الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ} (58)

قالوا : فلمّا أطمأنّ بيوسف ملكه دخلت السنون المخصبة ، ودخلت السنون المجدبة أصاب الناس الجوع وجاءت تلك السنون [ . . . . . . . ] وكان ابتداء القحط ، بينا الملك ذات ليلة أصابه الجوع نصف الليل ، وهتف الملك : يا يوسف الجوع الجوع فقال : هذا أوّل القحط ، فلمّا دخلت السنة الأُولى من سنيّ الجدب هلك فيها كلّ شيء أعدّوه في السنين المخصبة ، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف ، فباعهم أوّل سنة بالنقود حتى لم يبق في مصر دينار ولا درهم إلاّ قبضه ، وباعهم في السنة الثانية بالحُليّ والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء ، وباعهم بالسنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع ، وباعهم بالسنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق عبد ولا أَمَة في يد أحد منهم ، ثمّ باعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها ، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقّهم ، وباعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حُرّة إلاّ صار عبداً له ، حتى قال الناس : تالله ما رأينا كاليوم ملكاً أجلّ ولا أعظم من هذا ، ثمّ قال يوسف لفرعون كيف رأيت صنيع ربّي فيما خوّلني ، فما ترى لي ؟ قال الملك : الرأي رأيك ، وإنّما نحن لك تبع ، قال : فإنّي أشهد وأشهدك أنّي أعتقتُ أهل مصر عن آخرهم ورددتُ عليهم أموالهم أملاكهم .

وروي أنّ يوسف ( عليه السلام ) كان لا يشبع من طعام في تلك الأيّام ، فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض ، فقال : أخاف أن شبعتُ أن أنسى الجائع ، وأمر يوسف أيضاً طباخي الملك أن جعلوا الغداة نصف النهار ، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين ، ويُحسن إلى المُحتاجين ، ففعل الطهاة ذلك ، ومن ثمّ جعلت الملوك غداءهم نصف النهار .

قالوا : وقصد الناس مصر من كلّ حدب يمتارون ، فجعل يوسف لا يمكّن أحداً منهم وإن كان عظيماً بأكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس وتوسّعاً عليهم ، وتزاحم الناس عليه ، قالوا : وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام من القحط والشدّة ما أصاب سائر البلاد ، ونزل بيعقوب ما نزل بالناس فأرسل بنيه إلى مصر للميرة ، فأمسك بنيامين أخا يوسف لأُمّه فذلك قوله تعالى : { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ } وكانوا عشرة ، وكان منزلهم بالقربات من أرض فلسطين ثغور الشام ، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة { فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ } يوسف وأنكروه لما أراد الله أن يبلغ يوسف فيما أراد .

قال ابن عباس : وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا مصر أربعين سنة فلذلك أنكروه وقيل : إنّه كان مُتّزياً بزيّ فرعون مصر ، عليه ثياب حرير ، جالس على سريره ، وفي عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج ، فلذلك لم يعرفوه ، وكان بينه وبينهم ستر ولذلك لم يعرفوه .

قال بعض الحكماء : المعصية تورث الكبرة ، قال الله تعالى : { فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } فلمّا نظر إليهم يوسف وكلّموه بالعبرانية ، قال لهم : أخبروني من أنتم ؟ وما أمركم ؟ فإنّي أنظر شأنكم ، قالوا : نحنُ قومٌ من أهل الشام رُعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار ، قال : لعلّكم عيون تنظرون عورة بلادي ، قالوا : والله ما نحن جواسيس وإنّما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صدّيق يُقال له : يعقوب ، نبي من أنبياء الله ، قال : وكم أنتم ؟

قالوا : كُنّا إثني عشر فذهب أخٌ لنا إلى البريّة فهلك فيها ، وكان أحبّنا إلى أبينا ، فقال : فكم أنتم ها هنا ، قالوا : عشره ، قال : فأين الآخر ؟ قالوا : عند أبينا لأنّه أخ الذي هلك من أُمّه ، وأبونا يتسلّى به ، قال : فمن يعلم أنّ الذي تقولون حقّ ؟ قالوا : أيّها الملك إنّا ببلاد لا يعرفنا أحد ، قال يوسف : فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين ، فأنا أرضى بذلك . قالوا : إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه وإنّا لفاعلون ، قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف وأبرّهم به فخلّفوه عنده ، فذلك قوله تعالى : { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } .