وقال لهم حاثا على شكر نعم الله : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي : أعلم ووعد ، { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } من نعمي { وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } ومن ذلك أن يزيل عنهم النعمة التي أنعم بها عليهم .
والشكر : هو اعتراف القلب بنعم الله والثناء على الله بها وصرفها في مرضاة الله تعالى . وكفر النعمة ضد ذلك .
ثم حكى - سبحانه - أن موسى - عليه السلام - قد أرشد قومه إلى سنة من سنن الله التى لا تتخلف فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } . .
وقوله : { تأذن } بمعنى آذن أى أعلم ، يقال : آذن الأمر بالأمر أى : أعلمه ، إلا أن صيغة التفعل تفيد المبالغة فى الإِعلام ، فيكون معنى " تأذن " : أعلم إعلاما واضحا بليغا لا التباس معه ولا شبهة .
واللام فى قوله : { لَئِن شَكَرْتُمْ } موطئة للقسم . وحقيقة الشكر : الاعتراف بنعم الله - تعالى - واستعمالها فى مواضعها التى أرشدت الشريعة إليها .
وقوله : { لأَزِيدَنَّكُمْ } ساد مسد جوابى القسم والشرط .
والمراد بالكفر فى قوله : { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } كفر النعمة وجحودها ، وعدم نسيتها إلى واهبها الحقيقى وهو الله - تعالى - كما قال قارون { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي } وعدم استعمالها يما خلقت له ، إلى غير ذلك من وجوه الانحراف بها عن الحق .
وجملة : { إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } دليل على الجواب المحذوف لقوله { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } إذ التقدير : ولئن كفرتم لأعذبنكم ، إن عذابى لشديد .
قال الجمل : " وإنما حذف هنا وصرح به فى جانب الوعد ، لأن عادة أكرم الأكرمين أن بصرح بالوعد ويعرض بالوعيد " .
والمعنى : واذكر أيها المخاطب وقت أن قال موسى لقومه : يا قوم إن ربكم قد أعلمكم إعلاما واضحا بليغا مؤكداً بأنكم إن شكرتموه على نعمه ، زادكم من عطائه وخيره ومننه ، وإن جحدتم نعمه وغمطتموها واستعملتموها فى غير ما يرضيه ، محقها من بين أيديكم ، فإنه - سبحانه - عذابه شديد ، وعقابه أليم .
هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث الموجبة للشكر ، والمحذرة من الجحود فقال :
وقد جاء فى الحديث الشريف : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " .
وروى الإِمام أحمد عن أنس قال : أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها - و وحش بها أى : رماها - قال : وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقال السائل : سبحانه الله ! ! ترمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال للجارية : إذهبى إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التى عندها .
وقوله : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي : آذنكم وأعلمكم بوعده لكم . ويحتمل أن يكون المعنى : وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه كما قال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ]{[15751]} } [ الأعراف : 167 ] .
وقوله{[15752]} { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ } {[15753]} أي : لئن شكرتم نعمتي{[15754]} عليكم لأزيدنكم منها ، { وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ } أي : كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها ، { إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } وذلك بسلبها عنهم ، وعقابه إياهم على كفرها .
وقد جاء في الحديث : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " {[15755]} .
وفي المسند : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ به سائل فأعطاه تمرة ، فَتَسَخَّطها ولم يقبلها ، ثم مر به آخر فأعطاه إياها ، فقبلها وقال : تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر له بأربعين درهما ، أو كما قال .
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا عمارة الصَّيدلاني ، عن ثابت ، عن أنس قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها - أو : وحش بها - قال : وأتاه آخر فأمر له بتمرة ، فقال : سبحان الله ! تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال للجارية : " اذهبي إلى أم سلمة ، فأعطيه الأربعين درهما التي عندها " .
تفرد به الإمام أحمد{[15756]} .
وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبَّان ، وأحمد ، ويعقوب بن سفيان{[15757]} وقال ابن معين : صالح . وقال أبو زُرْعَة : لا بأس به . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ، ليس بالمتين . وقال البخاري : ربما يضطرب في حديثه . وعن أحمد أيضا أنه قال : روي عنه أحاديث منكرة . وقال أبو داود : ليس بذاك . وضعفه الدارقطني ، وقال ابن عدي : لا بأس به ممن يكتب حديثه .
{ وإذ تأذّن ربكم } أيضا من كلام موسى صلى الله عليه وسلم ، و{ تأذن } بمعنى آذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكليف والمبالغة . { لئن شكرتم } يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم من الانجاء وغيره بالإيمان والعمل الصالح . { لأزيدنّكم } نعمة إلى نعمة . { ولئن كفرتم } ما أنعمت عليكم . { إن عذابي لشديد } فلعلي أعذبكم على الكفران عذابا شديدا و من عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد ، والجملة مقول قول مقدر أو مفعول { تأذن } على أنه جار مجرى " قال " لأنه ضرب منه .
عطف على { إذ أنجاكم من آل فرعون } فهو من كلام موسى عليه السلام والتقدير : واذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذّن ربكم لئن شكرتم الخ ، لأن الجزاء عن شكر النعمة بالزيادة منها نعمةٌ وفضل من الله ، لأن شكر المنعم واجب فلا يستحق جزاءً لولا سعة فضل الله . وأما قوله : { ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } فجاءت به المقابلة .
ويجوز أن يعطف { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } على { نعمة الله عليكم } . فيكون التقدير : واذكروا إذ تأذن ربكم ، على أن { إذ } منصوبة على المفعولية وليست ظرفاً وذلك من استعمالاتها . وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة الأعراف ( 167 ) : { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم } وقوله : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم } [ سورة الأعراف : 86 ] .
ومعنى { تأذن ربكم } تكلّم كلاماً عَلَناً ، أي كلم موسى عليه السلام بما تضمنه هذا الذي في الآية بمسمع من جماعة بني إسرائيل . ولعل هذا الكلام هو الذي في الفقرات ( 9 20 ) من الإصحاح ( 19 ) من « سفر الخروج » ، والفقرات ( 1 18 ، 22 ) من الإصحاح ( 20 ) منه ، والفقرات ( من 20 إلى 30 ) من الإصحاح ( 23 ) منه .
والتأذن مبالغة في الأذان يقال : أذن وتأذّن كما يقال : توعّد وأوعد ، وتفضّل وأفضل . ففي صيغة تفعّل زيادة معنى على صيغة أفْعَلَ .
وجملة { لئن شكرتم } موطئة للقسم والقسم مستعلم في التأكيد . والشكر مؤذن بالنعمة . فالمراد : شكر نعمة الإنجاء من آل فرعون وغيرها ، ولذلك حذف مفعول { شكرتم } ومفعول { لأزيدنكم } ليقدر عاماً في الفعلين .
والكفر مراد به كفر النعمة وهو مقابلة المنعم بالعصيان . وأعظم الكفر جحد الخالق أو عبادة غيره معه وهو الإشراك ، كما أن الشكر مقابلة النعمة بإظهار العبودية والطاعة .
واستغنى ب { إن عذابي لشديد } عن { لأعذبنه عذاباً شديداً } [ النمل : 21 ] لكونه أعم وأوجز ، ولكون إفادة الوعيد بضرب من التعريض أوقع في النفس . والمعنى : إن عذابي لشديد لمن كفر فأنتم إذن منهم .