{ 53 - 54 } { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }
يخبر تعالى عن حالة المتخلفين عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد من المنافقين ، ومن في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون بالله ، { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ ْ } فيما يستقبل ، أو لئن نصصت عليهم حين خرجت { لَيَخْرُجُنَّ ْ } والمعنى الأول أولى . قال الله -رادا عليهم- : { قُلْ لَا تُقْسِمُوا ْ } أي : لا نحتاج إلى إقسامكم ولا إلى أعذاركم ، فإن الله قد نبأنا من أخباركم ، وطاعتكم معروفة ، لا تخفى علينا ، قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل من غير عذر ، فلا وجه لعذركم وقسمكم ، إنما يحتاج إلى ذلك ، من كان أمره محتملا ، وحاله مشتبهة ، فهذا ربما يفيده العذر براءة ، وأما أنتم فكلا ولما ، وإنما ينتظر بكم ويخاف عليكم حلول بأس الله ونقمته ، ولهذا توعدهم بقوله : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ } فيجازيكم عليها أتم الجزاء ، هذه حالهم في نفس الأمر .
ثم عادت السورة الكريمة إلى استكمال الحديث عن المنافقين ، فقال - تعالى - { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } .
والجهد : الوسع والطاقة ، من جهد نفسه يجهدها - بفتح الهاء فيهما - إذا اجتهد فى الشىء ، وبذل فيه أقصى وسعه .
أى : وأقسم هؤلاء المنافقون بالأيمان الموثقة بأشد وسائل التوثيق ، بأنهم متى أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج معه للجهاد ليخرجن سراعا تلبية لأمره .
وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ردا كله تهكم وسخرية بهم ، بسبب كذبهم فيقول : { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل السخرية والزجر ، لا تقسموا على ما تقولون ، فإن طاعتكم معروف أمرها ، ومفروغ منها ، فهى طاعة باللسان فقط . أما الفعل فيكذبها .
وذلك كما تقول لمن اشتهر بالكذب : لا تحلف لى على صدقك ، فأمرك معروف لا يحتاج إلى قسم أو دليل .
ثم عقب - سبحانه - على هذه السخرية منهم بقوله : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى : إن الله - تعالى - مطلع اطلاعا تاما على ظواهركم وبواطنكم فلا يحتاج منكم إلى قسم أو توكيد لأقوالكم ، وقد علم - سبحانه - أنكم كاذبون فى حلفكم .
وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين ، وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان ، وما هم بمؤمنين ، بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين :
( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن . قل : لا تقسموا . طاعة معروفة . إن الله خبير بما تعملون . قل : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم . وإن تطيعوه تهتدوا . وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) . .
ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن والله يعلم إنهم لكاذبون . فهو يرد عليهم متهكما ، ساخرا من أيمانهم . ( قل : لا تقسموا . طاعة معروفة ) . . لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها ، مفروغ منها ، لا تحتاج إلى حلف أو توكيد ! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به : لا تحلف لي على صدقك . فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل .
ويعقب على التهكم الساخر بقوله : ( إن الله خبير بما تعملون ) . . فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد ، وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون !
عطف على جملة : { ويقولون ءامنا بالله وبالرسول } [ النور : 47 ] . أتبعت حكاية قولهم ذلك بحكاية قسم أقسموه بالله ليتنصلوا من وصمة أن يكون إعراضهم عن الحكومة عند الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءوه فأقسموا إنهم لا يضمرون عصيانه فيما يقضي به فإنه لو أمرهم الرسول بأشق شيء وهو الخروج للقتال لأطاعوه . قال ابن عطية : وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى الله ورسوله . وقال القرطبي : لما بيّن كراهتهم لحكم النبي أتوه فقالوا : والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا لخرجنا ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا . فنزلت هذه الآية .
وكلام القرطبي يقتضي أنهم ذكروا خروجيْن . وبذلك يكون من الإيجاز في الآية حذف متعلق الخروج ليشمل ما يطلق عليه لفظ الخروج من حقيقة ومجاز بقرينة ما هو معروف من قصة سبب نزول الآية يومئذٍ ، فإنه بسبب خصومة في مال فكان معنى الخروج من المال أسبق في القصد . واقتصر جمهور المفسرين على أن المراد ليخرجُنّ من أموالهم وديارهم . واقتصر الطبري على أن المراد ليخرجن إلى الجهاد على اختلاف الرأيين في سبب النزول .
والإقسام : النطق بالقسم ، أي اليمين .
وضمير { أقسموا } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { ويقولون } [ النور : 47 ] . والتعبير بفعل المضي هنا لأن ذلك شيء وقع وانقضى .
والجَهْد بفتح الجيم وسكون الهاء منتهى الطاقة . ولذلك يطلق على المشقة كما في حديث بدء الوحي " فغَطْني حتى بلغ منِّي الجَهْد " لأن الأمر الشاق لا يعمل إلا بمنتهى الطاقة . وهو مصدر « جَهَد » كمنع متعدياً إذا أتعب غيره .
ونَصْبُ { جهد أيمانهم } يجوز أن يكون على الحال من ضمير { أقسموا } على تأويل المصدر باسم الفاعل كقوله { لا تأتيكم إلا بغتة } [ الأعراف : 187 ] ، أي جاهدين . والتقدير : جاهدين أنفسهم ، أي بالغين بها أقصى الطاقة وهذا على طريقة التجريد . ومعنى ذلك : أنهم كرّروا الأيمان وعدّدوا عباراتها حتى أتعبوا أنفسهم ليوهموا أنهم صادقون في أيمانهم . وإضافة { جهد } إلى { أيمانهم } على هذا الوجه إضافة على معنى ( من ) ، أي جهداً ناشئاً عن أيمانهم .
ويجوز أن يكون { جهد } منصوباً على المفعول المطلق الواقع بدلاً من فعله . والتقدير : جَهَدوا أيمانهم جَهداً . والفعل المقدر في موضع الحال من ضمير { أقسموا } . والتقدير : أقسموا يَجْهَدون أيمانهم جهداً . وإضافة { جهد } إلى { أيمانهم } على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله ؛ جعلت الأيمان كالشخص الذي له جَهد ، ففيه استعارة مكنية ، ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو أن أحداً يجهده ، أي يستخرج منه طاقته فإن كل إعادة لليمين هي كتكليف لليمين بعمل متكرر كالجهد له ، فهذا أيضاً استعارة .
وتقدم الكلام على شيء من هذا عند قوله تعالى : { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } في سورة العقود ( 53 ) وقوله : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية } في سورة الأنعام ( 109 ) .
وجملة : { لئن أمرتهم } الخ بيان لجملة : { أقسموا } . وحذف مفعول { أمرتهم } لدلالة قوله : { ليخرجن } . والتقدير : لئن أمرتهم بالخُروج ليَخرُجن .
فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه الكلمات ذات المَعَاني الكثيرة وهي { لا تقسموا طاعة معروفة } . وذلك كلام موجه لأن نهيهم عن أن يقسموا بعد أن صدر القسم يحتمل أن يكون نهياً عن إعادته لأنهم كانوا بصدد إعادته ، بمعنى : لا حاجة بكم إلى تأكيد القسم ، أي فإن التأكيد بمنزلة المؤكد في كونه كذباً .
ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في معنى عدم المطالبة بالقسم ، أي ما كان لكم أن تقسموا إذ لا حاجة إلى القسم لعدم الشك في أمركم .
ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في التسوية مثل { اصبروا أوْ لاَ تصْبروا سواء عليكم } [ الطور : 16 ] .
ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في حقيقته والمُقسم عليه محذوف ، أي لا تقسموا على الخروج من دياركم وأموالكم فإن الله لا يكلفكم بذلك . ومقام مواجهة نفاقهم يقتضي أن تكون هذه الاحتمالات مقصودة .
وقوله : { طاعة معروفة } كلام أُرسِل مثلاً وتحته معان جمة تختلف باختلاف الاحتمالات المتقدمة في قوله : { لا تقسموا } .
وتنكير { طاعة } لأن المقصود به نوع الطاعة وليست طاعة معينة فهو من باب : تمرة خير من جَرادة ، و { معروفة } خبره .
فعلى احتمال أن يكون النهي عن القسم مستعملاً في النهي عن تكريره يكون المعنى من قبيل التهكم ، أي لا حرمة للقسم فلا تعيدوه فطاعتكم معروفة ، أي معروف وهنها وانتفاؤها .
وعلى احتمال استعمال النهي في عدم المطالبة باليمين يكون المعنى : لماذا تقسمون أفَأنا أشك في حالكم فإن طاعتكم معروفة عندي ، أي أعرف عدم وقوعها ، والكلام تهكم أيضاً .
وعلى احتمال استعمال النهي في التسوية فالمعنى : قسَمُكُم ونفيُه سواء لأن أيمانكم فاجرة وطاعتكم معروفة .
أو يكون { طاعة } مبتدأ محذوف الخبر ، أي طاعة معروفة أوْلَى من الأيمان ، ويَكون وصف { معروفة } مشتقاً من المعرفة بمعنى العلم ، أي طاعة تُعلم وتُتحقق أوْلى من الأيمان على طاعة غير واقعةٍ ، وهو كالعرفان في قولهم : لا أعرفنك تفعل كذا .
وإن كان النهي مستعملاً في حقيقته فالمعنى : لا تقسموا هذا القسمَ ، أي على الخروج من دياركم وأموالكم لأن الله لا يكلفكم الطاعة إلا في معروف ، فيكون وصف { معروفة } مشتقاً من العرفان ، أي عدم النكران كقوله تعالى : { ولا يعصِينَك في معروف } [ الممتحنة : 12 ] .
وجملة : { إن الله خبير بما تعملون } صالحة لتذييل الاحتمالات المتقدمة ، وهي تعليل لما قبلها .