{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } أي : من فضله وإحسانه ، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن ، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته ، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه ، ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وجملة ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته ، وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه ، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة دال على سعة ملكه وسلطانه ، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات دليل على أنه الفعال لما يريد ، وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل على سعة رحمته ، وشمول فضله وإحسانه وبديع لطفه وبره ، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له ، وأن رسله صادقون فيما جاءوا به ، فهذه أدلة عقلية واضحة لا تقبل ريبا ولا شكا .
وقوله - تعالى - : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ . . } تعميم بعد تخصيص .
أي : يسر لكم الانتفاع بما في البحر من خيرات ، ويسر لكم - أيضاً - الانتفاع بكل ما في السماوات والأرض من نعم لا تعد ولا تحصى ، وكلها منه - تعالى - وحده ، لا من أحد سواه .
فقوله : { جَمِيعاً } حال من { وَمَا فِي الأرض } ، أو تأكيد له . والضمير في قوله - { مِّنْهُ } - يعود إلى الله - عز وجل - ، والجار والمجرور حال من { مَا } أيضا ، أي : جميعا كائنا منه - تعالى - لا من غيره .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى { مِّنْهُ } في قوله : { جَمِيعاً مِّنْهُ } ؟ وما موقعها من الإِعراب ؟
قلت : هي واقعة موقع الحال . والمعنى : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده . يعنى أنه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ، ثم سخرها لخلقه ، ويجوز أن يكون خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هي جميعا منه .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } المذكور من تسخير البحر وما في السماوات والأرض لكم { لآيَاتٍ } ساطعات ، وعلامات واضحات ، ودلائل بينات ، على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وفضله { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في هذه النعم ، ويحسنون شكرها .
وخص المتفكرين بالذكر ، لأنهم هم الذين ينتفعون بما بين أيديهم من نعم ، إذ بالتفكر السليم ينتقل العاقل من مرحلة الظن ، إلى مرحلة اليقين ، التي يجزم معها بأن المستحق للعبادة والحمد ، إنما هو الله رب العالمين .
ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : من الكواكب والجبال ، والبحار والأنهار ، وجميع ما تنتفعون به ، أي : الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ؛ ولهذا قال : { جَمِيعًا مِنْهُ } أي : من عنده وحده لا شريك له في ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] .
وروى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } كل شيء هو من الله ، وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه ، فذلك جميعا منه ، ولا ينازعه فيه المنازعون ، واستيقن أنه كذلك .
وقال{[26310]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خَلَف العسقلاني ، حدثنا الفِرْياني ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المِنْهال بن عمرو ، عن أبي أراكة قال : سأل رجل عبد الله بن عمرو قال : مم خلق الخلق ؟ قال : من النور والنار ، والظلمة والثرى . قال وائت ابن عباس فاسأله . فأتاه فقال له مثل ذلك ، فقال : ارجع إليه فسله : مم خلق ذلك كله ؟ فرجع إليه فسأله ، فتلا { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } هذا أثر غريب ، وفيه نكارة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.