قرأ أبو حاتم{[5122]} { جَامِعٌ النَّاسَ } بالتنوين والنصب - و " لِيَوْمٍ " اللام للعلة ، أي : لجزاءِ يوم ، وقيل : هي بمعنى " في " ، ولم يذكر المجموع لأجله ، و " لا رَيْبَ " صفة ل " يَوْم " ، أي : لا شك فيه ، فالضمير في " فِيهِ " عائد عليه ، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه ب " جَامِعُ " ، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى ، أو على العَرْض .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين ، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر ؛ دلالةً على تعظيمه ، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى ، فلا التفاتَ حينئذٍ .
و " الميعاد " مصدر ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها كميقات .
فإن قيل : لم قالوا - في هذه الآية - : إن اللهَ لا يخلف الميعادَ ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد ؟
فالجوابُ : أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر ؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين ، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله ، ويتجاوز عن سيئاته ، فليسَ مقام الهيبةِ ، فلا جرم قال : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ آل عمران : 194 ] .
اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ؛ فإنها منقضية ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة ؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ووعدك حق ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد .
احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق ، قال : لأن الوعيدَ داخل تحت لفظ الوعد ؛ لقوله تعالى : { قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] ، والموعد والميعاد واحد ، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد .
والجواب : لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً ، بل ذلك مشروط بعدم العفو ، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه توعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ، ويكون قوله : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] كقوله : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] ، فيكون من باب التهكمِ ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى .
وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب ؛ لأنهم يمدحون بذلك ، قال : [ الطويل ]
إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ *** وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه{[5123]}
وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد : قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر ؟ فقال : أقول : إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً ، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعْجَمُ ، لا أقول : أعجم اللسان ، ولكن أعجمُ القلب ؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً ، وعن الإيعاد كَرَمًا ، وأنشد : [ الطويل ]
وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ *** لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي{[5124]}
فقال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو ، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال له عمرو بن عبيد : فقد سقطت حجتك . {[5125]}
قال ابن الخطبيبِ : " وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قِسْت الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره ، فذلك هو اللؤم ، فظهر الفرق .
وأما قولك : لو لم يفعلْ لصار كاذباً ، أو مكذب نفسه .
فالجوابُ : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط ، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.