{ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : واشكروه على ما أسدى إليكم من النعم { وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ } أي : في رزقه ، فتستعملونه في معاصيه ، وتبطرون النعمة ، فإنكم إن فعلتم ذلك ، حل عليكم غضبي أي : غضبت عليكم ، ثم عذبتكم ، { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي : ردى وهلك ، وخاب وخسر ، لأنه عدم الرضا والإحسان ، وحل عليه الغضب والخسران .
والأمر فى قوله - سبحانه - { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } للإباحة ، والجملة مقول لقول محذوف . أى : وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم من المن والسلوى ، ومن غيرهما من اللذائذ التى أحلها الله لكم .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى } تحذير لهم من تجاوز الحدود التى شرعها الله - تعالى - لهم ، إذ الطغيان مجاوزة الحد فى كل شىء .
والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى الموصول الذى هو { مَا } فى قوله : { مَا رَزَقْنَاكُمْ } ويحل - بكسر الحاء - بمعنى يجب . يقال : حل أمر الله على فلان يحل حلالا بمعنى وجب .
وقرأ الكسائى { فَيَحُلَّ } بضم الحاء بمعنى ينزل يقال : حل فلان بالمكان يحل - بالضم حلولا ، إذا نزل به .
والمعنى : كلوا يا بنى إسرائيل من الطيبات التى رزقكم الله إياها واشكروه عليها ، ولا تتجاوزوا فيما رزقناكم الحدود التى شرعناها لكم ، فإنكم إذا فعلتم ذلك حق عليكم غضبى ، ونزل بكم عقابى ، ومن حق عليه غضبى ونزل به عقابى { فَقَدْ هوى } أى : إلى النار .
وأصله السقوط من مكان مرتفع كجبل ونحوه . يقال : هوى فلان - بفتح الواو - يهوى - بكسرها - إذا سقط إلى أسفل ، ثم استعمل فى الهلاك للزومه له .
أي : كلوا من هذا [ الرزق ]{[19455]} الذي رزقتكم ، ولا تطغوا في رزقي ، فتأخذوه من غير حاجة ، وتخالفوا ما آمركم به ، { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } أي : أغضب عليكم { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي : فقد شقي .
وقال شُفَيّ بن ماتع : إن في جهنم قصرًا يُرمى الكافر من أعلاه ، فيهوي في جهنم أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال ، وذلك قوله : { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } رواه ابن أبي حاتم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى ذكره: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} يعنى بالطيبات الحلال من الرزق {ولا تطغوا فيه} يقول: {ولا تعصوا في الرزق} يعني: فيما رزقناكم من المن والسلوى فترفعوا منه لغد، وكان الله سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا منه لغد فعصوا الله، عز وجل، ورفعوا منه...
{فيحل عليكم غضبي} يعني: فيجب عليكم عذابي.
{فقد هوى}، يقول: ومن وجب عليه عذابي فقد هلك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"كُلُوا مِنْ طَيّباتِ ما رَزَقْناكُمْ" يقول تعالى ذكره لهم: كلوا يا بني إسرائيل من شهيات رزقنا الذي رزقناكم، وحلاله الذي طيبناه لكم.
"وَلا تَطْغَوْا فِيهِ "يقول: ولا تعتدوا فيه، ولا يظلم فيه بعضكم بعضا...
وقوله: "فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي" يقول: فينزل عليكم عقوبتي...
وقد حذّر الله الذين قيل لهم هذا القول من بني إسرائيل وقوع بأسه بهم ونزوله بمعصيتهم إياه إن هم عصوه، وخوّفهم وجوبه لهم...
"ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى"... ومن يجب عليه غضبي، فينزل به، "فقد هوى"، يقول: فقد تردّى فشقي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كلوا من طيبات ما رزقناكم} يحتمل وجهين:
أحدهما: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.أي من حلالات ما رزقناكم...
والثاني: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أي ما تطيب به أنفسكم. ففيه دلالة أنه يجوز لنا أن نختار من الأطعمة ما هو أطيب إن كان على ما تستطيب به الأنفس...
{ولا تطغوا فيه} الطغيان هو المجاوزة عن الحدود التي جعلت، أي لا تطغوا في ما رزقناكم من الطيبات، وتجعلونه في غير ما جعل، وتتجاوزون عن القدر الذي جعل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الطيبُ ما كان حلالاً. ويقال الطيب من الرزق ما لا يَعْصِي اللَّهَ مُكْتَسِبهُ...
{وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ}: بمجاوزة الحلالِ إلى الحرام...
{فَيَحِلَّ عَلْيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى}. فيحل عليكم غضبي بالخذلان لمتابعة الزَّلَّة بعد الزَّلَّة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
طغيانهم في النعمة: أن يتعدّوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي، وأن يزووا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا.
... {فقد هوى} أي: شقي، وقيل: فقد وقع في الهاوية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أتبعه بنعمة الكتاب الدال عليها، ثم بالرزق المقوي، ودل على نعمة الإذن فيه بقوله: {كلوا} ودل على سعته بقوله: {من طيبات ما} ودل على عظمته بقوله: {رزقناكم} من ذلك ومن غيره.
ولما كان الغنى والراحة سبب السماحة، قال: {ولا تطغوا فيه} بالادخار إلى غد... ولا بغير ذلك من البطر وإغفال الشكر بصرفه في غير الطاعة {فيحل} أي ينزل ويجب في حينه الذي هو أولى الأوقات به -على قراءة الجماعة بالكسر، ونزولاً عظيماً وبروكاً شديداً- على قراءة الكسائي بالضم {عليكم غضبي} فتهلكوا لذلك {و} كل {من يحلل عليه غضبي} منكم ومن غيركم {فقد هوى} أي كان حاله حال من سقط من علو.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو يذكرهم بهذه النعم ليأكلوا من الطيبات التي يسرها لهم ويحذرهم من الطغيان فيها بالبطنة والانصراف إلى لذائذ البطون والغفلة عن الواجب الذي هم خارجون له، والتكليف الذي يعدهم ربهم لتلقيه. ويسميه طغيانا وهم قريبو العهد بالطغيان، ذاقوا منه ما ذاقوا، ورأوا من نهايته ما رأوا. (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي. ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى).. ولقد هوى فرعون منذ قليل. هوى عن عرشه وهوى في الماء.. والهوى إلى أسفل يقابل الطغيان والتعالي. والتعبير ينسق هذه المقابلات في اللفظ والظل على طريقة التناسق القرآنية الملحوظة. هذا هو التحذير والإنذار للقوم المقدمين على المهمة التي من أجلها خرجوا؛ كي لا تبطرهم النعمة، ولا يترفوا فيها فيسترخوا..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا رزق الله تعالى لبني إسرائيل في هذه الصحراء الجرداء، وقد نهاهم الله عن الطغيان في الرزق، فقال عز من قائل:... {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} ذكر الله تعالى رزق بني إسرائيل بالمن والسلوى في سيناء فناسب أن يبين – سبحانه -شكر الرزق، وفساد النعمة بالطغيان، فقال: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وهذا الأمر لبيان إباحة الطيبات، وهو في معناه يتضمن الطلب، لأن الأكل مباح ومطلوب، أما إباحته فلتخير ألوانه الطيبة، وأما طلبه فلمنع الإنسان نفسه من الأكل فيهلك، والطيبات لا بد لها من أمرين: أن تكون كسبا حلالا طيبا لا خبث من طريق الحصول عليه، وأن يكون غير مستقذر كالميتة ولحم الخنزير، والدم المسفوح، وغير ذلك من المحرمات التي حرمت لأنها رجس مستقذر،...ونهى سبحانه عن الطغيان في الرزق، فقال سبحانه: {ولا تطغوا}، أي لا تتجاوزوا الحدود فيه، وتجاوز الحدود فيه يكون بضروب شتى، منها: أن يطلبه من غير حلّه، ومنها: أن يأكل السحت والربا، ومنها: أن يمنع الفقير من حقه،...ومنها: أن يسرف فيه إسرافا، وأن ينفقه في غير موضعه، ومنها الشح والبخل بأن يكون عبد الدينار والدرهم،...فكل هذه مجاوزة للحد وطغيان، وإن الذي يترتب على الطغيان في الرزق وعدم شكره غضب الله تعالى فقال: {فيحل عليكم غضبي}...أي بسبب الطغيان ينزل بكم غضبى، وهو أعظم ما يفقد الإنسان معاني العلو، فغضب الله يبعد الشخص من سماء الرفعة، ويهوي في مكان سحيق من المقت، والبعد عن الله تعالى، ولذا قال تعالى: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} أي فقد نزل إلى الهاوية السحيقة البعيدة الغور، ومن سقط في الهاوية فإنه يهلك لا محالة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} فتوجهوه إلى ما حرمه الله عليكم، أو تكفروا النعمة فيه، فتمتنعوا عن شكرها، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبي} الذي يطال كل عبادي المنحرفين عن خط الحق في رسالة الله، ويمتنعون عن شكر النعمة في خط الإيمان، {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} في مهاوي الهلاك والسقوط، لأن أساس القوة في حياة الإنسان، هو ما يتصل بقوة الله في وجوده، فإذا انفصل عن الله، وكله إلى نفسه، وإذا غضب الله عليه وخرج عن رحمته. خرج عن ثبات الموقف ودخل دائرة الاهتزاز الذي يهوي به إلى مهاوي الدنيا والآخرة.