ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } أي : لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا ، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين ، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما{[154]} ابتليت به الزائغين { وهب لنا من لدنك رحمة } أي : عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات { إنك أنت الوهاب } أي : واسع العطايا والهبات ، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات .
وبعد أن بين - سبحانه - موقف الناس من محكم القرآن ومتشابهه ، شرع في بيان ما يتضرع به المؤمنون الصادقون الذين يؤمنون بكل ما أنزله الله - تعالى - فقال : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا . . . } .
اشتملت هاتان الآيتان على دعوات طيبات . ويرى بعض العلماء أن هذه الدعوات من مقول الراسخين في العلم ، فهم يقولون : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ويقولون أيضا { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } ويرى بعضهم أن هذا الكلام جديد ، وهو تعليم من الله - تعالى - لعباده ليكثروا من التضرع إليه بهذه الدعوات وأمثالها .
والزيغ - كما أشرنا في الآية السابقة - الميل عن الاستقامة ، والانحراف عن الحق ، يقال : زاغ يزيغ أي مال ومنه زاغت الشمس إذا مالت .
والمعنى : نسألك يا ربنا ونضرع إليك ألا تميل قلوبنا عن الهدى بعد إذ ثبتنا عليه ومكنتنا منه . وأن تباعد بيننا وبين الزيغ الذي لا يرضيك . وبين الضلال الذي يفسد القلوب ، ويعمى البصائر . { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً } أي وامنحنا من عندك ومن جهتك إنعاما وإحسانا تشرح بهما صدورنا . وتصلح بهما أحوالنا { إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب } لا غيرك ، فأنت مالك الملك وأنت القائل { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد تضمنت سؤال المؤمنين ربهم تثبيت الإيمان في قلوبهم ومنحهم المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه .
قال الفخر الرازي - ما ملخصه - : وقال - سبحانه - { رَحْمَةً } ليكون ذلك شاملا لجميع أنواعها التي تتناول حصول نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب ، وحصول الطاعة في الأعضاء والجوارح ، وحصول سهولة المعيشة والأمن والصحة والكفاية في الدينا وحصول سهولة سكرات الموت عند حضوره ، وحصول سهولة السؤال في القبر ، وغفران السيئات والفوز بالجنات في الآخرة . وقوله { لَّدُنْكَ } يتناول كل هذه الأقسام . لأنه لما ثبت بالبراهين الباهرة أنه لا رحيم إلا هو أكد ذلك بقوله " من لدنك " تنبيها للعقل والقلب والروح على أن هذا المقصود لا يحصل إلا منه - سبحانه- ثم قال : { إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب } كأن العبد يقول : إليه هذا الذى طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلى ، حقير بالنسبة إلى كمال كرمك ، فأنت الوهاب الذى من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها ، فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك فلا تخيب رجاء هذا المسكين ، ولا ترد دعاءه واجعله أهلا لرحمتك " .
هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير وغيره بعض الأحاديث النبوية عند تفسيرهم لهذه الآية ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن مردويه عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال " لا إله إلى أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك . اللهم زدني علما ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " .
وروى الترمذي عن شهر بن حوشب قال : " قلت لأم سلمة : يا أم المؤمنين ، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت : كان أكثر دعائه " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقلت : يا رسول الله ، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ قال : " يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ " فتلا معاذ - أحد رجال سند هذا الحديث - { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، قلنا : يا رسول الله قد آمنا بك ، وصدقنا بما جئت به ، أفيخاف علينا ؟ قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها تبارك -وتعالى- " .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: أن الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضا: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا}: يعني أنهم يقولون رغبة منهم إلى ربهم، في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الذي لا يعلمه غير الله، يا ربنا لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحقّ فصدّوا عن سبيلك. {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا}: لا تملها فتصرفها عن هداك. {بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه. {وَهَبْ لَنا} يا ربنا {مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقا وثباتا للذي نحن عليه، من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه. {إنّكَ أنْتَ الوَهّابُ}: إنك أنت المعطي عبادك التوفيق والسداد، للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك. وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمة منه معونة لهم للثبات على ما هم عليه من حسن البصيرة بالحقّ الذي هم عليه مقيمون، ما أبان عن خطأ قول الجهلة من القدرية، أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته، وإمالته له عنها جور، لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان الذين قالوا: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} بالذم أولى منهم بالمدح، لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربهم مسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم، أن لا يظلمهم ولا يجور عليهم، وذلك من السائل جهل¹ لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عباده ولا يجور عليهم، وقد أعلم عباده ذلك، ونفاه عن نفسه بقوله: {وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها، وفي فساد ما قالوا من ذلك الدليل الواضح، على أن عدلاً من الله عزّ وجلّ إزاغة من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته، فلذلك استحقّ المدح من رغب إليه في أن لا يزيغه لتوجيهه الرغبة إلى أهلها ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك مع محله منه، وكرامته عليه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي على دِينِكَ» ثم قرأ: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا}...» إلى آخر الاَية.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري، قال: حدثنا شهر بن حوشب، قال: سمعتُ أم سلمة تحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: «اللّهُمّ مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي على دِينِكَ!» قال: قلت يا رسول الله، وإن القلب ليقلّب؟ قال: «نَعَمْ، مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إلاّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصْبُعَيْنِ مِنْ أصابعه، فإنْ شاءَ أقامَهُ، وَإنْ شاءَ أزَاغَهُ، فَنَسألُ اللّهُ رَبّنَا أنْ لا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانا، ونسألُهُ أنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنّهُ هُوَ الوَهّابُ». قالت: قلت يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: «بلى، قولي: اللّهُمّ رَبّ النّبِيّ مُحَمّدٍ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وأذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وأجِرْنِي مِنْ مُضِلاّتِ الفِتَنِ».
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{وهب لنا من لدنك رحمة} توثيقاً وتثبيتاً للذي نحن عليه من الإيمان والهدى، وقال الضحاك: تجاوزاً ومغفرة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا. {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وأرشدتنا لدينك. أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا {مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
يحتمل أن تكون هذه الآية حكاية عن الراسخين في العلم، أنهم يقولون هذا مع قولهم {آمنا به} [آل عمران: 7] ويحتمل أن يكون المعنى منقطعاً من الأول لما ذكر أهل الزيغ وذكر نقيضهم، وظهر ما بين الحالتين عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في أن لا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهي أهل الزيغ... لا يكن منك خلق الزيغ فيها فتزيغ هي. قال الزجاج: وقيل: إن معنى الآية لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ منها قلوبنا. قال الفقيه الإمام: وهذا قول فيه التحفظ من خلق الله تعالى الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد، و {من لدنك} معناه: من عندك ومن قبلك، أن تكون تفضلاً لا عن سبب منا ولا عمل، وفي هذا استسلام وتطارح، والمراد هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة لأن الرحمة راجعة إلى صفات الذات فلا تتصور فيها الهبة...
وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى، فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والطبع، والرين، والقسوة، والوقر، والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي: التوفيق، والرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن» والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان، فكما أن الشيء الذي يكون بين... أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين، فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين، ومن أنصف ولم يتعسف، وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس، ولو جوز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان صلى الله عليه وسلم يقول: « يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» ومعناه ما ذكرنا فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق، فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني...
ومما يؤكد ما ذكرناه أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات، بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال، وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات، ثم إن الله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك، وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات، وهذا كلام متين. أما قوله تعالى: {بعد إذ هديتنا} أي بعد أن جعلتنا مهتدين، وهذا أيضا صريح في أن حصول الهداية في القلب بتخليق الله تعالى. ثم قال: {وهب لنا من لدنك رحمة} واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره مما ينبغي، فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولا أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة، ثم أنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة، وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة، وإنما قال: {رحمة} ليكون ذلك شاملا لجميع أنواع الرحمة، فأولها: أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة، وثانيها: أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة، وثالثها: أن يحصل في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ورابعها: أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت وخامسها: أن يحصل في القبر سهولة السؤال، وسهولة ظلمة القبر. وسادسها: أن يحصل في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وترجيح الحسنات فقوله {من لدنك رحمة} يتناول جميع هذه الأقسام، ولما ثبت بالبراهين الباهرة القاهرة أنه لا رحيم إلا هو، ولا كريم إلا هو، لا جرم أكد ذلك بقوله {من لدنك} تنبيها للعقل والقلب والروح على أن المقصود لا يحصل إلا منه سبحانه، ولما كان هذا المطلوب في غاية العظمة بالنسبة إلى العبد لا جرم ذكرها على سبيل التنكير، كأنه يقول: أطلب رحمة وأية رحمة، أطلب رحمة من لدنك، وتليق بك، وذلك يوجب غاية العظمة. ثم قال: {إنك أنت الوهاب} كأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودك ورحمتك، فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك، يا دائم المعروف، يا قديم الإحسان، لا تخيب رجاء هذا المسكين، ولا ترد دعاءه، واجعله بفضلك أهلا لرحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال:"لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم إني أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمة، اللهم زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" لفظ ابن مردويه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علم بذلك أن الراسخين أيقنوا أنه من عند الله المستلزم لأنه لا عوج فيه، أخبر أنهم أقبلوا على التضرع إليه في أن يثبتهم بعد هدايته ثم أن يرحمهم ببيان ما أشكل عليهم بقوله حاكياً عنهم وهو في الحقيقة تلقين منه لهم لطفاً بهم مقدماً ما ينبغي تقديمه من السؤال في تطهير القلب عما لا ينبغي على طلب تنويره بما ينبغي لأن إزالة المانع قبل إيجاد المقتضي عين الحكمة: {ربنا} أي المحسن إلينا {لا تزغ قلوبنا} أي عن الحق. ولما كان صلاح القلب صلاح الجملة وفساده فسادها وكان ثبات الإنسان على سنن الاستقامة من غير عوج أصلاً مما لم يجر به سبحانه وتعالى عادته لغير المعصومين قال نازعاً الجار مسنداً الفعل إلى ضمير الجملة: {بعد إذ هديتنا} إليه. وقال الحرالي: ففي إلاحة معناه أن هذا الابتهال واقع من أولي الألباب ليترقوا من محلهم من التذكر إلى ما هو أعلى وأبطن انتهى. فلذلك قالوا: {وهب لنا من لدنك} أي أمرك الخاص بحضرتك القدسية، الباطن عن غير خواصك {رحمة} أي فضلاً ومنحة منك ابتداء من غير سبب منا، ونكرها تعظيماً بأن أيسر شيء منها يكفي الموهوب...
ولما لم يكن لغيره شيء أصلاً فكان كل عطاء من فضله قالوا وقال الحرالي: ولما كان الأمر اللدني ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم وإقامة حكمتهم، وإنما هو موهبة من الله سبحانه وتعالى بحسب العناية ختم بقوله: {إنك أنت الوهاب} وهي صيغة مبالغة من الوهب والهبة، وهي العطية سماحاً من غير قصد من الموهوب انتهى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما كان المتشابه مزلة الأقدام ومدرجة الزائغين إلى الفتنة، وصل الراسخون الإقرار بالإيمان به بالدعاء بالحفظ من الزيغ بعد الهداية، فإنهم لرسوخهم في العلم يعرفون ضعف البشر وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ويعرفون أن قدرة الله فوق كل شيء وعلمه لا يحاط به، وهو المحيط بكل شيء فيخافون أن يستزلوا فيقعوا في الخطأ والخطأ في هذا المقام قرين الخطر، وليس للإنسان بعد بذل جهده في إحكام العلم في مسائل الاعتقاد وإحكام العمل بحسن الاهتداء، إلا اللجأ إلى الله تعالى بأن يحفظه من الزيغ العارض ويهبه الثبات على معرفة الحقيقة، والاستقامة على الطريقة، فالرحمة في هذا المقام هي الثبات والاستقامة. واختاره الأستاذ الإمام. أقول: ولا تلتفت في معنى الآية إلى مجادلة الأشعرية للمعتزلة في إسناد الإزاغة إلى الله تعالى، فإنه تعالى يسند إليه في مقام تقرير الإيمان به وذلك لا ينافي اختيار العبد في زيغه. فقد قال تعالى في سورة الصف: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] ولكل مقام مقال. ومن مباحث الألفاظ في الآية أن قوله تعالى: {من لدنك} معناه من عندك فإن "لدن "تستعمل بمعنى عند وإن لم تكن مرادفة لها بل هي أخص وأقرب مكانا ولا للذي، فقد فرقوا بينهما بخمسة أمور. ولا تستعمل لدن إلا في الشيء الحاضر فهي أدل على الاختصاص. فهذه الرحمة المطلوبة منه في هذا المقام هي العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه، ولا يصل إليه بسعيه، ويؤيد ذلك التعبير بالهبة ووصفه تعالى بالوهاب فإن الهبة عطاء بلا مقابل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندئذ تنطلق ألسنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع وفي ابتهال منيب: أن يثبتهم على الحق، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله.. ويتذكرون يوم الجمع الذي لا ريب فيه، والميعاد الذي لا خلف له: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. وهب لنا من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه. إن الله لا يخلف الميعاد).. هذا هو حال الراسخين في العلم مع ربهم؛ وهو الحال اللائق بالإيمان؛ المنبثق من الطمأنينة لقول الله ووعده؛ والثقة بكلمته وعهده؛ والمعرفة برحمته وفضله؛ والإشفاق مع هذا من قضائه المحكم وقدره المغيب؛ والتقوى والحساسية واليقظة التي يفرضها الإيمان على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تغتر ولا تنسى في ليل أو نهار.. والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال. قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش. قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة. قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة. قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده. قيمة الاهتمامات الرفيعة الكبيرة بعد اللهو بالاهتمامات الصغيرة الحقيرة.. ويدرك أن الله منحه بالإيمان كل هذا الزاد.. ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال، كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة. وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ! وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة. وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال! ومن ثم يتجه المؤمنون إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا).. وينادون رحمة الله التي أدركتهم مرة بالهدى بعد الضلال، ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء: (وهب لنا من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب).. وهم بوحي إيمانهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته. وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله.. فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله [ص] كثيرا ما يدعو:"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء. فقال: "ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن. إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه".. ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة. وأن يتشبث بحماه في إصرار، وأن يتجه إليه يناشده رحمته وفضله، لاستبقاء الكنز الذي وهبه، والعطاء الذي أولاه!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دعاء عُلِّمَه النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً للأمة: لأنّ الموقع المحكي موقع عبرة ومثار لهواجس الخوف من سوء المصير إلى حال الذين في قلوبهم زيغ فما هم إلاّ من عقلاء البشر، لا تفاوت بينهم وبين الرّاسخين في الإنسانية، ولا في سلامة العقول والمشاعر، فما كان ضلالهم إلاّ عن حرمانهم التوفيق، واللطف، ووسائلَ الاهتداء...
وقد عُلم من تعقيب قوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} [آل عمران: 7] الآيات بقوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا} أنّ من جملة ما قُصد بوصف الكتاب بأنّ منه محكماً ومنه متشابهاً، إيقاظَ الأمة إلى ذلك لتكون على بصيرة في تدبّر كتابها: تحذيراً لها من الوقوع في الضلال، الذي أوقع الأممَ في كثير منه وجودُ المتشابهات في كتبها، وتحذيراً للمسلمين من اتّباع البوارق الباطلة مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردّة والعصيان، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لتوهّم أنّ التديّن بالدين إنّما كان لأجل وجود الرسول بينهم، ولذلك كان أبو بكر يدعو بهذه الآية في صلاته مدة ارتداد من ارتد من العرب، ففي « الموطأ»، عن الصُّنَابِحي: أنّه قال: « قدمتُ المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقام في الثالثة فدنوت منه حتى إنّ ثيابي لتكاد تمسّ ثيابه فسمعته يقرأ بأمّ القرآن وهذه الآية: {ربنا لا تزغ قلوبنا} الآية. فَزَيْغ القلب يتسبّب عن عوارض تعرض للعقل: من خلل في ذاته، أو دواعٍ من الخُلطة أو الشهوة، أو ضعف الإرادة، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلّية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقرّ في النفس من تعاليم الخير المسمّاة بالهُدى، ولا يدري المؤمن، ولا العاقلُ، ولا الحكيم، ولا المهذّبُ: أيَّةَ ساعة تحلّ فيها به أسباب الشقاء، وكذلك لا يدري الشقي، ولا المنهمك، الأفن: أيَّةَ ساعة تحفّ فيها به أسباب الإقلاع عمّا هو متلبّس به من تغيّر خَلْق، أو خُلُق، أو تبدل خَليط، قال تعالى: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم} [الأنعام: 110] ولذا كان دأب القرآن قرنَ الثناء بالتحذير، والبشارة بالإنذار...
وقوله: {بعد إذ هديتنا} تحقيق للدعوة على سبيل التلطّف؛ إذ أسندوا الهَدْي إلى الله تعالى، فكان ذلك كرماً منه، ولا يرجع الكريم في عطيته، وقد استعاذَ النبي صلى الله عليه وسلم من السلب بعد العطاء. وإذْ اسم للزمن الماضي متصرّف، وهي هنا متصرّفة تصرّفاً قليلاً؛ لأنّها لمّا أضيف إليها الظرف، كانت في معنى الظروف، ولما كانت غير منصوبة كانت فيها شائبةُ تصرّفٍ، كما هي في يومئذٍ وحينئذٍ، أي بعد زمن هدايتِك إيانا. وقوله: {وهب لنا من لدنك رحمة} طلبوا أثَرَ الدوام على الهُدى وهو الرحمة، في الدنيا والآخرة، ومنع دواعي الزيغ والشر. وجعلت الرحمة من عند الله لأنّ تيسير أسبابها، وتكوين مهيّئاتها، بتقدير الله؛ إذ لو شاء لكان الإنسان معَرّضاً لنزول المصائب والشرور في كلّ لمحة؛ فإنّه محفوف بموجودات كثيرة، حيّة وغير حيّة، هو تلقاءَها في غاية الضعف، لولا لطف الله به بإيقاظ عقله لاتّقاء الحوادث، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه، وبجعل تلك القوى الغالبةِ له قوى عمياءَ لا تهتدي سبيلاً إلى قصده، ولا تصادفه إلاّ على سبيل الندور ولهذا قال تعالى: {اللَّه لطيف بعباده} [الشورى: 19] ومن أجلَى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء وقد كنت قلت كلمة « اللّطْفُ عند الاضطرار». والقصر في قوله: {إنك أنت الوهاب} للمبالغة، لأجل كمال الصفة فيه تعالى؛ لأنّ هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يعبأ به...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} هذه ضراعة يجب على كل مؤمن أن يتضرع بها إلى ربه. و قد قال بعض العلماء إنها من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون: {آمنا به كل من عند ربنا} و يقولون أيضا: {ربنا لا تزغ قلوبنا} و كأنهم إذ يعلنون الإيمان و الإذعان يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه و يبقيه بإبعادهم عن الزيغ و الاضطراب في العقيدة...
{و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} هذا بقية الدعاء و الضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم، و هي من تعليم الله سبحانه و تعالى، و هذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة، و قد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان، و هو أول أبواب الرحمة، و الأصل لكل رحمة، فبعد أن علمنا الضراعة بأن لا تميل قلوبنا، وجهنا لطلب الأثر كذلك و هو الرحمة، و رحمة الله تفضل و نعمة و إنعام على العبد، لأنه و ما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يتصف المالك في ملكه، و ليس لأحد عند رب العالمين حساب. والرحمة المطلوبة كملة شاملة جامعة، فتجمع النصر في الدنيا و القرار و الاطمئنان فيها، و النعيم في الآخرة. و التعبير بقوله تعالى: {من لدنك} أي من عندك، و لدن لا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت العندية في موضع خطير جليل عال. و المعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض. و قد ختمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة الرحمة شأن من شئون العلي القدير، و وصف من أوصافه، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين: {إنك أنت الوهاب} في هذا تأكيد رحمة الله تعالى بعدة مؤكدات، منها "إن "التي للتوكيد، و منها تأكيد الضمير بقوله "أنت" و منها القصر، أي لا يهب أحد سواك، و ذاك بتعريف الطرفين، و منها التعبير بصيغة المبالغة، و هي: الوهاب، و إنه سبحانه قد انفرد بالرحمة و هبة الرحمة لمن يشاء، و إن رحمته وسعت كل شيء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أي أصحاب العقول الذين يعيشون مسؤولية العقل في التفكير بكل ما يتصل بالإنسان في مصيره في الدنيا والآخرة ومسؤولياته تجاه الحياة والإنسان. فيتحركون من خلال منطقه الذي يواجه الأمر من موقع الحسابات الدقيقة التي تقارن بين الأشياء، وتربط النتائج بمقدماتها، والمسببات بأسبابها، وينفتح بالإنسان على ما يحقق له الربح والسعادة ويبعده عن الخسارة والشقاء، ولهذا فإنهم لا يسقطون تحت تأثير الغفلة، لأنها الحالة التي تبتعد عن واقع الوعي ويعيش الإنسان معها حالة عمى في القلب وغيبوبةٍ في الإحساس، بحيث ينسى كل الأمور الحيوية المتصلة بمصيره، بينما يؤكد العقل لهؤلاء العقلاء القوة التي تزيل كل غشاوةٍ عن الوعي وتبعد كل ضباب عن الرؤية، فينطلقون في وضوح الرؤية التي تجعلهم يذكرون الله قياماً وقعوداً ويخافون عقابه ويرجون ثوابه، ويتطلعون إلى هداه، وينتظرون رحمته، فيقولون {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي عقولنا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وعرفتنا الإيمان بك وبرسلك، لا تدخلنا في التجربة الصعبة التي تهتز فيها أفكارنا، وتضطرب منها مشاعرنا، وتنحرف بها خطواتنا في داخل أنفسنا، وفي خارجها، مما قد يدخل فيه الغرور إلى ذواتنا، فلا نتوازن في النظر إلى الواقع بمنطق الوضوح في الرؤية الذي يعرف فيه الإنسان حجم فكره، وطبيعة موقعه، وخصوصية ذاته، فإن الغرور الفكري والعلمي والذاتي، قد يدخل الإنسان إلى متاهات الأفكار والوسائل والأهداف مما لا يلتقي بالحق ولا يقف عند قاعدة الصواب، لأن الإنسان المغرور في علمه لا يتطلع غالباً إلى وجهة نظر الآخرين في الموضوع الذي يعالجه ولا يصرّ على نفسه ليدقق في الاحتمالات التي تخطر على ذهنه، فيميل عن الحق من دون أن يشعر، ويبتعد عن الاستقامة من دون أن يلتفت إلى ذلك. وقد يخضع الإنسان لتأثيرات الضلال في نفسه من خلال عناصر الإغراء والإغواء أو التخويف والترهيب، التي تضغط على نفسه وفكره وروحه، فتؤثر على موقفه وقراره، فيبتعد عن الحق، ويضلّ عن طريق الهدى. وقد تضغط عليه الظروف الموضوعية المرتبطة بالواقع من حوله لتغير له نظرته إلى الأمور بما قد تثيره في نفسه من المبرّرات المتنوعة التي قد تفتح له باباً على الانحراف بحجة أن التغيير في الموقف يخضع للتغيير في المعطيات والمصالح والمفاسد الطارئة بفعل المتغيرات الاجتماعية والسياسية. وهكذا تتنوع أسباب الزيغ التي تدفع الإنسان إلى الضلال. وفي ضوء ذلك، فإن الطلب إلى الله في أن لا يزيغ قلوبنا عن خط الهداية بعد التزامنا به، لا يعني أن الله يفعل ذلك بعباده بشكل مباشر فيجعل المهتدي ضالاً، بل يعني أن يبعد عنا الظروف التي قد تقودنا إلى ذلك، ولا يكلفنا التكاليف التي تضعف إرادتنا عن الحركة، وذلك من خلال لطفه بعباده ورحمته لهم، فإن الله بحكمته ولطفه ورحمته لا يبتلي عباده بالبلاء الذي لا يتحملونه ليسقطوا أمامه، فهو الذي يشجعهم على السير في خط الهدى، لأنه مع المحسنين الذين أحسنوا الإيمان والعمل الصالح، فيهيئ لهم سبل الثبات على الهدى، حتى أن البلاء قد يكون حركةً في التجربة الهادية التي تقوى بها إرادتهم، وتنفتح بها قراراتهم على الآفاق الواسعة للحق، ولذلك فإنهم يبتهلون إليه ويدعونه: أعطنا يا رب من لطفك ما يسهل لنا سبيل الوصول إلى سعادتنا في القرب منك، {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} تكفل لنا بها خير الدنيا والآخرة، {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} الذي تتوالى فيوضاته وهباته على عباده في أمورهم الخاصة والعامة في الدنيا والآخرة، فيثبتّهم على إيمانهم الذي يقودهم إلى العمل الصالح لينتهي بهم إلى جنة الرضوان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بالنظر لاحتمال أن تكون الآيات المتشابهات وأسرارها موضع زلل الناس، فإنّ الراسخين في العلم المؤمنين يلجؤون إلى ربّهم إضافة إلى استعمال رأسمالهم العلمي في إدراك حقيقة الآيات. وهذا ما تبيّنه هاتان الآيتان على لسان الراسخين في العلم، وتقولان إنّ الراسخين في العلم والمفكّرين من ذوي البصيرة لا يفتؤون يراقبون أرواحهم وقلوبهم لئلاّ ينحرفوا نحو الطرق الملتوية، فيطلبون لذلك العون من الله. فالغرور العلمي يخرج بعض العلماء عن مسيرهم إلى متاهات الضلال، لأنّهم يلتفتون إلى عظمة الخلق والخالق وتفاهة ما عندهم من علم، فيحرمون من هداية الله. أمّا العلماء المؤمنون فيقولون: (ربّنا لا تزغ قلوبنا...). وليس أشدّ تأثيراً في السيطرة على الميول والأفكار من الاعتقاد بيوم القيامة والمعاد. إنّ الراسخين في العلم يصحّحون أفكارهم عن طريق الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، ويحولون دون التأثّر بالميول والأحاسيس المتطرّفة التي تؤدّي إلى الزلل، ونتيجة لذلك يستقيمون على الصراط المستقيم بأفكار سليمة ودون عائق. نعم هؤلاء هم القادرون على الاستفادة من آيات الله كلّ الاستفادة...