تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

فإنهم لم يقولوها عن علم و[ لا ] يقين ، لا علم منهم ، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم ، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها ، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد{[482]} الذي يقتضي نقصه ، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية ، والكذب عليه ؟ " { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } ولهذا قال هنا : { إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } أي : كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء ، وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج ، والانتقال من شيء إلى أبطل منه ، فأخبر أولا : أنه { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ } والقول على الله بلا علم ، لا شك في منعه وبطلانه ، ثم أخبر ثانيا ، أنه قول قبيح شنيع فقال : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح ، وهو : الكذب المنافي للصدق .

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ، ساعيا في ذلك أعظم السعي ، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين ، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين ، شفقة منه صلى الله عليه وسلم عليهم ، ورحمة بهم ، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء ، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، كما قال في الآية الأخرى : { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } وقال { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وهنا قال{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ }


[482]:- كذا في ب، وفي أ: الولد.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

وقوله - تعالى - : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } توبيخ لهم على تفوههم بكلام يدل على إيغالهم فى الجهل والبهتان .

أى : ما نسبوه إلى الله - تعالى - من الولد ، ليس لهم بهذه النسبة علم ، وكذلك ليس لآبائهم بهذه النسبة علم ، لأن ذلك مستحيل له - تعالى - ، كما قال - عز وجل - :

{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } و " من " فى قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } مزيدة لتأكيد النفى ، والجملة مستأنفة ، و " لهم " خبر مقدم ، و { من علم } مبتدأ مؤخر ، وقوله { ولا لآبائهم } معطوف على الخبر .

أى : ما لهم بذلك شئ من العلم أصلا ، وكذلك الحال بالنسبة لآبائهم ، فالجملة الكريمة تنفى ما زعموه نفيا يشملهم ويشمل الذين سبقوهم وقالوا قولهم .

قال الكرخى : فإن قيل : اتخاذ الولد محال فى نفسه ، فكيف قال : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ؟ } فالجواب أن انتفاء العلم بالشئ قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وقد يكون لأنه فى نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به ، ونظيره قوله - تعالى - : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } وقوله - تعالى - : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } ذم شديد لهم على ما نطقوا به من كلام يدل على فرط جهلهم ، وعظم كذبهم .

وكبر : فعل ماض لإِنشاء الذم ، فهو من باب نعم وبئس ، وفاعله ضمير محذوف ، مفسّر بالنكرة بعده وهى قوله { كلمة } المنصوبة على أنها تمييز ، والمخصوص بالذم محذوف .

والتقدير : كبرت هى كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء التى تفوهوا بها ، وهى قولهم : اتخذ الله ولدا فإنهم ما يقولون إلا قولا كاذبا محالا على الله - تعالى - ومخالفا للواقع ؛ ومنافيا للحق والصواب .

وفى هذا التعبير ما فيه من استعظام قبح ما نطقوا به ، حيث وصفه - سبحانه - بأنه مجرد كلام لاكته ألسنتهم ، ولا دليل عليه سوى كذبهم وافترائهم .

قال صاحب الكشاف : قوله { كبرت كلمة } قرئ ، كبرت كلمة بالرفع على الفاعلية ، وبالنصب على التمييز ، والنصب أقوى وأبلغ ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أكبرها كلمة .

وقوله { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق به ، وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان فى قلوب الناس ويحدثون أنفسهم به من المنكرات ، لا يتمالكون أن يتفوهوا به ، ويطلقوا به ألسنتهم ، بل يكظمون عليه تشوُّرًا من إظهاره ؛ فكيف بهذا المنكر ؟

فإن قلت : إلام يرجع الضمير فى { كبرت } ؟ قلت : إلى قولهم اتخذ الله ولدا . وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها .

وشبيه بهذه الآية فى استعظام ما نطقوا به من قبحٍ قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي : بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه من علم { وَلا لآبَائِهِمْ } أي : أسلافهم .

{ كَبُرَتْ كَلِمَةً } : نصب على التمييز ، تقديره : كبرت كلمتهم هذه كلمة .

وقيل : على التعجب ، تقديره : أعظم بكلمتهم كلمة ، كما تقول : أكرم بزيد رجلا قاله بعض البصريين . وقرأ ذلك بعض قراء مكة : { كَبُرَتْ كَلِمَةً } كما يقال : عَظُم قولُك ، وكبر{[17961]} شأنُك .

والمعنى على قراءة الجمهور أظهر ؛ فإن هذا تبشيع لمقالتهم{[17962]} واستعظام لإفكهم ؛ ولهذا قال : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : ليس لها مستند سوى قولهم ، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ؛ ولهذا قال : { إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا } .

وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي مُعَيط ، إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود{[17963]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم{[17964]} أمره وبعض قوله ، وقالا{[17965]} إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالت لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بِهِن ، فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل مُتَقَول فَرَوا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنهم{[17966]} قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبَؤه{[17967]} ؟ [ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ ]{[17968]} فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا : فسألوه عما أمروهم به ، فقال{[17969]} لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخبركم غدا بما سألتم عنه " . ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يُحدث الله إليه في ذلك وحيًا ، ولا يأتيه جبريل ، عليه السلام ، حتى أرجف{[17970]} أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدًا ، واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبحنا فيها ، لا يُخبرنا بشيء عما سألناه عنه . وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكثُ الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل ، عليه السلام ، من عند الله ، عز وجل ، بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخَبَر ما سألوه عنه من أمر الفتية{[17971]} والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 85 ]{[17972]}


[17961]:في ت: "وعظم".
[17962]:في ت: "لمقالهم".
[17963]:في ت: "يهودي".
[17964]:في أ: "له".
[17965]:في ت: "وقال".
[17966]:في أ: "فإنه".
[17967]:في ت، أ: "بناؤه".
[17968]:زيادة من الطبري.
[17969]:في ت: فقالوا".
[17970]:في ت: "أوجب".
[17971]:في ت: "الفقيه".
[17972]:رواه الطبري في تفسيره (15/127).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

{ ما لهم به من علم } أي بالولد أو باتخاذه أو بالقول ، والمعنى أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب ، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم من غير علم بالمعنى الذي أرادوا به ، فإنهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثر والأثر . أو بالله إذ لو علموه لما جوزوا نسبة الاتخاذ إليه . { ولا لآبائهم } الذين تقولوه بمعنى التبني . { كبُرت كلمة } عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه والتشريك ، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ ، و{ كلمة } نصب على التمييز وقرئ بالرفع على الفاعلية والأول أبلغ وأدل على المقصود . { تخرج من أفواههم } صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواهم ، والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها . وقيل صفة محذوف هو المخصوص بالذم لأن كبرها هنا بمعنى بئس وقرئ { كبرت } بالسكون مع الإشمام . { إن يقولون إلا كذبا } .