محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (9)

ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ان الله لا يخلف الميعاد9 ) .

( ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ان الله لا يخلف الميعاد ) وهذا ن تتمة كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ، فانها منقضية منقرضة . وانما الغرض الأعظم منه ، ما يتعلق بالآخرة فانها المقصد والمآل . فانا نعلم أنك يا الهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبدا ، ومن منحته الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبدا . فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ، ما يتعلق بالآخرة – أفاده الرازي – ثم قال : احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق ، قال : وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى : ( أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل ما وجدتم ما وعد ربكم حقا ) . والوعد والموعد والميعاد واحد . وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد . فكان هذا دليلا على أنه لا يخلف في الوعيد . والجواب : لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقا ، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه يوعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد . أما قوله تعالى : ( فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) . قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك ، كما في قوله : ( فبشرهم بعذاب أليم ) . وقوله : ( ذق انك أنت العزيز الكريم ) . وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله ، فكان المراد من الوعد تلك المنافع .

وذكر الواحدي في ( البسيط ) طريقة أخرى فقال : لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب . قال : والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك ، قال الشاعر :

إذا وعد السراء أنجز وعده *** وان أوعد الضراء فالعفو مانعه

وروى المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء ، وبين عمرو بن عبيد . قال أبو عمرو ابن العلاء لعمرو بن عبيد : ما تقول في أصحاب الكبائر ؟ قال : أقول ان الله وعد وعدا وأوعد ايعادا ، فهو منجز ايعاده كما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : انك رجل أعجم ، لا أقول أعجم اللسان ، ولكن أعجم القلب . ان العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الايعاد كرما ، وأنشد :

واني وان أوعدته أو وعدته *** لمكذب ايعادي ومنجز موعدي

واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام ، قال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو ؟ فهل يسمى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال عمرو بن عبيد فقد سقطت حجتك ، قالوا : فانقطع عمرو بن العلاء .

وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : انك قست الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ، وذلك لأن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره / فذلك هو اللؤم ، فظهر الفرق بين الوعد والوعيد ، وبطل قياسك . وانما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق . فأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذبا ومكذبا نفسه ، فجوابه أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط ، وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو ، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله . فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية . والله أعلم .