فلما تحقق الملك والناس براءة يوسف التامة ، أرسل إليه الملك وقال : { ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي : أجعله خصيصة لي ومقربا لديَّ فأتوه به مكرما محترما ، { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } أعجبه كلامه ، وزاد موقعه عنده فقال له : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا } أي : عندنا { مَكِينٌ أَمِينٌ } أي : متمكن ، أمين على الأسرار .
ثم بدأت بعد ذلك في الحديث عن الجانب الثانى من حياته عليه السلام .
وهو جانب الرخاء والعز والتمكين في حياته ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي . . . }
وفى الكلام إيجاز بالحذف ، والتقدير : وبعد أن انكشفت للملك براءة يوسف - عليه السلام - انكشافا تاما ، بسبب ما سمعه عنه من النسوة ومن امرأة العزيز ، وبعد أن سمع تفسيره للرؤيا وأعجب به ، كما أعجب بسمو نفسه وإبائه . .
بعد كل ذلك قال الملك لخاصته : ائتونى بيوسف هذا ، ليكون خالصا لنفسى ، وخاصا بى في تصريف أموري ، وكتمان أسراري ، وتسيير دفة الحكم في مملكتي .
والسين والتاء في قوله " أستخلصه " للمبالغة في الخلوص له ، فهما للطلب كما في استجاب ، والاستخلاص طلب خلوص الشئ من شوائب الشركة .
فكأن الملك قد شبه يوسف - عليه السلام - بالشئ النفيس النادر ، الذي يجب أن يستأثر به الملك دون أن يشاركه فيه أحد سواه .
والفاء في قوله { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } معطوفة على محذوف يفهم من السياق .
والضمير المنصوب في " كلَّمه " يعود على الملك - على الراجح - .
والمراد باليوم : الذي حدث فيه التخاطب بين الملك ويوسف .
و { مكين } صفة مشبهة من الفعل مكن - بضم الكاف - ، بمعنى صاحب مكانة ومرتبة عظيمة ، يقال : مكن فلان مكانة إذا ارتفعت منزلته ، ويقال : مكنت فلانا من هذا الشئ إذا جعلت له عليه سلطانا وقدرة .
{ أمين } بزنة فعيل بمعنى مفعول ، أى : مأمون على ما نكلفك به ، ومحل ثقتنا .
والمعنى : وقال الملك لجنده ائتونى بيوسف هذا أستخلصه لنفسى فأتوه به إلى مجلسه .
فازداد حب الملك له وتقديره إياه وقال له : إنك منذ اليوم عندنا صاحب الكلمة النافذة ، والمنزلة الرفيعة ، التي تجعلنا نأتمنك على كل شئ في هذه المملكة ، وتلك المقالة من الملك ليوسف ، هي أولى بشائر عاقبة الصبر ؛ وعزة النفس ، وطهارة القلب ، والاستعصام بحبل الله المتين . . .
يقول تعالى إخبارًا عن الملك حين تحقق براءة يوسف ، عليه السلام ، ونزاهة عرْضه مما نسب إليه ، قال : { ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي : أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } أي : خاطبه الملك وعرفه ، ورأى فضله وبراعته ، وعلم ما هو عليه من خَلْق وخُلُق وكمال قال له الملك : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } أي : إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة ، فقال يوسف ، عليه السلام : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }
{ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } أجعله خالصا لنفسي . { فلما كلّمه } أي فلما أتو به فكلمه وشاهد من الرشد والدهاء . { قال إنك اليوم لدينا مكين } ذو مكانة ومنزلة . { أمين } مؤتمن على كل شيء . روي أنه لما خرج من السجن اغتسل وتنظف ولبس ثيابا جددا ، فلما دخل على الملك قال : اللهم أني أسألك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرية فقال الملك : ما هذا اللسان قال : لسان آبائي ، وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعهما فتعجب منه فقال : أحب أن أسمع رؤياي منك ، فحكاها ونعت له بالبقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره . وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه وزوج منه راعيل فوجدها عذراء وولد له منها أفرائيم وميشا .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ( 54 ) } المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه ، وتحقق في القصة أمانته ، وفهم أيضاً صبره وجلده ، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال : { ائتوني به أستخلصه لنفسي } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي أمّ يوسف عليه السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل ، فتأمل أن الملك قال أولاً - حين تحقق علمه - { ائتوني به } [ يوسف : 50 ] فقط ، فلما فعل يوسف ما فعل ، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال : { ائتوني به أستخلصه لنفسي } ، فلما جاءه وكلمه قال : { إنك اليوم لدينا مكين أمين } فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه ، إذ المرء مخبوء تحت لسانه ؛ ثم لما زاول الأعمال مشى القدمية{[6729]} حتى ولاه خطة العزيز .
و { أمين } من الأمانة ، وقالت فرقة هو بمعنى آمن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيراً ويروى أن الملك لما أدنى يوسف قال له : إني أشاركك في كل شيء إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي وأن لا يأكل معي عبدي ، فقال له يوسف : أتأنف أن آكل معك ؟ أنا أحق أن آنف ، أنا ابن إبراهيم الخليل ، وابن إسحاق الذبيح{[6730]} ، وابن يعقوب الصديق .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الحديث بعد وضعف ، وقد قال ابن ميسرة : إنما جرى هذا في أول أمره ، كان يأكل مع العزيز ، فلما جرت قصة المرأة قالت للعزيز : أتدع هذا يواكلك ؟ فقال له : اذهب فكل مع العبيد ؛ فأنف وقال ما تقدم .
أما إن الظاهر من قصته وقت محاورة الملك أنه كان على عبودية ، وإلا كان اللائق به أن ينتحي بنفسه عن عمل الكافر ، لأن القوم كانوا أهل أوثان ومحاورة يوسف لصاحبي السجن تقضي بذلك .
وسمى الله تعالى فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه ، ولو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر : ملك أو أمير ، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فقال : «عظيم الروم » ، ولم يقل : ملكاً ولا أميراً ، لأن ذلك حكم ، والحق أن يسلم ويسلموا . وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيفما تقلب ، ولو كتب له النبي عليه السلام : أمير الروم ، لتمسك بتلك الحجة على نحو تمسك زياد في قوله : شهد - والله - لي أبو الحسن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.