اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (9)

قرأ أبو حاتم{[5122]} { جَامِعٌ النَّاسَ } بالتنوين والنصب - و " لِيَوْمٍ " اللام للعلة ، أي : لجزاءِ يوم ، وقيل : هي بمعنى " في " ، ولم يذكر المجموع لأجله ، و " لا رَيْبَ " صفة ل " يَوْم " ، أي : لا شك فيه ، فالضمير في " فِيهِ " عائد عليه ، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه ب " جَامِعُ " ، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى ، أو على العَرْض .

قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين ، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر ؛ دلالةً على تعظيمه ، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى ، فلا التفاتَ حينئذٍ .

و " الميعاد " مصدر ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها كميقات .

فإن قيل : لم قالوا - في هذه الآية - : إن اللهَ لا يخلف الميعادَ ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد ؟

فالجوابُ : أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر ؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين ، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله ، ويتجاوز عن سيئاته ، فليسَ مقام الهيبةِ ، فلا جرم قال : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ آل عمران : 194 ] .

فصل

اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ؛ فإنها منقضية ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة ؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ووعدك حق ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد .

فصل

احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق ، قال : لأن الوعيدَ داخل تحت لفظ الوعد ؛ لقوله تعالى : { قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] ، والموعد والميعاد واحد ، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد .

والجواب : لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً ، بل ذلك مشروط بعدم العفو ، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه توعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ، ويكون قوله : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] كقوله : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] ، فيكون من باب التهكمِ ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى .

وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب ؛ لأنهم يمدحون بذلك ، قال : [ الطويل ]

إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ *** وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه{[5123]}

وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد : قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر ؟ فقال : أقول : إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً ، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعْجَمُ ، لا أقول : أعجم اللسان ، ولكن أعجمُ القلب ؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً ، وعن الإيعاد كَرَمًا ، وأنشد : [ الطويل ]

وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ *** لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي{[5124]}

فقال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو ، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال له عمرو بن عبيد : فقد سقطت حجتك . {[5125]}

قال ابن الخطبيبِ : " وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قِسْت الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره ، فذلك هو اللؤم ، فظهر الفرق .

وأما قولك : لو لم يفعلْ لصار كاذباً ، أو مكذب نفسه .

فالجوابُ : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط ، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى " .


[5122]:وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومسلم بن جندب. انظر: الشواذ 19، والبحر المحيط 2/404، والدر المصون 2/19.
[5123]:البيت لأبي الحسن السري ينظر ديوان الرفاء 2/368 ويتيمة الدهر 2/133 ومفاتيح الغيب 7/183 والبحر 2/404، ومحاسن التأويل 4/55.
[5124]:البيت لعامر بن الطفيل ينظر ديوانه ص 85 وغرائب القرآن 3/133 والعمدة 2/1 واللسان (وعد) والتاج 2/536 و 537.
[5125]:ينظر التفسير الكبير للفخر الرازي 7/159. المحرر الوجيز 1/405.