تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (68)

المراد بالخوض في آيات الله : التكلم بما يخالف الحق ، من تحسين المقالات الباطلة ، والدعوة إليها ، ومدح أهلها ، والإعراض عن الحق ، والقدح فيه وفي أهله ، فأمر الله رسوله أصلا ، وأمته تبعا ، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر ، بالإعراض عنهم ، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل ، والاستمرار على ذلك ، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره ، فإذا كان في كلام غيره ، زال النهي المذكور .

فإن كان مصلحة كان مأمورا به ، وإن كان غير ذلك ، كان غير مفيد ولا مأمور به ، وفي ذم الخوض بالباطل ، حث على البحث ، والنظر ، والمناظرة بالحق . ثم قال : { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } أي : بأن جلست معهم ، على وجه النسيان والغفلة . { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } يشمل الخائضين بالباطل ، وكل متكلم بمحرم ، أو فاعل لمحرم ، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر ، الذي لا يقدر على إزالته .

هذا النهي والتحريم ، لمن جلس معهم ، ولم يستعمل تقوى الله ، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم ، أو يسكت عنهم ، وعن الإنكار ، فإن استعمل تقوى الله تعالى ، بأن كان يأمرهم بالخير ، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم ، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه ، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم ، ولهذا قال :

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (68)

ثم أمر الله - تعالى - رسوله وأتباعه بأن يهجروا المجالس التى لا توقر فيه آيات الله وشرائعه ، فقال - تعالى - :

{ وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } .

قال الراغب : الخوض هو الشروع فى الماء والورود فيه ، ثم استعير للأخذ فى الحديث فقيل : تخاوضوا فى الحديث ، أى : أخذوا فيه على غير هدى ، وأكثر ما ورد فى القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله - تعالى - { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } والمعنى : وإذا رأيت أيها النبى الكريم ، أو أيها المؤمن العاقل ، الذين يخوضون فى آياتنا بالتكذيب والطعن والاستهزاء فأعرض عنهم . وانصرف عن مجالسهم ، وأرهم من نفسك الاحتقار لتصرفاتهم ، ولا تعد إلى مجالسهم حتى يخوضوا فى حديث آخر ، لأن آياتنا المنسوبة إلينا من حقها أن تعظم وأن تحترم لا أن تكون محل تهكم واستهزاء .

قال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبى صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزأوا فنزلت هذه الآية فجعل صلى الله عليه وسلم إذا استهزأوا قام فحذروا وقالوا : لا تستهزئوا فيقوم .

وإنما عبر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض ، لأنهم لا يتحدثون إلا فيما لا جدوى فيه ولا منفعة من ورائه غالباً .

وقوله { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين } أى : وإما ينسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مجالسة الخائضين على سبيل الفرض والتقدير فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها ، وقد جاء الشرط الأول بإذا لأن خوضهم فى الآيات محقق ، وجاء الشرط الثانى بأن لأن إنساء الشيطان له قد يقع وقد لا يقع .

فإن قيل : النسيان فعل الله فلم أضيف إلى الشيطان ؟ أجيب بأن السبب من الشيطان وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر فأضيف إليه لذلك ، كما أن من ألقى غيره فى النار فمات يقال : إنه القاتل وإن كان الإحراق فعل الله .

هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أحكاما من أهمها ما يأتى :

1 - وجوب الإعراض عن مجالسة المستهزئين بآيات الله أو برسله ، وأن لا يقعد لأن فى القعود إظهار عدم الكراهة ، وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسوله صلى الله عليه وسلم .

قال القرطبى : من خاض فى آيات الله تركت مجالسته وهجرته ، مؤمنا كان أو كافراً ، وقد منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم وبيعهم ، وكذلك منعوا مجالسة الكفار وأهل البدع . فقد قال بعض أهل البدع لأبى عمران النخعى : اسمع منى كلمة فأعرض عنه وقال : ولا نصف كلمة .

وروى الحاكم عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من وقر صاحب بدعة فقد أعانه على هدم الإسلام " .

وقال صاحب المنار : وسبب هذا النهى أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم وإغراء لهم بالتمادى فيه وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه والمشاركة فى الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر قال - تعالى - { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } 2 - جواز مجالسة الكفار مع عدم الخوض . لأنه إنما أمرنا بالإعراض فى حالة الخوض ، وأيضا فقد قال - تعالى - { حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } .

قال بعض العلماء : " حتى غاية الإعراض ، لأنه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أوجبته رعاية المصلحة ، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هدايتهم وإرشادهم إلى أصلها لأنها تمحضت للمصحلة " .

3 - استدل بهذه الآية على أن الناسى غير مكلف ، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف فيعفى عما ارتكبه حال نسيانه ففى الحديث الشريف " إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . رواه الطبرانى عن ثوبان مرفوعا وإسناده صحيح .

4 - قال القرطبى : قال بعضهم إن الخطاب فى الآية للنبى صلى الله عليه وسلم والمقصود أمته ، ذهبوا إلى ذلك لتبرئته صلى الله عليه وسلم من النسيان .

وقال آخرون إن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والنسيان جائز عليه فقد قال صلى الله عليه وسلم خبرا عن نفسه : " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكرونى " فأضاف النسيان إليه . واختلفوا بعد جواز النسيان عليه هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أولا ؟ فذهب إلى الأول - فيما ذكره القاضى عياض - عامة العلماء والأئمة كما هو ظاهر القرآن والأحاديث ، لكن اشترط الأئمة أن الله - تعالى - ينبهه على ذلك ولا يقره عليه . ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه فى الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية كما منعوه اتفاقا فى الأقوال البلاغية " .

وقال الآلوسى : " وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذى لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن فى استحالته على رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (68)

{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها . { فأعرض عنهم } فلا تجالسهم وقم عنهم . { حتى يخوضوا في حديث غيره } أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن . { وإما ينسينك الشيطان } بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي . وقرأ ابن عامر { ينسيك } بالتشديد . { فلا تقعد بعد الذكرى } بعد أن تذكره . { مع القوم الظالمين } أي معهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام .