{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ }
أي : لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض ، دبرها أحسن تدبير ، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة ، زروعا هائلة ، واتخذ لها المحلات الكبار ، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه ، وضبطه ضبطا تاما ، فلما دخلت السنون المجدبة ، وسرى الجدب ، حتى وصل إلى فلسطين ، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه ، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر . { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : لم يعرفوه .
{ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ . . . }
قال الفخر الرازى - رحمه الله - اعلم أنه لما عم القحط في البلاد ، ووصل أيضاً إلى البلدة التي ان يسكنها يعقوب - عليه السلام - وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه : إن بمصر صالحاً يمير الناس - أي يعطيهم الطعام وما هم في حاجة إليه في معاشهم - فاذهبوا إليه بدراهمكم ، وخذوا منه الطعام ، فخرجوا إليه وهم عشرة وبقى " بنيامين " مع أبيه ، ودخلوا على يوسف - عليه السلام - وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف مع إخوته ، وظهور صدق ما أخبره الله - تعالى - عنه في قوله ليوسف حال ما ألقوه في الجب { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } وقد جاءوا إليه جميعاً - ما عدا " بنيامين " وهو الشقيق الأصغر ليوسف ليحصلوا منه على أكبر كمية من الطعام على حسب عددهم ، وليكون عندهم القدرة عل صد العدوان إذا ا تعرض لهم قطاع الطرق الذين يكثرون في أوقات الجدب والجوع .
وعبر عن معرفة يوسف لهم بالجملة الفعلية ، وعن جهلهم له بالجملة الإسمية للإشعار بأن معرفته لهم حصلت بمجرد رؤيته لهم ، أما هم فعدم معرفتهم له كان أمرا ثابتاً متمكناً منهم .
قال صاحب الكشاف : " لم يعرفوه لطول العهد ، ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ، واهتمامهم بشأنه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر ، حتى لو تخيلوا أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم ، ولأن الملك مما يبدل الزي ، ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف . . . "
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المجاعة التي حدثت في السبع السنين الشداد شملت مصر وما جاورها من البلاد - كما سبق أن أشرنا - .
كما يؤخذ منها أن مصر كانت محط أنظار المعسرين من مختلف البلاد بفضل حسن تدبير يوسف - عليه السلام - وأخذه الأمور بالعدالة والرحمة وسهره على مصالح الناس ، ومراقبته لشئون بيع الطعام ، وعدم الاعتماد على غيره حتى إن إخوته قد دخلوا عليه وحده ، دون غيره من المسئولين في مصر .
ذكر السُّدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهما من المفسرين : أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر ، أن يوسف ، عليه السلام ، لما باشر الوزارة بمصر ، ومضت السبع السنين المخصبة ، ثم تلتها سنينُ الجدب ، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها ، ووصل إلى بلاد كنعان ، وهي التي فيها يعقوب ، عليه السلام ، وأولاده . وحينئذ احتاط يوسف ، عليه السلام ، للناس في غلاتهم ، وجمعها أحسن{[15218]} جمع ، فحصل من ذلك مبلغ عظيم ، وأهراءَ متعددة هائلة ، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات ، يمتارون لأنفسهم وعيالهم ، فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة . وكان ، عليه السلام ، لا يشبع نفسه ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار ، حتى يتكفى الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين . وكان رحمة من الله على أهل مصر .
وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال ، وفي الثانية بالمتاع ، وفي الثالثة بكذا ، وفي الرابعة بكذا ، حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعدما تَمَلَّك عليهم جميع ما يملكون ، ثم أعتقهم وردّ عليهم أموالهم كلها ، الله{[15219]} أعلم بصحة ذلك ، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب .
والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوةُ يوسف ، عن أمر أبيهم لهم في ذلك ، فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه ، فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاما ، وركبوا عشرة نفر ، واحتبس يعقوب ، عليه السلام ، عنده بنيامين شقيق يوسف ، عليهما{[15220]} السلام ، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف . فلما دخلوا على يوسف ، وهو جالس في أبهته ورياسته وسيادته ، عرفهم حين نظر إليهم ، { وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : لا يعرفونه ؛ لأنهم فارقوه وهو صغير حدث فباعوه{[15221]} للسيارة ، ولم يدروا أين يذهبون به ، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه ، فلهذا لم يعرفوه ، وأما هو فعرفهم .
فذكر السدي وغيره : أنه شرع يخاطبهم ، فقال لهم كالمنكر عليهم : ما أقدمكم بلادي ؟ قالوا : أيها العزيز ، إنا قدمنا للميرة . قال : فلعلكم عيون ؟ قالوا : معاذ الله . قال : فمن أين أنتم ؟ قالوا : من بلاد كنعان ، وأبونا يعقوب نبي الله . قال : وله أولاد غيركم ؟ قالوا : نعم ، كنا اثني عشر ، فذهب أصغرنا ، هلك في البَرِيَّة ، وكان أحبنا إلى أبيه ، وبقي شقيقه فاحتبسه{[15222]} أبوه ليتسلى به عنه . فأمر بإنزالهم وإكرامهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَجاءَ إخْوةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ يوسف ، وَهُمْ ليوسف مُنْكِرونَ لا يعرفونه . وكان سبب مجيئهم يوسف فيما ذكر لي ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما اطمأنّ يوسف في ملكه ، وخرج من البلاء الذي كان فيه ، وخلت السنون المخصبة التي كان أمرهم بالإعداد فيها للسنين التي أخبرهم بها أنها كائنة ، جهد الناس في كلّ وجه ، وضربوا إلى مصر يلتمسون بها الميرة من كلّ بلدة . وكان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد ، قد أسا بينهم ، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيرا واحدا ، ولا يحمل للرجل الواحد بعيرين ، تقسيطا بين الناس ، وتوسيعا عليهم ، فقدم إخوته فيمن قدم عليه من الناس يلتمسون الميرة من مصر ، فعرفهم وهم له منكرون ، لما أراد الله أن يبلّغ ليوسف عليه السلام ما أراد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : أصاب الناس الجوع ، حتى أصاب بلاد يعقوب التي هو بها ، فبعث بنيه إلى مصر ، وأمسك أخا يوسف بنيامين فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون فلما نظر إليهم ، قال : أخبروني ما أمركم ، فإني أُنكِر شأنكم قالوا : نحن قوم من أرض الشأم . قال : فما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا نمتار طعاما . قال : كذبتم ، أنتم عيون كم أنتم ؟ قالوا : عشرة . قال : أنتم عشرة آلاف ، كل رجل منكم أمير ألف ، فأخبروني خبرَكم قالوا : إنا إخوة بنو رجل صِدّيق ، وإنا كنا اثني عشر ، وكان أبونا يحبّ أخا لنا ، وإنه ذهب معنا البرية فهلك منا فيها ، وكان أحبنا إلى أبينا . قال : فإلى من سكن أبوكم بعده ؟ قالوا : إلى أخ لنا أصغر منه . قال : فكيف تخبروني أن أباكم صدّيق وهو يحبّ الصغير منكم دون الكبير ؟ ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه فإنْ لَمْ تَأَتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أباهُ وإنّا لَفاعِلُونَ قال : فضعوا بعضكم رهينة حتى ترجعوا فوضعوا شمعون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال : لا يعرفونه .
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ( 58 ) }
قال السدي وغيره : سبب مجيئهم أن المجاعة التي أنذر بها يوسف أصابت البلاد التي كان بها يعقوب ، وروي أنه كان في العربات من أرض فلسطين بغور الشام . وقيل : كان بالأدلاج من ناحية الشعب{[6739]} ، وكان صاحب بادية له إبل وشاء ، فأصابهم الجوع ، وكان أهل مصر قد استعدوا وادخروا من السنين الخصيبة ، فكان الناس يمتارون من عند يوسف ، وهو في رتبة العزيز المتقدم ، وكان لا يعطي الوارد أكثر من حمل بعير ، يسوي بين الناس ، فلما ورد إخوته عرفهم يوسف ولم يعرفوه هم ، لبعد العهد وتغير سنه ، ولم يقع لهم - بسبب ملكه ولسانه القبطي - ظن عليه ؛ وروي في بعض القصص : أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم ، فباحثهم بأن قال لهم - بترجمان - أظنكم جواسيس ، فاحتاجوا - حينئذ - إلى التعريف بأنفسهم فقالوا : نحن أبناء رجل صديق ، وكنا اثني عشر ، ذهب واحد منا في البرية ، وبقي أصغرنا عند أبينا ، وجئنا نحن للميرة ، وسقنا بعير الباقي منا ، وكانوا عشرة ، ولهم أحد عشرة بعيراً ؛ فقال لهم يوسف : ولم تخلف أخوكم ؟ قالوا : لمحبة أبينا فيه ، قال : فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لِمَ أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين ؟ وروي في القصص أنهم وردوا مصر ، واستأذنوا على العزيز وانتسبوا في الاستئذان ، فعرفهم ، وأمر بإنزالهم ، وأدخلهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه وأهبة شنيعة ؛ وروي أنه كان متلثماً أبداً ستراً لجماله ، وأنه كان يأخذ الصواع فينقره ، ويفهم من طنينه صدق ما يحدث به أو كذبه ؛ فسئلوا عن أخبارهم ، فكلما صدقوا قال لهم يوسف : صدقتم ، فلما قالوا : وكان لنا أخ أكله الذئب ، طن يوسف الصاع وقال : كذبتم ، ثم تغير لهم ، وقال : أراكم جواسيس ، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم في ذلك ، في قصص طويل جاءت الإشارة إليه في القرآن وجيزة .