولات التي هي العقل والفكر والذكر والتدبر، فثِقْ بأنه ناصح لك لا يغشك ولا يُدلِّس عليك، لأن الذي يريد غِشَّك يأخذك على عجلة حتى لا تدري وجه الصواب ولا يعطيك الفرصة للبحث وتأمل الشيء...

فساعةَ يقول الحق سبحانه (أفلا تعقلون)، (أفلا تتذكرون)، (أفلا تتفكرون) فاعلم أنه يهيج عندك أدوات البحث والتأمل والاختيار بين البدائل، ولا يصنع ذلك معك إلا وهو واثق أنك لو استعملتَ هذه الأدوات فلن تصل إلا إلى مراده منك.