{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }
يقول تعالى : إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة ، ليس ذلك ببدع من إحساننا ، ولا بأوله ، بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها ، فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم ، تعرفون نسبه وصدقه ، وأمانته وكماله ونصحه .
{ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها ، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، التي دلتكم أولا ، على توحيد الله وكماله ، ثم على صدق رسوله ، ووجوب الإيمان به ، ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب ، حتى حصل لكم الهداية التامة ، والعلم اليقيني .
{ وَيُزَكِّيكُمْ } أي : يطهر أخلاقكم ونفوسكم ، بتربيتها على الأخلاق الجميلة ، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة ، وذلك كتزكيتكم من الشرك ، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الكذب إلى الصدق ، ومن الخيانة إلى الأمانة ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق ، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع ، إلى التحاب والتواصل والتوادد ، وغير ذلك من أنواع التزكية .
{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } أي : القرآن ، ألفاظه ومعانيه ، { وَالْحِكْمَةَ } قيل : هي السنة ، وقيل : الحكمة ، معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها ، وتنزيل الأمور منازلها .
فيكون - على هذا - تعليم السنة داخلا في تعليم الكتاب ، لأن السنة ، تبين القرآن وتفسره ، وتعبر عنه ، { وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } لأنهم كانوا قبل بعثته ، في ضلال مبين ، لا علم ولا عمل ، فكل علم أو عمل ، نالته هذه الأمة فعلى يده صلى الله عليه وسلم ، وبسببه كان ، فهذه النعم هي أصول النعم على الإطلاق ، ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده ، فوظيفتهم شكر الله عليها والقيام بها ، فلهذا قال تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }
وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن نعمة تحويل القبلة أتبعه بالحديث عن نعمة جليلة أخرى وهي نعمة ارسال الرسول فيهم لهدايتهم فقال - تعالى -
{ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا . . . }
قوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ } . . إلخ متصل بما قبله ، والكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف وما مصدرية ، والتقدير : لقد حولت القبلة إلى شطر المسجد الحرام لأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام نعمتي عليكم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فيكم ، إجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل إذ قالا { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ . . . } وقيل إن قوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَا } . . إلخ متصل بما بعده ، فتكون الكاف للمقابلة ، أي : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين القويم ، والخلق المستقيم ومنحتكم هذه النعمة فضلا مني وكرماً ، فاذكروني بالشكر عليها أذكركم برحمتي وثوابي . وقوله : { فِيكُمْ } متعلق " بأرسلنا " وقدم على المفعول تعجيلا بإدخال السرور : وقوله : { مِّنْكُمْ } في موضع نصب ، لأنه صفة لقوله : { رَسُولاً } والمخاطبون بهذه الآية الكريمة هم العرب .
وفي إرساله الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وهو منهم نعمة تستوجب المزيد من الشكر ، لأن إرساله منهم يسبقه معرفتهم لنشأته الطيبة وسيرته العطرة ، ومن شأن هذه المعرفة أن تحملهم على المسارعة إلى تصديقه والإِيمان به ، ولأن في إرساله فيهم وهو منهم شرف عظيم لهم ، ومجد لا يعد له مجد ، حيث جعل - سبحانه - خاتم رسله من هذه الأمة ، ولأن المشهور من حالهم الأنفة الشديدة من الانقياط ، فكون الرسول منهم ادعى إلى إيمانهم به وقبولهم لدعوته . وقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } صفة ثانية للرسول صلى الله عليه وسلم .
والتلاوة : ذكرالكلمة بعد الكلمة على نظام متسق ، وأصله من الإِتباع ومنه تلاه ، أي : تبعه . والمراد من الآيات : آيات القرآن الكريم ، وتلاوتها قراءتها ، فإن البصير بأسليب البيان العربي يدرك من مجرد تلاوة آيات القرآن كيف ارتفع إلى الذروة التي كان بها معجزة ساطعة .
وفي هذه الجملة - كما قال الآلوسي - " إشارة إلى طريق إثبات نبوته - عليه الصلاة والسلام - لأن تلاوة الأمي للآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإِخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته "
وعبر بقوله : { يَتْلُواْ } لأن نزول القرآن مستمر ، وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم له متوالية ، وفي كل قراءة يحصل علم المعجزات للسامعين .
ويجوز أن يراد بالآيات : دلائل التوحيد والنبوة والبعث ، وبتلاوتها التذكير بها حتى يزداد المؤمنون إيماناً بصدقها .
وقوله : { وَيُزَكِّيكُمْ } صفة ثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ويطهركم من الشرك ، ومن الأخلاق الذميمة . وإذا أشرقت النفوس بنور الحق ، وتحلت بالأخلاق الحميدة ، قوبت على تلقى ما يرد عليها من الحقائق السامية .
وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة رابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالكتاب : القرآن ، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه ، فهو غير التلاوة ، فلا تكرار بين قوله { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وبين قوله { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب } .
والحكمة : ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة .
قال بعضهم : وقدمت جملة { وَيُزَكِّيكُمْ } هنا على جملة { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة } عكس ما جاء في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ } لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين ، فقدم ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها ، وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها . أما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن " .
وقوله - تعالى - : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة خامسة له صلى الله عليه وسلم .
أي : " ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي . ومما لم يكونوا يعملونه وعلمهم إياه صلى الله عليه وسلم وجوه واستنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها ، وأخبار الأمم الماضية ، وقصص الأنبياء ، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم . وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة .
ولقد كان العرب قبل الإِسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد . . . فلما أكرمهم الله - تعالى - برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم الآيات ، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، خرج منهم رجال صاروا أمثالا عالية في العقيدة السليمة ، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة ، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات .
قال الآلوسي : وكان الظاهر أن يقول : " ويعلمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون " بحذف الفعل " يعلمكم " من الجملة الآخيرة ، ليكون الكلام من عطف المفرد على المفرد ، إلا أنه - تعالى - كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا ، فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة ، ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون " .
يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم ، أي : يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويعلمهم الكتاب - وهو القرآن - والحكمة - وهي السنة - ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون . فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى ، فانتقلوا ببركة رسالته ، ويُمن سفارته ، إلى حال الأولياء ، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا ، وأبرهم قلوبًا ، وأقلهم تكلفًا ، وأصدقهم لهجة . وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية [ آل عمران : 164 ] . وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28 ] .
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 151 )
والكاف في قوله { كما } رد على قوله { لأتم }( {[1416]} ) أي إتماماً كما ، وهذا أحسن الأقوال ، أي لأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم } إجابة لدعوته في قوله { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم }( {[1417]} ) الآية ، وقيل : الكاف من { كما } رد على { تهتدون } ، أي اهتداء كما ، وقيل ، هو في موضع نصب على الحال ، وقيل : هو في معنى التأخير متعلق بقوله { فاذكروني }( {[1418]} ) ، وهذه الآية خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو المعنيّ بقوله { رسولاً منكم } ، و { يتلو } في موضع نصب على الصفة ، والآيات : القرآن ، و { يزكيكم } يطهركم من الكفر وينميكم بالطاعة ، و { الكتاب } القرآن ، و { الحكمة } ما يتلقى عنه عليه السلام من سنة وفقه في دين ، و { ما لم تكونوا تعلمون } قصص من سلف وقصص ما يأتي من الغيوب .
تشبيه للعلتين من قوله : { لأتم } [ البقرة : 150 ] وقوله : { ولعلكم تهتدون } [ البقرة : 150 ] أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وجعل الإرسال مشبهاً به لأنه أسبق وأظهر تحقيقاً للمشبه أي إن المبادىء دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث « كما صليت على إبراهيم » ونكر ( رسول ) للتعظيم ولتجري عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة ، فالخطاب في قوله : { فيكم } وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيراً لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولاً بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيراً لهدايتهم ، وهذا على نحو دعوة إبراهيم : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] وقد امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى : ولذلك علق بفعل { أرسلنا } حرفُ فِي ولم يعلَّق به حرف إلى كما في قوله : { إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم } [ المزمل : 15 ] ، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم ، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم ، والمسلمون يومئذٍ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية فالأمة العربية يومئذٍ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالي مثل سلمانَ الفارسي وبلال الحبشي وعبدِ الله بن سَلاَم الإسرائيلي ، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام ، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده ، ويدركون إعجاز القرآن ، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم ، وهذه المزية ينالها كل من تعلَّم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية ، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواتراً ، ويسهل انتشاره سريعاً .
والرسول المُرسَل فهو فَعُول بمعنى المفعول مثل ذَلول ، وسيأتي الكلام عليه من جهة مطابقة موصوفة عند قوله تعالى : { فقولا إنا رسول رب العالمين } [ الشعراء : 16 ] في سورة الشعراء .
وقوله : { يتلوا عليكم أياتنا } أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولاً آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة ، وسماه ثانياً كتاباً باعتبار كونه كتاب شريعة ، وقد تقدم نظيره آنفاً عند قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة } [ البقرة : 129 ] . عبر بيتلو لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين .
وقوله : { ويزكيكم } الخ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء ، وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالاتٍ وطهاراتٍ تعترضُها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل ، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها ، قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تكوين ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات } [ التين : 4 6 ] ، وفي الحديث : « بُعثت لأُتم حُسْن الأخلاق » ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة .
وقوله : { ويعلمكم الكتاب والحكمة } أي يعلمكم الشريعة فالكتاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزاً ويعلمكم أصولَ الفضائل ، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد ، وتقدم نظيره في دعوة إبراهيم وسيأتي أيضاً عند قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] في هذه السورة .
وقدمت جملة : { ويزكيكم } على جملة : { ويعلمكم الكتاب والحكمة } هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم : { يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } [ البقرة : 129 ] ، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلاً للبشارة بها . فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن .
وقوله : { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك .
وإنما أعاد قوله : { ويعلمكم } مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصاً على المغايرة لئلا يظن أن : { ما لم تكونوا تعلمون } هو الكتاب والحكمة ، وتنصيصاً على أن : { ما لم تكونوا } مفعولاً لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبراً له فيضل فهمه في ذلك الترقب ، واعلم أن حرف العطف إذا جيء معه بإعادة عامل كان عاطفه عاملاً على مثله فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذٍ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل .