{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } الله تعالى بفعل المأمور ، واجتناب المحظور { وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فِيهَا جِثِيًّا } وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم ، وجب لهم{[512]} الخلود ، وحق عليهم العذاب ، وتقطعت بهم الأسباب .
يضاف إلى ذلك أن قوله - تعالى - بعد هذه الآية : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } قرينة قوية على أن المراد بقوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا .
. . } أى : داخلها سواء أكان مؤمناً أم كافراً ، إلا أنه - سبحانه - بفضله وكرمه ينجى الذين اتقوا من حرها ، ويترك الظالمين يصطلون بسعيرها .
كذلك مما يشهد بأن الورود بمعنى الدخول ، ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد ؛ والترمذى ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، والحاكم . . . عن أبى سمية قال : اختلفنا فى الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون يدخلونها جميعاً ، ثم ينجى الله الذين اتقوا .
قال : فلقيت جابر بن عبد الله - رضى الله عنهما - فذكرت له ذلك فقال - وأهوى بإصبعه على أذنيه - صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً ، كما كانت على إبراهيم ؛ حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم ، ثم ينجى الله الذين اتقوا ، ويذر الظالمين فيها جثيا " .
ولا يمنع من كون الورود بمعنى الدخول قوله - تعالى - { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا . . . } لأن دخول المؤمنين فيها لا يجعلهم يشعرون بحرها أو حسيسها ، وإنما هى تكون برداً وسلاماً عليهم ، كما جاء فى الحديث الشريف .
قال الإمام القرطبى بعد أن توسع فى ذكر هذه الأقوال : " وظاهر الورود الدخول . . . إلا أنها تكون برداً وسلاماً على المؤمنين ، وينجون منها سالمين . قال خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يقل ربنا : إنا نرد النار فيقال لهم : لقد وردتموها فألفيتموها رماداً .
قلت : وهذا القول يجمع شتات الأقوال ، فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها ، فقد أبعد عنها ونجى منها ، نجانا الله - تعالى - منها بفضله وكرمه ، وجعلنا ممن وردها فدخلها سالماً ، وخرج منها غانماً .
فإن قيل : فهل يدخل الأنبياء النار ؟ قلنا : لا نطلق هذا ، ولكن نقول : إن الخلق جميعاً يردونها - كما دل عليه حديث جابر - فالعصاة يدخلونها بجرائمهم ، والأولياء والسعداء لشفاعتهم ، فبين الدخولين بون . . . " .
والمعنى : وما منكم - أيها الناس - أحد إلا وهو داخل النار ، سواء أكان مسلماً أم كافراً ، إلا أنها تكون برداً وسلاماً على المؤمنين . وهذا الدخول فيها كان على ربك أمراً واجباً ومحتوماً ، بمقتضى حكمته الإلهية ، لا بإيجاب أحد عليه .
{ ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } أى : ثم بعد دخول الناس جميعاً النار ، ننجى الذين اتقوا ، فنخرجهم منها دون أن يذوقوا حرها { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } أى : ونترك الظالمين فى النار مخلدين فيها . جاثين على ركبهم ، عاجزين عن الحركة ، من شدة ما يصيبهم من هولها وسعيرها .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا أقوال الجاحدين فى شأن البعث والحساب ، وردت عليهم رداً يبطل اقوالهم ، كما أثبتت أن البعث حق ، وأن الحساب حق ، وأن الظالمين سيدخلون النار ، وأن المؤمنين سينجيهم الله - تعالى - بفضله منها .
وقوله : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } أي : إذا مرّ الخلائق كلهم على النار ، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي ، بحسبهم ، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم . فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا ، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين ، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون{[19081]} ، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار ، إلا دارات وجوههم - وهي مواضع السجود - وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان ، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ، [ ثم الذي يليه ]{[19082]} حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار
من قال يومًا من الدهر : " لا إله إلا الله " {[19083]} وإن لم يعمل خيرًا قط ، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود ، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا }
القول في تأويل قوله تعالى { ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : ثم ننجي من النار بعد ورود جميعهم إياها ، الذين اتقوا فخافوه ، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيّا يقول جلّ ثناؤه : وندع الذين ظلموا أنفسهم ، فعبدوا غير الله ، وعصَوا ربهم ، وخالفوا أمره ونهيه من النار ، جثيا ، يقول : بروكا على ركبهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جثِيا على ركبهم .
حدثنا الحسن ابن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وَنَذَرُ الظّالِمينَ فِيها جِثِيّا على ركبهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيّا قال : الجُثِيّ : شرّ الجلوس ، لا يجلس الرجل جاثيا إلاّ عند كرب ينزل به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَوْا وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيّا إن الناس وردوا جهنم وهي سوداء مظلمة ، فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم ، فأنجوا منها . وأما الكفار فأوبقتهم أعمالهم ، واحْتُبِسوا بذنوبهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم ننجي من النار بعد ورود جميعهم إياها، الذين اتقوا فخافوه، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
"وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيّا" يقول جلّ ثناؤه: وندع الذين ظلموا أنفسهم، فعبدوا غير الله، وعصَوا ربهم، وخالفوا أمره ونهيه من النار، جثيا، يقول: بروكا على ركبهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ثم ننجي الذين اتقوا} الشرك والفواحش {ونذر الظالمين فيها جثيا} على ركبهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يُنَجِّي مَنْ كان مؤمناً، بعضهم قَبْلَ بعض، وبعضهم بَعْدَ بعض، ولكن لا يبقى من المؤمنين مَنْ لا ينجيهم. ويترك الكفار فيها بنعت الخيبة عن الخروج منها، وعند ذلك يشتدُّ عليهم البلاء، وتُطْبقُ عليهم أبوابُ جهنم، وينقطع منهم الرجاء والأمل. وإنما ينجو القوم بحسب تقواهم؛ فزيادة التقوى توجِب لهم التعجيل في النجاة؛ فمن سابقٍ ومن لاحقٍ، ومن منقطع، ومن محترق... إلى كثيرٍ من الأصناف والألوان...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
النجاة: تخليص الواقع في الشيء.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي: إذا مرّ الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي، بحسبهم، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم. فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار، إلا دارات وجوههم -وهي مواضع السجود- وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار من قال يومًا من الدهر:"لا إله إلا الله" وإن لم يعمل خيرًا قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الخلاص منها بعد ذلك مستبعداً، قال مشيراً إليه بأداة البعد: {ثم ننجي} أي تنجية عظيمة على قراءة الجماعة، ومطلق إنجاء على قراءة الكسائي، وكأن ذلك باختلاف أحوال الناس مع أن المطلق لا ينافي المقيد {الذين اتقوا} أي كانوا متقين منها بأن تكون عليهم حال الورود برداً وسلاماً {ونذر الظالمين} أي نترك على أخبث الأحوال الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها واستمروا على ذلك فكانوا في أفعالهم خابطين كالأعمى {فيها جثياً} كما كانوا حولها لا يهتدون إلى وجه يخلصون به منها.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وخولف بين قوله تعالى: {اتقوا} وقوله سبحانه: {الظالمين} ليؤذن بترجيح جانب الرحمة وأن التوحيد هو المنجي والإشراك هو المردي فكأنه قيل: ثم ننجي من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه، وفي إيقاع {نذر} مقابلاً لننجي إشعار بتلك اللطيفة أيضاً، قال الراغب: يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به. ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لا يعتد بها وذر، وجيء بثم للإيذان بالتفاوت بين فعل الخلق وهو ورودهم النار وفعل الحق سبحانه وهو النجاة والدمار زماناً ورتبة قاله العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه، والذي تقتضيه الآثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال: إن التنجية المذكورة ليست دفعية بل تحصل أولاً فأولاً على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق إن المؤمن لا تضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {ثمّ ننجي الذين اتّقوا} زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنّهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النّار بموقّت بأجل. و {ثمّ} للترتيب الرتبي تنويهاً بإنجاء الذين اتّقوا وتشويهاً بحال الذين يبقون في جهنم جُثيّاً. فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتّقوا من ورود جهنم. وليس المعنى: ثمّ ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نَجَوْا من الورود إلى النّار. وذكر إنجاء المتقين: أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين. والتعبير بالّذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار. والأصل: ونذركم أيها الظالمون. ونذر: نترك، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه، أمات العرب ماضي (نذر) استغناء عنه بماضي (ترك)، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} في سورة الأنعام (91). فليس الخطاب في قوله وإن منكم إلاّ واردها} لجميع النّاس مؤمنهم وكافِرِهم على معنى ابتداء كلام؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النّار مع الكافرين ثم يُنْجوَن من عذابها، لأنّ هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة، ولأنّ فضل الله على المؤمنين بالجنّة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مَساقاً واحداً، كيف وقد صُدّر الكلام بقوله {فوربك لنحشرنهم والشياطين} [مريم: 68] وقال تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} [مريم: 85، 86]، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين. فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} [الحجر: 43] عقب قوله {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42]. فلا يتوهم أن جهنّم موعد عباد الله المخلصين مع تقدّم ذكره لأنّه ينبو عنه مقام الثناء. وذكر فعل {نَذَرُ} هنا دون غيره للإشعار بالتحقير، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم، لأن في فعل الترك معنى الإهمال.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وبعد أن يردها الجميع يصطفي الله تعالى ممن وردها المؤمنين الثقاة، فينجيهم منها، ولذا يقول تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}. العطف ب {ثم} هنا للتفاوت البعيد بين النجاة التي كتبها الله للذين اتقوا، والصلي الذي كان لأولى الناس بالصلي في علم الله تعالى، والنجاة تكون للذين اتقوا العذاب ولم يشركوا بالله شيئا فلم يعبدوا الأوثان، ولم يفتنوا أحدا في دينه، ولم يكفروا بآيات الله تعالى ووحدانيته، وذكر الموصول يدل على أن الصلة وهي التقوى السبب في الإنجاء أو التنجية، والتنجية هي المبالغة في النجاة. هذا بالنسبة للمتقين، أما الكافرون فقال الله تعالى فيهم: {ونذر الظالمين فيها جثيا}، أي جاثين على ركبهم ذلا وفزعا ورعبا وألما، والجثي تصوير لحالهم بالحس الدال على أنهم في أشد الفزع والألم، و {نذر} معناها نتركهم، وعبر سبحانه وتعالى عن الكافرين ب {الظالمين}، لأنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وإشراكهم، وظلموا الناس بفسادهم، وظلموهم بالفتنة والصد عن سبيل الله في معاملتهم للمخالفين لهم، وظلموا الحق بجحودهم مع رؤية آياته: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا...14} (النمل).