فإنهم لم يقولوها عن علم و[ لا ] يقين ، لا علم منهم ، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم ، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها ، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد{[482]} الذي يقتضي نقصه ، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية ، والكذب عليه ؟ " { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } ولهذا قال هنا : { إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } أي : كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء ، وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج ، والانتقال من شيء إلى أبطل منه ، فأخبر أولا : أنه { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ } والقول على الله بلا علم ، لا شك في منعه وبطلانه ، ثم أخبر ثانيا ، أنه قول قبيح شنيع فقال : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح ، وهو : الكذب المنافي للصدق .
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ، ساعيا في ذلك أعظم السعي ، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين ، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين ، شفقة منه صلى الله عليه وسلم عليهم ، ورحمة بهم ، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء ، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، كما قال في الآية الأخرى : { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } وقال { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وهنا قال{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ }
وقوله - تعالى - : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } توبيخ لهم على تفوههم بكلام يدل على إيغالهم فى الجهل والبهتان .
أى : ما نسبوه إلى الله - تعالى - من الولد ، ليس لهم بهذه النسبة علم ، وكذلك ليس لآبائهم بهذه النسبة علم ، لأن ذلك مستحيل له - تعالى - ، كما قال - عز وجل - :
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } و " من " فى قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } مزيدة لتأكيد النفى ، والجملة مستأنفة ، و " لهم " خبر مقدم ، و { من علم } مبتدأ مؤخر ، وقوله { ولا لآبائهم } معطوف على الخبر .
أى : ما لهم بذلك شئ من العلم أصلا ، وكذلك الحال بالنسبة لآبائهم ، فالجملة الكريمة تنفى ما زعموه نفيا يشملهم ويشمل الذين سبقوهم وقالوا قولهم .
قال الكرخى : فإن قيل : اتخاذ الولد محال فى نفسه ، فكيف قال : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ؟ } فالجواب أن انتفاء العلم بالشئ قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وقد يكون لأنه فى نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به ، ونظيره قوله - تعالى - : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } وقوله - تعالى - : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } ذم شديد لهم على ما نطقوا به من كلام يدل على فرط جهلهم ، وعظم كذبهم .
وكبر : فعل ماض لإِنشاء الذم ، فهو من باب نعم وبئس ، وفاعله ضمير محذوف ، مفسّر بالنكرة بعده وهى قوله { كلمة } المنصوبة على أنها تمييز ، والمخصوص بالذم محذوف .
والتقدير : كبرت هى كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء التى تفوهوا بها ، وهى قولهم : اتخذ الله ولدا فإنهم ما يقولون إلا قولا كاذبا محالا على الله - تعالى - ومخالفا للواقع ؛ ومنافيا للحق والصواب .
وفى هذا التعبير ما فيه من استعظام قبح ما نطقوا به ، حيث وصفه - سبحانه - بأنه مجرد كلام لاكته ألسنتهم ، ولا دليل عليه سوى كذبهم وافترائهم .
قال صاحب الكشاف : قوله { كبرت كلمة } قرئ ، كبرت كلمة بالرفع على الفاعلية ، وبالنصب على التمييز ، والنصب أقوى وأبلغ ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أكبرها كلمة .
وقوله { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق به ، وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان فى قلوب الناس ويحدثون أنفسهم به من المنكرات ، لا يتمالكون أن يتفوهوا به ، ويطلقوا به ألسنتهم ، بل يكظمون عليه تشوُّرًا من إظهاره ؛ فكيف بهذا المنكر ؟
فإن قلت : إلام يرجع الضمير فى { كبرت } ؟ قلت : إلى قولهم اتخذ الله ولدا . وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها .
وشبيه بهذه الآية فى استعظام ما نطقوا به من قبحٍ قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً }
وقوله { ولا لآبائهم } يريد الذين أخذ هؤلاء هذه المقالة عنهم ، وقرأ الجمهور «كبرت كلمةً » بنصب الكلمة ، كما تقول نعم رجلاً زيد ، وفسر «الكلمة » ووصفها بالخروج من أفواههم ، وقال بعضهم : نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى { وساءت مرتفقاً }{[2]} [ الكهف : 29 ] وقالت فرقة نصبها على الحال ، والتقدير { كبرت } فريتهم أو نحو هذا { كلمة } ، وسميت هذه الكلمات { كلمة } من حيث هي مقالة واحدة ، كما يقولون للقصيدة كلمة ، وهذه المقالة قائمة في النفس معنى واحداً ، فيحسن أن تسمى كلمة ، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير «كبرت كلمةٌ » برفع الكلمة على أنها فاعلة ب { كبرت } ، وقوله { إن يقولون } أي ما يقولون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.