{ 3 - 4 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
يأمر تعالى ، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم ، وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح انقيادا ، فإن ذكر نعمه تعالى داع لشكره ، ثم نبههم على أصول النعم ، وهي الخلق والرزق ، فقال : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }
ولما كان من المعلوم أنه ليس أحد يخلق ويرزق إلا اللّه ، نتج من ذلك ، أن كان ذلك دليلا على ألوهيته وعبوديته ، ولهذا قال : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : تصرفون عن عبادة الخالق الرازق لعبادة المخلوق المرزوق .
ثم وجه - سبحانه - نداء الى الناس . أمرهم فيه بذكره وشكره فقال : { ياأيها الناس اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السمآء والأرض } .
والمراد من ذكر النعمة : ذكرها باللسان وبالقلب ، وشكر الله تعالى عليها ، واستعمالها فيما خلقت له .
والمراد بالنعمة هنا : النعم الكثيرة التى أنعم بها - سبحانه - على الناس . كنعمة خلقهم ، ورزقهم ، وتسخير كثير من الكائنات لهم .
والاستفهام فى قوله : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ } للنفى والإِنكار ، أى : يأيها الناس اذكروا بألسنتكم وقلوبكم ، نعم الله - تعالى - عليكم ، واشكروه عليها . واستعملوها فى الوجوه التى أمركم باستعمالها فيها ، واعلموا أنه لا خالق غير الله - تعالى يرزقكم من السماء بالمطر وغيره ، ويرزقكم من الأرض بالنبات والزروع والثمار وما يشبه ذلك من الأرزاق التى فيها حياتكم وبقاؤكم .
وقوله - تعالى - { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } جملة مستأنفة لتقرير النفى المستفاد مما قبله أى : لا إله مستحق للعبادة والطاعة إلا الله - تعالى - ، إذ هو الخالق لكم ، وهو الذى أعطاكم النعم التى لا تعد ولا تحصى .
{ فأنى تُؤْفَكُونَ } أى : وما دام الأمر كذلك : فكيف تصرفون عن إخلاص العبادة لخالقكم ورازقكم ، إلى الشرك فى عبادته .
فقوله { تُؤْفَكُونَ } من الأفك - بالفتح - بمعنى الصرف والقلب يقال : أفكه عن الشئ ، إذا صرفه عنه ، ومنه قوله - تعالى - : { قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا . . } أى : لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا .
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له ، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فَليفرد بالعبادة{[24448]} ، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ؛ ولهذا قال : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }{[24449]} ، أي : فكيف تؤفكون{[24450]} بعد هذا البيان ، ووضوح هذا البرهان ، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قُرَيش : يَا أيّهَا الناسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ التي أنعمها عَلَيْكُم بفتحه لكم من خيراته ما فتح وبَسْطِه لكم من العيش ما بسط وفكّروا فانظروا هل من خالق سوى فاطر السموات والأرض الذي بيده مفاتيح أرزاقكم ومغالقها يَرْزُقُكُم مِنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ فتعبدوه دونه لا إلَهَ إلاّ هُوَ يقول : لا معبود تنبغي له العبادة إلا الذي فطر السموات والأرض ، القادر على كلّ شيء ، الذي بيده مفاتح الأشياء وخزائنها ، ومغالق ذلك كله ، فلا تعبدوا أيها الناس شيئا سواه ، فإنه لا يقدر على نفعكم وضرّكم سواه ، فله فأخلصوا العبادة ، وإياه فأفردوا بالألوهة فَأنّى تُؤْفَكُونَ يقول : فأيّ وجه عن خالقكم ورازقكم الذي بيده نفعكم وضرّكم تصرفون ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأنّى تُؤْفَكُونَ يقول الرجل : إنه ليوفك عنى كذا وكذا .
وقد بيّنت معنى الإفك ، وتأويل قوله : تُؤْفَكُونَ فيما مضى بشواهده المغنية عن تكريره .
ثم لما بين أنه الموجد للملك والملوك والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس بشكر إنعامه فقال : { يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم } احفظوا بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاقة موليها ، ثم أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل فيستحق أن يشرك به بقوله : { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى إشراك غيره به ، ورفع { غير } للحمل على محل { من خالق } بأنه وصف أو بدل ، فإن الاستفهام بمعنى النفي ، أو لأنه فاعل { خالق } وجره حمزة والكسائي حملا على لفظه ، وقد نصب على الاستثناء ، و { يرزقكم } صفة ل { خالق } أو استئناف مفسر له أو كلام مبتدأ ، وعلى الأخير يكون إطلاق { هل من خالق } مانعا من إطلاقه على غير الله .
وقوله { يا أيها الناس } خطاب لقريش وهو متجه لكل كافر ، ولا سيما لعباد غير الله ، وذكرهم تعالى بنعمة الله عليهم في خلقهم وإيجادهم ، ثم استفهمهم على جهة التقرير والتوقيف بقوله { هل من خالق غير الله } أي فليس إله إلا الخالق لا ما تعبدون أنتم من الأصنام ، وقرأ حمزة والكسائي «غيرِ » بالخفض نعتاً على اللفظ وخبر الابتداء { يرزقكم } وهي قراءة أبي جعفر وشقيق وابن وثاب ، وقرأ الباقون غير نافع بالرفع ، وهي قراءة شيبة بن نصاح وعيسى والحسن بن أبي الحسن ، وذلك يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها النعت على الموضع والخبر مضمر تقديره في الوجود أو في العالم وأن يكون «غيرُ » خبر الابتداء الذي هو في المجرور والرفع على الاستثناء ، كأنه قال هل خالق إلا الله ، فجرت «غير » مجرى الفاعل بعد { إلا }{[9690]} ، وقوله { من السماء } يريد بالمطر ومن { الأرض } يريد بالنبات ، وقوله { فأنى تؤفكون } معناه فلأي وجه تصرفون عن الحق .