{ 10 - 12 } { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }
هذان المثلان اللذان ضربهما الله للمؤمنين والكافرين ، ليبين لهم أن اتصال الكافر بالمؤمن وقربه منه لا يفيده شيئًا ، وأن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئًا مع قيامه بالواجب عليه .
فكأن في ذلك إشارة وتحذيرًا لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، عن المعصية ، وأن اتصالهن به صلى الله عليه وسلم ، لا ينفعهن شيئًا مع الإساءة ، فقال :
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا } أي : المرأتان { تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } وهما نوح ، ولوط عليهما السلام .
{ فَخَانَتَاهُمَا } في الدين ، بأن كانتا على غير دين زوجيهما ، وهذا هو المراد بالخيانة لا خيانة النسب والفراش ، فإنه ما بغت امرأة نبي قط ، وما كان الله ليجعل امرأة أحد من أنبيائه بغيًا ، { فَلَمْ يُغْنِيَا } أي : نوح ولوط { عَنْهُمَا } أي : عن امرأتيهما { مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ } لهما { ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } .
وبعد هذه النداءات ، للمؤمنين ، وللكافرين وللنبى - صلى الله عليه وسلم - ضرب - سبحانه - مثلين لنساء كافرات فى بيوت أنبياء ، ولنساء مؤمنات فى بيوت كفار ، لتزداد الموعظة وضوحا ، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، وليشعر الجميع - ولا سيما أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - أنهم مسئولون أمام الله - تعالى - عن أعمالهم . . . فقال - تعالى - : { ضَرَبَ الله مَثَلاً . . . } .
المراد بضرب المثل . إيراد حالة غريبة ، ليعرف بها حالة أخرى مشابهة لها فى الغرابة . وقوله { مَثَلاً } مفعول ثان لضرب ، والمفعول الأول { امرأت نُوحٍ . . . } .
والمتدبر للقرآن الكريم ، يراه قد أكثر من ضرب الأمثال ، لأن فيها تقريبا للبعيد ، وتوضيحا للغريب وتشبيه الأمر المعقول بالأمر المحسوس ، حتى يرسخ فى الأذهان . .
أى : جعل الله - تعالى - مثلا لحال الكافرين ، وأنه لا يغنى أحد عن أحد { امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ } عليهما السلام .
وعدى الفعل { ضَرَبَ } باللام ، للإشعار بأن هذا المثل إنما سيق من أجل أن يعتبر به الذين كفروا ، وأن يقلعوا عن جهالاتهم التى جعلتهم يعتقدون أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة .
وقوله - تعالى - : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا . . } بيان لحال هاتين المرأتين ، ولما قامتا به من أفعال شائنة ، تتنافى مع صلتهما بهذين النبيين الكريمين . .
والمراد بالتحتية هنا : كونهما زوجين لهذين النبيين الكريمين ، وتحت عصمتهما وصيانتهما ، وأشد الناس التصاقا بهما .
وقال - سبحانه - { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ . . } للتعظيم ، أى : كانتا فى عصمة نبيين لهما من سمو المنزلة ما لهما عند الله - تعالى - .
ووصفهما - سبحانه - بالصلاح ، مع أنهما نبيان والنبوة أعظم هبة من الله لعبد من عباده - للتنويه بشأن الصالحين من الناس ، حتى يحرصوا على هذه الصفة ، ويتمسكوا بها ، فقد مدح الله - تعالى - من هذه صفاته فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } وخيانة امرأة نوح له ، كانت عن طريق إفشاء أسراره ، وقولها لقومه : إنه مجنون .
وخيانة امرأة لوط له ، كانت عن طريق إرشاد قومه إلى ضيوفه . . . مع استمرار هاتين المرأتين على كفرهما .
قال الإمام ابن كثير : قوله : { فَخَانَتَاهُمَا } أى : فى الإيمان ، لم يوافقا هما على الإيمان ، ولا صدقاهما فى الرسالة .
وليس المراد بقوله : { فَخَانَتَاهُمَا } فى فاحشة ، بل فى الدين ، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع فى الفاحشة .
وعن ابن عباس : قال : مازنتا ، أما امرأة نوح ، فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط ، فكانت تدل على قومها على أضيافه .
وفى رواية عنه قال : كانت خيانتهما أن امرأة نوح ، كانت تفشى سره ، فإذا آمن معه نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط ، فكانت إذا أضاف لوط أحدا ، أخبرت به أهل المدينة ممن يعلم السوء . .
وقوله - تعالى - : { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } بيان لما أصابهما من سوء العاقبة بسبب خيانتهما .
أى : أن نوحا ولوطا - عليهما السلام - مع جلالة قدرهما ، لم يستطيعا أن يدفعا شيئا من العذاب عن زوجتيهما الخائنتين لهما ، وإنما قيل لهاتين المرأتين عند موتهما .
أو يوم القيامة ، ادخلا النار مع سائر الداخلين من الكفرة الفجرة .
وقوله { شَيْئاً } منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله : { يُغْنِيَا } ، وجاء منكرا للتقليل والتحقير ، أى : فلم يغنيا عنهما شيئا من الإغناء حتى ولو كان قليلا . .
وقوله : { مَعَ الداخلين } بعد قوله : { ادخلا النار } لزيادة تبكيتها ، ولتأكيد مساواتهما فى العذاب مع غيرهما من الكافرين الخائنين الذين لا صلة لهما بالأنبياء من حيث القرابة أو ما يشبهها .
ثم قال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم ، أن ذلك لا يجدي عنهم شيئًا ولا ينفعهم عند الله ، إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم ، ثم ذكر المثل فقال : { اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } أي : نبيين رسولين عندهما في صحبتها{[29080]} ليلا ونهارًا يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط { فَخَانَتَاهُمَا } أي : في الإيمان ، لم يوافقاهما على الإيمان ، ولا صدقاهما في الرسالة ، فلم يُجْد ذلك كلَه شيئًا ، ولا دفع عنهما محذورا ؛ ولهذا قال : { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي : لكفرهما ، { وَقِيلَ } أي : للمرأتين : { ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } وليس المراد : { فَخَانَتَاهُمَا } في فاحشة ، بل في الدين ، فإن نساء الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة ؛ لحرمة الأنبياء ، كما قدمنا في سورة النور .
قال سفيان الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن قتة : سمعت ابن عباس يقول في هذه الآية { فَخَانَتَاهُمَا } قال : ما زنتا ، أما امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه .
وقال العَوفي ، عن ابن عباس قال : كانت خيانتهما أنهما كانتا على عَورتيهما فكانت امرأة نُوح تَطَلع على سر نُوح ، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء .
وهكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وغيرهم .
[ وقال الضحاك عن ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، إنما كانت خيانتهما في الدين ]{[29081]} .
وقد استدل بهذه الآية الكريمة بعضُ العلماء على ضعف الحديث الذي يأثرُه كثير من الناس : من أكل مع مغفور له غفر له . وهذا الحديث لا أصل له ، وإنما يروى هذا عن بعض الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال : يا رسول الله ، أنت قلت : من أكل مع مغفور له غفر ؟ قال : " لا ولكني الآن أقوله " {[29082]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : مَثّل الله مثلاً للذين كفروا من الناس وسائر الخلق امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا ، وهما نوح ولوط فخانتاهما .
ذُكر أن خيانة امرأة نوح زوجها أنها كانت كافرة ، وكانت تقول للناس : إنه مجنون . وأن خيانة إمرأة لوط ، أن لوطا كان يُسِرّ الضيف ، وتَدُلّ عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سلمان بن قيس ، عن ابن عباس ، قوله : فَخانَتاهُما قال : كانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون . وكانت امرأة لوط تَدُلّ على الضيف .
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : حدثنا إسماعيل بن عمر ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قيس ، قال : سمعت ابن عباس قال في هذه الاَية : أما امرأة نوح ، فكانت تخبر أنه مجنون وأما خيانة امرأة لوط ، فكانت تَدُلّ على لوط .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي عامر الهمداني ، عن الضحاك كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صَالِحَيْنِ قال : ما بغت امرأة نبيّ قط فَخانَتاهُما قال : في الدين خانتاهما .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً للّذِينَ كَفَرُوا امْرأةَ نُوح وَامْرأةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صَالِحَيْنِ فَخانَتاهُما قال : كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما ، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح ، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، فكان ذلك من أمرها وأما امرأة لوط فكانت إذا ضاف لوطا أحد خبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء فَلَمْ يُغُنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن أبي سعيد ، أنه سمع عكرمة يقول في هذه الاَية فَخانَتاهُما قال : في الدين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صَالِحَيْنِ فَخانَتاهُما قال : وكانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : عبيد بن سليمان ، عن الضحاك فَخانَتاهُما قال : كانتا مخالفتين دين النبيّ صلى الله عليه وسلم كافرتين بالله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، قال : سألت سعيد بن جبير : ما كانت خيانة امرأة لوط وامرأة نوح ؟ فقال : أما امرأة لوط ، فإنها كانت تدلّ على الأضياف وأما امرأة نوح فلا علم لي بها .
وقوله : فَلَمْ يُغْنيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئا يقول : فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما من الله لما عاقبهما على خيانتهما أزواجهما شيئا ، ولم ينفعهما أن كانت أزواجهما أنبياء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرأةَ نُوحٍ وامْرأةَ لُوط . . . الاَية ، هاتان زوجتا نَبِيّي الله لما عصتا ربهما ، لم يغن أزواجهما عنهما من الله شيئا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرأةَ نُوحٍ وامْرأةَ لُوطٍ . . . الاَية ، قال : يقول الله : لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئا ، وامرأة فرعون لم يضرّها كفر فرعون .
وقوله : وَقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ قال الله لهما يوم القيامة : ادخلا أيتها المرأتان نار جهنم مع الداخلين فيها .
واختلف الناس في خيانة هاتين المرأتين ، فقال ابن عباس وغيره : خانتا في الكفر ، وفي أن امرأة نوح كانت تقول للناس : إنه مجنون ، وأن امرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى ورده ضيف فتخبر به ، وقال ابن عباس : وما بغت زوجة نبي قط ، ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا ، وقال الحسن في كتاب النقاش : خانتاهما بالكفر والزنا وغيره ، وقرأ الجمهور : «يغنيا » بالياء ، وقرأ مبشر بن عبيد : «تغنيا » بالتاء من فوق .