السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِنۡ أَمَرۡتَهُمۡ لَيَخۡرُجُنَّۖ قُل لَّا تُقۡسِمُواْۖ طَاعَةٞ مَّعۡرُوفَةٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (53)

ولما ذكر تعالى ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن ذكر حال المنافقين بقوله تعالى : { وأقسموا بالله } أي : الذي له الكمال المطلق ، وقوله تعالى : { جهد أيمانهم } مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها ، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها ، وعن ابن عباس : من قال بالله فقد بالغ في اليمين ، وبلغ غاية شدتها { لئن أمرتهم } أي : أمر من الأمور { ليخرجن } مما هم متلبسون به من خلافه كائناً ما كان ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ولئن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا ، فقال الله تعالى : { قل } أي : لهم { لا تقسموا } أي : لا تحلفوا فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى الإقسام ، وهاهنا قد تم الكلام ، ولو كان قسمهم صادقاً لما نهوا عنه ؛ لأن من حلف على القيام بالبر لا ينهى عنه ، فثبت أن قسمهم كان لنفاقهم ، وكان باطنهم يخالف ظاهرهم ، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح ؛ قال المتنبي :

وفي اليمين على ما أنت واعده *** ما دل أنك في الميعاد متهم

وفي رفع قوله تعالى : { طاعة معروفة } ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره أمرنا طاعة أو المطلوب طاعة ، ثانيها : أنه مبتدأ والخبر محذوف ، أي : أمثل أو أولى أو خير أي : طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم خير من قسمكم الذي لا تصدقون فيه ، ثالثها : طاعة مبتدأ أي : هذه الحقيقة ومعروفة هو الخبر أي : معروفة منكم ومن غيركم وإرادة الحقيقة هو الذي سوغ الابتداء بها مع تنكير لفظها ؛ لأن العموم الذي تصلح له قد تخصص بإرادة الحقيقة كما قالوه في أعرف المعارف .

والمعنى أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها عل شمائله ، وكذا المعصية ؛ لأنه «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها » رواه الطبراني عن عثمان ، وعن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال : لو أن رجلاً دخل بيتاً في جوف بيت فأدى هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به ، وما من عامل عمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيراً فخير ، وإن كان شراً فشر ، وعن سعيد : لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للناس كائناً من كان { إن الله } أي : الذي له الإحاطة بكل شيء { خبير بما تعملون } أي : لا يخفى عليه شيء من سرائركم فإنه فاضحكم لا محالة ، ومجازيكم على نفاقكم .