تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (9)

{ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد } فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها ، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد : إحداها : العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله ، المبين لأحكامه وشرائعه ، الثانية : الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم ، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا ، وعارفا مدققا ، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه ، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا ، الثالثة : أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه ، بقوله { يقولون آمنا به كل من عند ربنا } الرابعة : أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون ، الخامسة : اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } السادسة : أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر ، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب ، السابعة : أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه ، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (9)

ثم حكى - سبحانه - ضراعة أخرى تضرع بها المؤمنون إلى خالقهم فقال : { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } .

أي : يا ربنا إنك جامع الناس : محسنهم ومسيئهم ، مؤمنهم وكافرهم . ليوم لا شك في وقوعه وحصوله وهو يوم الحساب والجزاء ، لتجازى الذين أساءوا بما عملوا وتجازى الذين أحسنوا بالحسنى . فأنت - سبحانك - لم تخلق الخلق عبثا ، ولن تتركهم سدى ، وإنما خلقتهم لرسالة عظمى هي عبادتك وطاعتك . فمن استجاب لك تفضلت عليه بالثواب العظيم ، ومن أعرض عن طاعتك عاقبته بما يستحقه .

وقوله { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب في وقوع يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب .

أي إنك يا مولانا لا تخلف ما أخبرت به عبادك من أن هناك يوما لا شك في وقوعه ، تجازى فيه الناس على أعمالهم بمقتضى إرادتك ومشيئتك .

وفي هذه الآية الكريمة إشعار بأن نهاية أمل المؤمنين أن يظفروا بالجزاء الحسن من خالقهم يوم القيامة ، لأنهم بعد أن سألوه تثبيت الإيمان وسعة الرحمة ، توجوا إليه بالمقصود الأعظم وهو حسن الثواب يوم القيامة . فكأنهم قالوا - كما يقول الرازي - : ليس الغرض من تلك الدعوات ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها فانية ؛ وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا ، وكلامك لا يكون كذبا فمن زاغ قلبه بقى هناك في العذاب أبد الآباد ، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين ، بقى هناك في السعادة والكرامة أبد الآبدين فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة " .

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملنا على دعوات كريمات بليغات ، من شأنها أن تسعد الناس في دينهم ودنياهم . والله نسأل أن ينفعنا بها إنه مجيب الدعاء ، وأرحم الراحمين .

وبعد هذا الدعاء الجامع الحكيم الذي حكاه الله - تعالى - عن عباده المؤمنين عقب ذلك بالحديث عن الكافرين ، وعن أسباب كفرهم وغرورهم ، وعن سوء عاقبتهم فقال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ . . . . } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (9)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك جل ثناؤه: أنهم يقولون أيضا مع قولهم آمنا بما تشابه من آي كتاب ربنا كل المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا يا ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد. وهذا من الكلام الذي استغني بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة فاغفر لنا يومئذٍ، واعف عنا، فإنك لا تخلف وعدك، أن من آمن بك، واتبع رسولك، وعمل بالذي أمرته به في كتابك أنك غافره يومئذٍ. وإنما هذا من القوم مسألة ربهم أن يثبتهم على ما هم عليه من حسن بصرتهم بالإيمان بالله ورسوله، وما جاءهم به من تنزيله، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم، فإنه إذا فعل ذلك بهم وجبت لهم الجنة، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عباده أنه يدخله الجنة، فالآية وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر، فإن تأويلها من القوم مسألة ودعاء ورغبة إلى ربهم.

{لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فإنه لا شك فيه.

{لِيَوْمٍ} في يوم، وذلك يوم يجمع الله فيه خلقه لفصل القضاء بينهم في موقف العرض والحساب، والميعاد: المفعال من الوعد.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إن الله لا يخلف الميعاد} في هذا خاصة أن يراد به القيامة والبعث، ويحتمل {لا يخلف الميعاد} في كل شيء مما يصيب الخلق من الخير والشر والفرح والحزن والأسف. يقولون: إنه كان بوعده ووعيده، وإنه كان مكتوبا عليهم ولهم، وإنه لا يكون على خلاف ما كان مكتوبا عليهم ليصبروا على الشدائد والمصائب، فلا يجزعوا عليها، ولا يحزنوا، وليشكروا على الآلاء والنعماء، ولا يفرحوا عليها، وهو كقوله: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 23]...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{ربنا إنك جامع الناس} إقرار بالبعث ليوم القيامة، قال الزجاج: هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون فأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حين أنكروه، والريب: الشك، والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه وإن وقع فيه ريب عند المكذبين به فذلك لا يعتد به إذ هو خطأ منهم، وقوله تعالى: {إن الله لا يخلف الميعاد} يحتمل أن يكون إخباراً منه محمداً عليه السلام وأمته، ويحتمل أن يكون حكاية من قول الداعين..

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذا الدعاء من بقية كلام الراسخين في العلم، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية منقرضة، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة، فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا وكلامك لا يكون كذبا، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين، بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد، فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان من المعلوم من أول ما فرغ السمع من الكتاب في الفاتحة وأول البقرة و أثنائها أن للناس يوماً يدانون فيه وصلوا بقولهم السابق قوله: {ربنا إنك جامع} قال الحرالي: من الجمع، وهو ضم ما شأنه الافتراق والتنافر لطفاً أو قهراً انتهى. {الناس} أي كلهم {ليوم} أي يدانون فيه {لا ريب فيه} ثم عللوا نفي الريب بقولهم عادلين عن الخطاب آتين بالاسم الأعظم لأن المقام للجلال: {إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {لا يخلف} ولما كان نفي الخلف في زمن الوعد ومكانه أبلغ من نفي خلافه نفسه عبر بالمفعال فقال: {الميعاد} وقال الحرالي: هو مفعال من الوعد، و صيغ لمعنى تكرره ودوامه، والوعد العهد في الخير انتهى. وكل ذلك تنبيهاً على أنه يجب التثبت في فهم الكتاب والإحجام عن مشكله خوفاً من الفضيحة يوم الجمع يوم يساقون إليه ويقفون بين يديه، فكأنه تعالى يقول للنصارى: هب أنه أشكل عليكم بعض أفعالي وأقوالي في الإنجيل فهلا فعلتم فعل الراسخين فنزهتموني عما لا يليق بجلالي من التناقض وغيره، ووكلتم أمر ذلك إليّ، وعولتم في فتح مغلقه عليّ خوفاً من يوم الدين؟ قال ابن الزبير: ثم لما بلغ الكلام إلى هنا أي إلى آية التصوير كان كأنه قد قيل: فكيف طرأ عليهم ما طرأ مع وجود الكتب؟ فأخبر تعالى بشأن الكتاب وأنه محكم ومتشابه، وكذا غيره من الكتب والله سبحانه وتعالى أعلم، فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم، وحال أهل الزيغ اتباع المتشابه والتعلق به، وهذا بيان لقوله: يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26] وكل هذا بيان لكون الكتاب العزيز أعظم فرقان وأوضح بيان إذ قد أوضح أحوال المختلفين ومن أين أتى عليهم مع وجود الكتب، وفي أثناء ذلك تنبيه العباد على عجزهم وعدم استبدادهم لئلا يغتر الغافل فيقول مع هذا البيان ووضوح الأمر: لا طريق إلى تنكب الصراط، فنبهوا حين علموا الدعاء من قوله: {وإياك نستعين} [الفاتحة: 4] ثم كرر تنبيههم لشدة الحاجة ليذكر هذا أبداً، ففيه معظم البيان، ومن اعتقاد الاستبداد ينشأ الشرك الأكبر إذ اعتقاد الاستبداد بالأفعال إخراج لنصف الموجودات عن يد بارئها {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96] فمن التنبيه {إن الذين كفروا} [البقرة: 6] ومنه: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26] ومنه {آمن الرسول} [البقرة: 285] إلى خاتمتها، هذا من جلي التنبيه ومحكمه، ومما يرجع إليه ويجوز معناه بعد اعتباره: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] وقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]، فمن رأى الفعل أو بعضه لغيره تعالى حقيقة فقد قال بإلهية غيره، ثم حذروا أشد التحذير لما بين لهم فقال تعالى: {إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد} [آل عمران: 4] ثم ارتبطت الآيات إلى آخرها...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

جمع الناس وحشرهم واحد، وجمعهم لذلك اليوم للجزاء فيه وهو يوم القيامة. وكونه لا ريب فيه معناه، أننا موقنون به لا نشك فيه لأنك أخبرت به ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه. وليس معناه كمعنى {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة:2] أي أنه ليس من شانه أن يرتاب فيه، فإن الكلام هناك عن الكتاب في نفسه والكلام هنا حكاية عن المؤمنين الراسخين في العلم. ولذلك علل نفي الريب بنفي إخلاف الميعاد، وجيء به على طريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة للإشعار بهذا التعليل هذا على قول الجمهور أن الجملة كالدعاء من كلام الراسخين في العلم، وجوزوا أن تكون من كلامه تعالى لتقرير قولهم ودعائهم وهو خلاف المتبادر...

قال الأستاذ الإمام: إن مناسبة هذا الدعاء للإيمان بالمتشابه ظاهرة على القول بان المتشابه هو الإخبار عن الآخرة أي أنهم كما يؤمنون بالمتشابه يؤمنون بمضمونه والمراد منه وما يؤول إليه. وأما على القول بأنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فوجهه أنهم يذكرون يوم الجمع ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرب الزيغ الذي يبسلهم في ذلك اليوم. فهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي من الزيغ. أعاذنا الله منه بمنه وكرمه...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد} فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا، وعارفا مدققا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا، الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} استحضروا عند طلب الرحمة أحْوجَ ما يكونون إليها، وهو يومُ تكونُ الرحمة سبباً للفوز الأبدي، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءَهم على سبيل الإيجاز، كأنّهم قالوا: وهب لنا من لدنك رحمة، وخاصّة يوم تجمّع الناس كقول إبراهيم: {ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} [إبراهيم: 41] على ما في تذكّر يوم الجمع من المناسبة بعد ذكر أحوال الغواة والمهتدين، والعلماءِ الراسخين. ومعنى {لا ريب فيه} لا ريب فيه جديراً بالوقوع، فالمراد نفي الريب في وقوعه. ونفوه على طريقة نفي الجنس لعدم الاعتداد بارتياب المرتابين، هذا إذا جعلتَ (فيه) خبراً، ولك أن تجعله صفةً لريبَ وتجعلَ الخبر محذوفاً على طريقة لا النافية للجنس، فيكون التقدير: عندنا، أو لَنَا. وجملة {إن الله لا يخلف الميعاد} تعليل لنفي الريب أي لأنّ الله وعد بجمع الناس له، فلا يخلف ذلك، والمعنى: إنّ الله لا يُخلف خبرَه، والميعاد هنا اسم مكان...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد} هذه هي الضراعة الثانية التي اقترنت بآية المحكم و المتشابه في القرآن، و الكلام فيها كالكلام في الآية السابقة، من حيث كون هذا الدعاء من مقول الراسخين في العلم، أو تعليم من الله للراسخين في العلم من المؤمنين، و كلاهما ينتهي إلى أن هذه الضراعة إن صدرت عن القلب تكون مانعة له من الزيغ، فإن الإيمان باليوم الآخر لب الإيمان، و هو يربي الإذعان، و فيه كل معاني التفويض، و به يستعين المؤمن على محاربة داعي الهوى و الشهوة. و قوله تعالى على لسان المؤمن الراسخ في العلم: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} تنبيه إلى أن في هذا اليوم يتبين الحق، و يواجه المحق و المبطل، و يعلن الذين يزيغون و الذين يذعنون، و يتبين زيغ الزائغ و جزاؤه، و ثمرات الإيمان و جزاءه. و في هذا تنبيه أيضا إلى أن اليوم الآخر لا ينبغي أن يكون محل ريب، لأن الذي أخبر به هو الذي خلق الخلق، فهو الذي بدأهم، و هو الذي يعيدهم، و لأنه سبحانه ما خلق الخلق عبثا، و ما ترك الأمر للباطل و المبطلين يرتعون في الأرض و يفسدون، بل جعل للحق سلطانا، و جعل له العلو، فإن لم يكن في الحال، فإنه سيكون لا محالة في المآل، و الله على كل شيء قدير. و الأساس في العلم باليوم الآخر هو إخبار الله تعالى الذي لا يحتمل إخلافا، و لذلك قال سبحانه بعد ذلك: {إن الله لا يخلف الميعاد} أي إن اليوم الآخر الذي لا ينبغي لمؤمن أن يرتاب فيه هو وعد الله الذي وعد به المتقين، و نذيره الذي أنذر به الجاحدين الضالين، و الله سبحانه و تعالى لا يخلف الميعاد. و في هذه الجملة السامية {إن الله لا يخلف الميعاد} إشارة إلى الجزاء الأخروي و ما فيه من جزاء بعد الحساب، فهي تتضمن تبشيرا للمؤمنين، و إنذارا للعاصين الكافرين. جعلنا الله من المتقين المهتدين، الذين لا يزيغون في فهم دينه، و تفهم قرآنه، و المذعنين للحق الطالبين له...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا فهو يريد أن يشيعه في الناس، لذلك يقول لنا: إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي، إن المسألة يترتب عليها أمر آخر، هذا الأمر الآخر لا يوجد في الدنيا فقط، فهناك آخرة، فالدنيا مقدور عليها لأنها محدودة الأمد ومنتهية، ولكن هناك الآخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود، فيقول الحق على لسان الراسخين في العلم: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ...} وقولهم: {رَبَّنَآ} نفهم منه أنه الحق المتولي التربية، ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له، فهناك ربٌّ يربي، وهناك عبد تتم تربيته، والربُّ يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له. والمؤمنون يرجون الله قائلين: يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة، فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومادمت ربا، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ، إنما الذي ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه، كقولنا نحن العباد:"إن شاء الله" لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما وعد...