{ 17 - 24 } { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِم } إلى قوله :
{ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض ، من الذين أوتوا الكتاب ، من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ، ومن المجوس ، ومن المشركين أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة ، ويفصل بينهم بحكمه العدل ، ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله :
ثم بين - سبحانه - أن مرد الفصل بين الفرق المختلفة إليه وحده . إذ هو العليم بكل ما عليه كل فرقة من حق أو باطل ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ . . . } .
فى هذه الآية الكريمة حدثنا القرآن عن ست فرق من الناس : أما الفرقة الأولى ، فهى : فرقة الذين آمنوا ، والمراد بهم : الذين آمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وصدقوه واتبعوه .
وابتدأ القرآن بهم ، للإشعار بأن دين الإسلام هو الدين الحق ، القائم على أساس أن الفوز برضا الله - تعالى - لا ينال إلا الإيمان والعمل الصالح ، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } وأما الفرقة الثانية فهى فرقة الذين هادوا أى : صاروا يهودا . يقال : هاد فلان وتهود أى : دخل فى اليهودية .
وسموا يهودا نسبة إلى " يهوذا " أحد أولاد يعقوب - عليه السلام - ، وقلبت الذال دال عند التعريب . أو سموا يهودا حين تابوا من عبادة العجل مأخوذ من هاد يهود هودا بمعنى تاب . ومنه قوله - تعالى - : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } أى : تبنا إليك .
والفرقة الثالثة هى فرقة " الصابئين " جمع صابئ ، وهو الخارج من دين إلى آخر .
يقال : صبأ الظِّلْف والناب والنجم - كمنع وكرم - إذا طلع .
والمراد بهم : الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل . وهم قوم يعبدون الكواكب والملائكة ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث ابن آدم .
والفرقة الرابعة هى فرقة " النصارى " جمع نصران بمعنى نصرانى كندامى وندمان . والياء فى نصرانى للمبالغة ، وهم قوم عيسى - عليه السلام - ، قيل : سموا بذلك لأنهم كانوا أنصارا له : وقيل : إن هذا الاسم مأخوذ من الناصرة ، وهى القرية التى كان عيسى قد نزل بها .
وأما الفرقة الخامسة فهى فرقة " المجوس " وهم قوم يعبدون الشمس والقمر والنار . وقيل : هم قوم أخذوا من دين النصارى شيئاً ، ومن دين اليهود شيئاً ، ويقولون : بأن للعالم أصلين : نوراً وظلمة . . .
وأما الفرقة السادسة والأخيرة فهى فرقة الذين أشركوا . والمشهودر أنهم عبدة الأصنام والأوثان ، وقيل ما يشملهم ويشمل معهم كل من اتخذ مع الله - تعالى - إلها آخر .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } بيان لما سيكون عليه حالهم جميعاً يوم القيامة ، من حكم عادل سيحكم الله - تعالى - به عليهم .
أى : إن الله تعالى يحكم بين هؤلاء جميعاً بحكمه العادل يوم القيامة ، إنه - سبحانه - على كل شىء شهيد ، بحيث لا يخفى عليه شىء من أحوال خلقه .
قال الجمل ما ملخصه : ولهذه الآية قيل : الأديان ستة . واحد للرحمن وهو الإسلام . وخمسة للشيطان وهى ما عداه . وإنَّ الثانية واسمها وخبرها فى محل رفع خبر لإن الأولى .
وقوله : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } تعليل لقوله : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ . . } وكأن قائلاً قال : أهذا الفصل عن علم أو لا ؟ فقيل : إن الله على كل شىء شهيد . أى : علم به علم مشاهدة " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين} قوم يعبدون الملائكة، ويصلون للقبلة، ويقرأون الزبور. {والمجوس} يعبدون الشمس، والقمر، والنيران، {والذين أشركوا} يعني: مشركي العرب يعبدون الأوثان، فالأديان ستة، فواحد لله، عز وجل، وهو الإسلام، وخمسة للشيطان.
{إن الله يفصل} يعني: يحكم {بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء} من أعمالهم {شهيد}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الفصل بين هؤلاء المنافقين الذين يعبدون الله على حرف، والذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام، والذين هادوا، وهم اليهود والصابئين والنصارى والمجوس الذي عظموا النيران وخدموها، وبين الذين آمنوا بالله ورسله، إلى الله، وسيفصل بينهم يوم القيامة بعدل من القضاء، وفصله بينهم؛ إدخاله النار الأحزاب كلهم، والجنة المؤمنين به وبرسله، فذلك هو الفصل من الله بينهم...
وقوله:"إنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" يقول: إن الله على كل شيء من أعمال هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله جلّ ثناؤه، وغير ذلك من الأشياء كلها شهيد لا يخفى عنه شيء من ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله يفصل بينهم يوم القيامة} يحتمل قوله: {يفصل بينهم} يحكم بين هؤلاء يوم القيامة لاختلافهم في الدنيا... ويحتمل قوله: {يفصل بينهم يوم القيامة} في المقام؛ يبعث هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار. فذلك الفصل بينهم. وجائز أن يكون قوله: {يفصل} أي يبين لهم الحق من الباطل حتى يقروا جميعا بالحق، ويؤمنوا به، ولكن لا ينفعهم ذلك يومئذ.
{إن الله على كل شيء شهيد} من أعمالهم وأفعالهم وأقرارهم وأقوالهم وجميع ما كان منهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أصناف الناس على اختلاف مراتبهم: الوليُّ والعدوُّ، والموحِّد والجاحد يُجْمَعُون يومَ الحشر، ثم الحقُّ -سبحانه- يعامِل كلاً بما وَعَدَه؛ إما بوصالٍ بلا مَدَى، أو بأحوالٍ بلا منتهى. الوقتُ واحد؛ وكلٌّ واحدٍ لما أُعِدَّ له وافد، وعلى ما خُلِقَ له وارد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً، فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} عالم به حافظ له فلينظر كل امرىء معتقده، وقوله وفعله، وهو أبلغ وعيد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ذلك موجباً للسؤال، عن حال الفريقين: المهدي والضال، أجاب عن ذلك ببيان جميع فرق الضلال، لأن لهذه السورة أتم نظر إلى يوم الجمع الذي هو مقصود السورة التي قبلها، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويراً لذلك اليوم بأليق صورة، وقرن بكل من فريقي أهل الكتاب موافقة في معناه فقال: {إن الذين ءامنوا} أي من أيّ فرقة كانوا، وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان، الذي هو أدنى وجوه الإيمان {والذين هادوا} أي انتحلوا اليهودية، على أيّ حال كانوا من إيمان أو كفران.
ولما كان اليهود عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم كما مضى في المائدة، أتبعهم من شابهوه فقال: {والصابئين} ثم تلا بثاني فريقي أهل الكتاب فقال: {والنصارى} ثم أتبعهم من أشبهه بعض فرقهم في قولهم بإلهين اثنين فقال: {والمجوس} وهم عبدة النار؛ ثم ختم بأعم الكل في الضلال كما فتح بأعمهم في الهدى فقال: {والذين أشركوا} لشموله كل شرك حتى الأصغر من الربا وغيره. {إن الله} أي الملك الأعظم الذي له الملك كله وهو أحكم الحاكمين {يفصل بينهم يوم القيامة} فيجازي كلاَّ بعمله على ما يقتضيه في مجاري عاداتكم، ويقتص لبعضهم من بعض، ويميز الخبيث منهم من الطيب؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال {على كل شيء} من الأشياء كلها {شهيد} فلا شيء إلا وهو به عليم، فهو لذلك على كل شيء قدير، كما مضى بيانه في {وسع كل شيء علماً} [طه: 98] في طه. وقال الحرالي في شرح الأسماء الحسنى: الشهادة رؤية خبرة بطية الشيء ودخلته ممن له غنى في أمره، فلا شهادة إلا بخبرة وغنى ممن له اعتدال في نفسه بأن لا يحيف على غيره، فيكون ميزان عدل بينه وبين غيره، فيحق له أن يكون ميزاناً بين كل متداعيين ممن يحيط بخبرة أمرهما {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة: 143] وبحسب إحاطة علم الشهيد ترهب شهادته، ولذلك أرهب شهادة شهادة الله على خلقه {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} [الأنعام: 19] ولما كان أيّما الإحاطة والخبرة والرقبة لله كان بالحقيقة لا شهيد إلا هو -انتهى.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
إن الله يقضي بين هذه الفرق، ويجازي كلا بما يفعل، ويضعه في الموضع اللائق به، إذ ليس شيء من أحوالهم بغائب عنه، بل هو عليم بأقوالهم مراقب لأفعالهم. وخلاصة ذلك: إنه تعالى يحكم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ويلقي من كفر به في جهنم، و بئس القرار، وهو الشهيد على أعمالهم، الحفيظ لأفعالهم، العليم بسرائرهم، وما تكنه ضمائرهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض، من الذين أوتوا الكتاب، من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، ومن المجوس، ومن المشركين أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل، ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فذلكة لما تقدم، لأنه لما اشتملت الآيات السابقة على بيان أحوال المترددين في قبول الإسلام كان ذلك مثاراً لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان، وأن يسأل عن الدين الحق لأن كل أمة تدَّعي أنها على الحق وغيرها على الباطل وتجادل في ذلك.
فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون يوم القيامة، إذ لم تفدهم الحجج في الدنيا.
وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض، ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه، لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق وهو كقوله تعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} [الشورى: 15] وذلك من قبيل الكناية التعريضية.
وذِكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية العقود.
وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين، لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة. وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل المِلل، فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر...
والفصل: الحكم، أي يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من تصحيح الديانة.
وجملة {إن الله على كل شيء شهيد} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً للإعلام بإحاطة علم الله بأحوالهم واختلافهم والصحيح من أقوالهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الناس جميعا يوم القيامة تميزهم أعمالهم، وهي التي ينالون بها الجزاء عقابا أو ثوابا، والفاصل بينهم هو أحكم الحاكمين رب العالمين وأعمالهم هي التي تقدمهم...
وإن ذكر هؤلاء جميعا في موضوع واحد متعاطفين يدل على أمرين: الأمر الأول- أنه لا عبرة في إجابة النبيين إلى اختلاف الملل والنحل، بل الجميع أمام الرسالات الإلهية على سواء، فمن أسرف وظلم كان حسابه عسيرا، ومن آمن واهتدى كان من الله قريبا، وإن الله سيفصل بينهم. الأمر الثاني- أن الله وحده هو الذي يبين يوم القيامة: الحق فيثيب أهله، والباطل فيعذب الذين تردوا فيه، ولذا قال تعالى: {إن الله يفصل بينهم يوم القيامة} الفصل بين الأشياء والأشخاص إبانة كل بخيره وشره، والفصل بين الأقوال تبين صادقها من كاذبها، وحقها من باطلها، وكذلك الفصل بين النحل وأصحابها، أي بيان الحق فيها والباطل منها، وجزاء أهل الباطل، وثواب أهل الحق، وإن ذلك الفصل هو الحق، لأن الفاصل هو الله تعالى، وهو خير الفاصلين، ولأنه العالم بكل شيء وبهم جميعا، ولذا قال تعالى: {إن الله على كل شيء شهيد}، أي عالم علم من شاهد وعاين، فهو حكم مؤيد بأسبابه، وشاهده الأكبر، وقوله تعالى: {على كل شيء شهيد} فيه التعدية ب"على" إشارة إلى معنى الرقابة عليهم، والإحاطة بهم، وهو بكل شيء محيط، لأن كل شيء خاضع له سبحانه...
فهذه ست طوائف مختلفة ذكرتهم الآية، فما حكم هؤلاء جميعا بعد بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم). نقول: أما المشركون الذين عبدوا الأصنام، وكذلك الذين عبدوا النبوة المدعاة، فهؤلاء كفار ضائعون. أما اليهود والنصارى الذين يؤمنون بإله فاعل مختار، ويؤمنون بنبوة صادقة، فشأنهم بعد ظهور الإسلام، أن الله تعالى أقام لنا تصفية آخر الأمر لهذه الديانات، فمن كان يهوديا قبل الإسلام، ومن كان نصرانيا قبل الإسلام، فإن الله أجرى لهم تصفية عقدية في الإسلام، فإن كانوا مؤمنين الإيمان الأول بالله تعالى فعليهم أن يبدأوا من جديد مؤمنين مسلمين...
وقد جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) رحمة للعالمين، وجامعا للأديان كلها في الإسلام الذي زاد عليها ما زاد مما تقتضيه أمور الحياة وتطورات العصر، إلى أن تقوم الساعة. جاء الإسلام تصفية لهؤلاء، استأنفوها بإيمان، واستأنفوها بعمل صالح، فكان لهم أجرهم كاملا عند ربهم لا يطعن فيهم دينهم السابق، ولا عقائدهم الفاسدة الكافرة...
أما إن حدث خلاف حول النبوات كما تذكر الآية التي نحن بصددها: {إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}، والفصل أن نعرف من المحق ومن المبطل، وهكذا جمعت الآيات بين حالة الاتفاق وحالة الاختلاف وبينت جزاء كل منهما. فالفصل إما فصل أماكن، وإما فصل جزاءات، قالوا: بالطبع فالحكم بينهم: هذا محق وهذا مبطل سيؤدي إلى اختلاف الأماكن واختلاف الجزاءات...
ومن العجيب أن الحكم والفصل من الحق سبحانه يشمل كل السلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية، فحكمه سبحانه لا يؤجل ولا يتحايل عليه، ولا تضيع فيه الحقوق كما تضيع في سراديب وأدراج المحاكم. أما حكم البشر فينفصل فيه التشريع عن القضاء عن التنفيذ، فربما صدر الحكم وتعطل تنفيذه، أما حكم الله فنافذ لا يؤجله شيء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتستمر الخلافات حول العقيدة والشريعة والحياة والكون وقضايا الإنسان العامة والخاصة بين الناس، وتتطور الأساليب الجدليّة والوسائل الإقناعية التي يبتدعها كل فريق من أجل إخضاع الفريق الآخر لفكره ورأيه، وقد تؤدّي الخلافات إلى نزاعاتٍ وحروبٍ داميةٍ، وقد تنقضي الحياة دون أن يحقق أيُّ فريق منهم انتصاراً على الآخر.. ولكن كل ذلك سينتهي غداً أمام الله عندما يقف الجميع بين يديه، ويتجلى الحق واضحاً بيّناً دون ريبٍ، مما لا يدع مجالاً لشبهةٍ، في أيّ شأن من تلك الشؤون التي كانت مثاراً لخلافاتهم، وتكون كلمة الله هي كلمة الفصل، لأنه الشاهد الحيّ على كل ما يختلفون فيه من عالم الغيب والشهود، لأن الغيب عندهم هو حقيقة الشهود عند الله...
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ}، لأنه يملك الحضور كله في أدقّ الأشياء وأخفاها، وأوضح الأمور وأجلاها، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وفي هذه الآية لونٌ من ألوان التهديد الإيحائي الموجّه إلى من انحرفوا عن الحقيقة وهم قادرون على الاستقامة، وعاشوا في الضباب وهم في مواقع الصحو، واتجهوا إلى الضلال وهم يملكون إمكانية الاتجاه إلى الهدى، فيقول لهم الله: إنهم إذا كانوا يلتزمون ما يلتزمونه من ضلالٍ وانحراف انطلاقاً من حالة تعصّبٍ أو ضيق أفقٍ، أو طمع، ويرفضون اللقاء بالحق والهدى والاستقامة، تمرداً وتكبراً واستعلاءً، ولا يقبلون بالحسم الفاصل بينهم في الموقف والموقع، سيلتقون غداً بالموقع الحق الذي يقفون فيه بين يدي الله ليفصل بينهم في ما كانوا فيه يختلفون، وليعرفوا أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، لأن الله هو الذي يملك الأمر كله.