{ 74 - 83 } { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } إلى آخر القصة .
يقول تعالى : واذكر قصة إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد ، ونهيه عن الشرك ، وإذ قال لأبيه { آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } أي : لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء ، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا ، وتركتم عبادة خالقكم ، ورازقكم ، ومدبركم .
وبعد أن ساق القرآن ألواناً من الأدلة على وحدانية الله وسعة علمه وقدرته أخذ فى التدليل على بطلان الشرك وإثبات التوحيد عن طريق القصة ، فحكى لنا جانباً مما قاله إبراهيم لأبيه وقومه فقال - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ . . . . } .
المعنى : واذكر يا محمد وذكر قومك ليعتبروا ويتعظوا وقت أن قال إبراهيم لأبيه آزر منكراً عليه عبادة الأصنام { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } تعبدها من دون الله الذى خلقك فسواك فعدلك { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } الذين يتبعونك فى عبادتها فى ضلال مبين ، أى فى انحراف ظاهر بين عن الطريق المستقيم .
قال الآلوسى : ( وآزر بزنة آدم علم أعجمى لأبى إبراهيم - عليه السلام - وكان من قرية من سواد الكوفة ، وهو بدل من إبراهيم أو عطف بيان عليه ، وقيل : إنه لقب لأبى إبراهيم واسمه الحقيقى تارخ وأن آزر لقبه ، وقيل هو اسم جده ومنهم من قال اسم عمه ، والعم والجد يسميان أبا مجازا ) .
والاستفهام فى قوله { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } للإنكار . والتعبير بقوله { أَتَتَّخِذُ } الذى هو افتعال من الأخذ ، فيه إشارة بأن عبادته هو وقومه لها شىء مصطنع ، والأصنام ليست أهلا للألوهية ، وفى ذلك ما فيه من التعريض بسخافة عقولهم ، وسوء تفكيرهم .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها فى كلام إبراهيم أن ضلال أبيه وقومه صار كالشىء المشاهد لوضوحه ، وعليه فقوله { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فى موضع المفعول الثانى .
ووصف الضلال بأنه مبين يدل على شدة فساد عقولهم حيث لم يتفطنوا لضلالهم مع أنه كالمشاهد المرئى .
قال الشيخ القاسمى : قال بعض مفسرى الزيدية : ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصحية فى الدين لا سيما للأقارب ، فإن من كان أقرب فهو أهم ، ولهذا قال - تعالى - { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } وقال - تعالى - : { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } وقال صلى الله عليه وسلم " أبدأ بنفسك ثم بمن تعول " ولهذا بدأ النبى صلى الله عليه وسلم بعلى وخديجة وزيد وكانوا معه فى الدار فآمنوا وسبقوا ، ثم بسائر قريش ، ثم بالعرب ، ثم بالموالى ، وبدأ إبراهيم بأبيه ثم بقومه ، وتدل هذه الآية - أيضا - على أن النصيحة فى الدين ، والذم والتوبيخ لأجله ليس من العقوق ، وقد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة " وعلى وجه آزر قترة وغبره " فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصنى ؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتنى أن لا تخزنى يوم يبعثون ، فأى خزى أخزى من أبى الأبعد ؟ فيقول الله - تعالى - " إنى حرمت الجنة على الكافرين " " .
ثم قال الشيخ القاسمى : والآية حجة على الشيعة فى زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا ، وأن آزر عم إبراهيم لا أبوه ، وذلك لأن الأصل فى الإطلاق الحقيقة ومصله لا يجزم به من غير نقل " .
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين . . وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين . . فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي ، هذا أكبر ، فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين ) .
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات . . مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها . وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق ، الذي تجده في ضميرها ، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها . وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله ! حتى إذا اختبرته وجدته زائفا ، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته . . ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها . وهي تنطلق بالفرحة الكبرى ، والامتلاء الجياش ، بهذه الحقيقة ، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها ! . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار . . إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل . وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ؛ ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما . . كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفه الصلبة الحاسمة الصريحة :
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . .
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم . إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهة - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد ، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء ، والذي خلق الناس والأحياء . . هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر ، أو وثنا من خشب . . وإذا لم تكن هذه الاصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد ؛ وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد !
وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السلام - للوهلة الأولى . وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها . . ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين ، فتنكره وتستنكره ، وتجهر بكلمة الحق وتصدع ، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة :
( أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . .
كلمة يقولها إبراهيم - عليه السلام - لأبيه . وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين ، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم . ولكنها العقيدة هنا . والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة ، وفوق مشاعر الحلم والسماحة . وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها . والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا . .
عطف على الجمل السابقة التي أولاها { وكذّب به قومك وهو الحقّ } [ الأنعام : 66 ] المشتملة على الحجج والمجادلة في شأن إثبات التوحيد وإبطال الشرك ، فعُقّبت تلك الحجج بشاهد من أحوال الأنبياء بذكر مجادلة أول رسول أعلَن التوحيد وناظر في إبطال الشرك بالحجّة الدامغة والمناظرة الساطعة ، ولأنَّها أعدل حجَّة في تاريخ الدين إذ كانت مجادلة رسول لأبيه ولقومه ، وكانت أكبر حجّة على المشركين من العرب بأنّ أباهم لم يكن مشركاً ولا مُقِرّاً للشرك في قومه ، وأعظم حجَّة للرسول صلى الله عليه وسلم إذ جاءهم بالإقلاع عن الشرك .
والكلام في افتتاح القصّة ب { إذْ } بتقدير اذْكُر تقدّم عند قوله تعالى : { وإذ قال ربّك للملائكة إنٌّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة [ البقرة : 30 ] .
و{ آزر } ظاهر الآية أنَّه أبو إبراهيم . ولا شكّ أنّه عُرف عند العرب أنّ أبا إبراهيم اسمُه آزر فإنّ العرب كانوا معتنين بذكر إبراهيم عليه السلام ونسبِه وأبنائه . وليس من عادة القرآن التعرّض لذكر أسماء غير الأنبياء فما ذكر اسمه في هذه الآية إلاّ لقصد سنذكره . ولم يُذكر هذا الاسم في غير هذه الآية . والذي في كتب الإسرائيليّين أنّ اسم أبي إبراهيم ( تارح ) بمثناة فوقية فألف فراء مفتوحة فحاء مهملة . قال الزجاج : لا خلاف بين النسّابين في أنّ اسم أبي إبراهيم تارح . وتبعه محمد بن الحسن الجويني الشافعي في « تفسير النكت » . وفي كلامهما نظر لأنّ الاختلاف المنفي إنَّما هو في أنّ آزر اسم لأبي إبراهيم ولا يقتضي ذلك أنه ليس له اسم آخر بين قومه أو غيرهم أو في لغة أخرى غير لغة قومه . ومثل ذلك كثير . وقد قيل : إنّ ( آزر ) وصف . قال الفخر : قيل معناه الهرم بلغة خوارزم ، وهي الفارسية الأصلية . وقال ابن عطية عن الضحّاك : ( آزر ) الشيخ . وعن الضحَّاك : أنّ اسم أبي إبراهيم بلغة الفرس ( آزر ) . وقال ابن إسحاق ومقاتل والكلبي والضحَّاك : اسم أبي إبراهيم تارح وآزر لقب له مثل يعقوب الملقب إسرائيل ، وقال مجاهد : ( آزر ) اسم الصنم الذي كان يعبده أبو إبراهيم فلقّب به . وأظهر منه أن يقال : أنَّه الصنم الذي كان أبو إبراهيم سادن بيته .
وعن سليمان التيْمي والفرّاء : ( آزر ) كلمةُ سبّ في لغتهم بمعنى المعْوَجّ ، أي عن طريق الخير . وهذا وهم لأنَّه يقتضي وقوع لفظ غير عربي ليس بعلم ولا بمعرّب في القرآن . فإنّ المعرّب شرطه أن يكون لفظاً غير علم نقله العرب إلى لغتهم . وفي « تفسير الفخر » : أنّ من الوجوه أن يكون ( آزر ) عمّ إبراهيم وأطلق عليه اسم الأب لأنّ العمّ قد يقال له : أب . ونسب هذا إلى محمد بن كعب القرظي . وهذا بعيد لا ينبغي المصير إليه فقد تكرّر في القرآن ذكر هذه المجادلة مع أبيه ، فيبعد أن يكون المراد أنَّه عمّه في تلك الآيات كلِّها .
قال الفخر : وقالت الشيعة : لا يكون أحد من آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجداده كافراً . وأنكروا أنّ ( آزر ) أب لإبراهيم وإنَّما كان عمّه . وأمَّا أصحابنا فلم يلتزموا ذلك . قلت : هو كما قال الفخر من عدم التزام هذا وقد بيّنتُ في « رسالة » لي في طهارة نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الكفر لا ينافي خلوص النسب النبوي خلوصاً جبليّاً لأنّ الخلوص المبحوث عنه هو الخلوص ممَّا يتعيّر به في العادة .
والذي يظهر لي أنَّه : أنّ ( تارح ) لُقِّب في بلد غربة بلقب ( آزر ) باسم البلد الذي جاء منه ، ففي « معجم ياقوت » آزر بفتح الزاي وبالراء ناحية بين سوق الأهواز ورامهرمز . وفي الفصل الحادي عشر من سفر التكوين من التوراة أنّ بلد تارح أبي إبراهيم هو ( أور الكَلْدَانيين ) . وفي « معجم ياقوت » ( أور ) بضم الهمزة وسكون الواو من أصقاع رامهرمز من خوزستان » . g ولعلّه هو أور الكلدانيين أو جزء منه أضيف إلى سكّانه . وفي سفر التكوين أنّ ( تارح ) خرج هو وابنه إبراهيم من بلده أور الكلدانيين قاصديْن أرض كنعان وأنهما مرّا في طريقهما ببلد ( حَاران ) وأقاما هناك ومات تارح في حَاران . فلعلّ أهل حاران دعَوه آزر لأنَّه جاء من صقع آزر . وفي الفصل الثاني عشر من سفر التكوين ما يدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام نُبِّىء في حاران في حياة أبيه .
ولم يرد في التوراة ذكر للمحاورة بين إبراهيم وأبيه ولا بينه وبين قومه .
ولذا فالأظهر أن يكون { آزر } في الآية منادى وأنَّه مبني على الفتح . ويؤيد ذلك قراءة يعقوب { آزر } مضموماً . ويؤيّده أيضاً ما روي : أنّ ابن عباس قرأه أإزر بهمزتين أولاهما مفتوحة والثانية مكسورة ، وروي : عنه أنَّه قرأه بفتح الهمزتين وبهذا يكون ذكر اسمه حكاية لخطاب إبراهيم إيّاه خطاب غلظة ، فذلك مقتضى ذكر اسمه العلم .
وقرأ الجمهور { آزر } بفتح الراء وقرأه يعقوب بضمّها . واقتصر المفسّرون على جعله في قراءة فتح الراء بياناً من { أبيه } ، وقد علمت أنَّه لا مقتضي له .
والاستفهام في { أتتَّخذ أصناماً آلهة } استفهام إنكار وتوبيخ .
والظاهر أنّ المحكي في هذه الآية موقف من مواقف إبراهيم مع أبيه ، وهو موقف غلظة ، فيتعيَّن أنَّه كان عندما أظهر أبوه تصلّباً في الشّرك . وهو ما كان بعد أن قال له أبوه { لئن لم تنته لأرجمنَّك } [ مريم : 46 ] وهو غير الموقف الذي خاطبه فيه بقوله : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } الآيات في سورة [ مريم : 42 ] .
و { تتّخذ } مضارع اتّخذ ، وهو افتعال من الأخذ ، فصيغة الافتعال فيه دالَّة على التكلّف للمبالغة في تحصيل الفعل .
قال أهل اللغة : قلبت الهمزة الأصلية تاء لقصد الإدغام تخفيفاً وليَّنوا الهمزة ثم اعتبروا التاء كالأصلية فربما قالوا : تخذ بمعنى اتّخذ ، وقد قرىء بالوجهين قوله تعالى : { لو شئت لاتَّخذت عليه أجراً } [ الكهف : 77 ] و { لتَخَذْت عليه أجراً } فأصل فعل اتّخذ أن يتعدّى إلى مفعول واحد وكان أصل المفعول الثاني حالاً ، وقد وعدنا عند قوله تعالى : { قالوا أتتَّخذنا هزؤاً } في سورة [ البقرة : 67 ] بأن نبيِّن استعمال ( اتَّخذ ) وتعديته في هذه السورة . ومعنى تتّخذ هنا تصطفي وتختار ؛ فالمراد أتعبد أصناماً . وفي فعل { تتّخذ } إشعار بأنّ ذلك شيء مصطنع مفتعل وأنّ الأصنام ليست أهلاً للإلهية . وفي ذلك تعريض بسخافة عقله أن يجعل إلهه شيئاً هو صنعه .
والأصنام جمع صنم ، والصنم الصورة التي تمثّل شكل إنسان أو حيوان ، والظاهر أنّ اعتبار كونه معبوداً داخل في مفهوم اسم صنم كما تظافرت عليه كلمات أهل اللغة فلا يطلق على كلّ صورة ، وفي « شفاء الغليل » : أنّ صنم مُعرّب عن ( شَمَن ) ، وهو الوثن ، أي مع قلب في بعض حروفه ، ولم يذكر اللغة المعرّب منها ، وعلى اعتبار كون العبادة داخلة في مفهوم الاسم يكون قوله { أصناماً } مفعول { تتَّخذ } على أن تتّخذ متعدّ إلى مفعول واحد على أصل استعماله ومحلّ الإنكار هو المفعول ، أي { أصناماً } ، ويكون قوله { آلهة } حالاً من { أصناماً } مؤكّدة لمعنى صاحب الحال ، أو بدلاً من { أصناماً } . وهذا الذي يناسب تنكير { أصناماً } لأنَّه لو كان مفعولاً أوّل ل { تتّخذ } لكان معرّفاً لأنّ أصله المبتدأ . وعلى احتمال أنّ الصنم اسم للصورة سواء عبدت أم لم تعبد يكون قوله { آلهة } مفعولاً ثانياً ل { تتّخذ } على أنّ { تتّخذ } مضمّن معنى تجعل وتصيِّر ، أي أتجعل صوراً آلهة لك كقوله { أتعبدون ما تنحتون } [ الصافات : 95 ] .
وقد تضمَّن ما حكي من كلام إبراهيم لأبيه أنَّه أنكر عليه شيئين : أحدهما جعله الصور آلهة مع أنَّها ظاهرة الانحطاط عن صفة الإلهية ، وثانيهما تعدّد الآلهة ولذلك جُعل مفعولا { تتّخذ } جَمْعَيْن ، ولم يُقل : أتتّخذ الصنم إلهاً .
وجملة : { إنِّي أراك وقومك في ضلال } مبيِّنَة للإنكار في جملة : { أتتَّخذ أصناماً آلهة } . وأكّد الإخبار بحرف التأكيد لما يتضمَّنه ذلك الإخبار من كون ضلالهم بيّناً ، وذلك ممَّا ينكره المخاطب ؛ ولأنّ المخاطب لَمَّا لم يكن قد سمع الإنكارَ عليه في اعتقاده قبْل ذلك يحسب نفسه على هدى ولا يحسب أنّ أحداً ينكر عليه ما هو فيه ، ويظن أنّ إنكار ابنه عليه لا يبلغ به إلى حدّ أن يراه وقومه في ضلال مبين . فقد يتأوّله بأنَّه رام منه ما هو أولَى .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أنّ ضلال أبيه وقومه صار كالشيء المشاهَد لوضوحه في أحوال تقرّباتهم للأصنام من الحجارة فهي حالة مشاهد ما فيها من الضلال .
وعليه فقوله : { في ضلال مبين } في موضع الحال . ويجوز كون الرؤية علمية ، وقوله : { في ضلال مبين } في موضع المفعول الثاني .
وفائدة عطف { وقومك } على ضمير المخاطب مع العلم بأنّ رؤيته أباه في ضلال يقتضي أن يرى مماثليه في ضلال أيضاً لأنّ المقام مقام صراحة لا يكتفي فيه بدلالة الالتزام ولينبئه من أول وهلة على أنّ موافقة جمع عظيم إياه على ضلاله لا تعصّد دينه ولا تشكّك من ينكر عليه ما هو فيه . و { مبين } اسم فاعل من أبان بمعنى بان ، أي ظاهر . ووصف الضلال ب { مبين } نداء على قوة فساد عقولهم حيث لم يتفطّنوا لضلالهم مع أنَّه كالمشاهد المرئي .
ومباشرتُه إيَّاه بهذا القول الغليظ كانت في بعض مجادلاته لأبيه بعد أن تقدّم له بالدعوة بالرفق ، كما حكى الله عنه في موضع آخر { يا أبَت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتَّبعني أهْدك صراطاً سويّاً } إلى قوله { سلام عليك سأستغفر لك ربِّي إنَّه كان بي حفيّاً } [ مريم : 42 47 ] . فلما رأى تصميمه على الكفر سلك معه الغلظة استقصاء لأساليب الموعظة لعلّ بعضها أن يكون أنجع في نفس أبيه من بعض فإنّ للنفوس مسالك ولمجال أنظارها ميادين متفاوتة ، ولذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { ادْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] ، وقال له في موضع آخر { واغلُظْ عليهم } [ التوبة : 73 ] . فحكى الله تعالى عن إبراهيم في هذه الآية بعض مواقفه مع أبيه وليس في ذلك ما تنافي البُرور به لأنّ المجاهرة بالحقّ دون سبّ ولا اعتداء لا ينافي البرور . ولم يزل العلماء يخطّئون أساتذتهم وأئمّتهم وآباءهم في المسائل العلمية بدون تنقيص . وقد قال أرسطاليس في اعتراض على أفلاطون : أفلاطون صديق والحقّ صديق لكن الحقّ أصدق . على أنّ مراتب برّ الوالدين متفاوتة في الشرائع . وقد قال أبناء يعقوب { تالله إنَّك لفي ضلالك القديم } [ يوسف : 95 ] .