ثم بين - سبحانه - الأسباب التي حملت إبليس على طلب تأخير موته إلى يوم القيامة ، والتى من أهمها الانتقام من آدم وذريته فقال - تعالى - : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } .
والباء في قوله { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : الباء ههنا بمعنى السبب ، أى : بسبب كونى غاويا لأزينن لهم كقول القائل : أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار ، وبطاعته ليدخلن الجنة .
أو للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن لهم . والمعنى أقسم بإغوائك لى لأزينن لهم . ونظيره قوله - تعالى - { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله { أغويتنى } من الإِغواء ، وهو خلق الغى في القلوب . وأصل الغى الفساد ، ومنه غوى الفصيل - كرضى - إذا بشم من اللبن ففسدت معدته . أو منع من الرضاع فهزل وكاد يهلك ، ثم استعمل في الضلال . يقال : غوى فلان يغوى غيا وغواية فهو غاو إذا ضل عن الطريق المستقيم . وأغواه غيره وغواه : أضله .
وقوله { لأزينن لهم } من التزيين بمعنى التحسين والتجميل ، وهو تصيير الشى زينًا ، أى : حسنًا حتى ترغب النفوس فيه وتقبل عليه .
والضمير في { لهم } يعود على ذرية آدم ، وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر لهم ذكر ، وقد جاء ذلك صريحًا في قوله - تعالى - في آية أخرى : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } وحذف مفعول { لأزينن } لدلالة المقام عليه .
أى : لأزينن لهم المعاصى والسيئات ، بأن أحسن لهم القبيح . وأزين لهم المنكر . وأحبب الشهوات إلى نفوسهم حتى يتبعوها ، وأبذل نهاية جهدى في صرفهم عن طاعتك . . . وقال - سبحانه - { فى الأرض } لتحديد مكان إغوائه ، إذ هي المكان الذي صار مستقرًا له ولآدم وذريته ، كما قال - تعالى - في آية أخرى : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } - أى الجنة - فأخرجهما - أى آدم وحواء - مما كانا فيه ، { وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } وقوله { ولأغوينهم أجمعين } مؤكدًا لما قبله .
أى : والله لأغوينهم جميعًا مادمت قادرًا على ذلك ، ولأعملن على إضلالهم بدون فتور أو يأس ، كما قال - تعالى - في آية أخرى : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال القرطبى : وروى ابن لهيعة عبد الله عن دراج أبى السمح ، عن أبى الهيثم ، عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبليس قال يارب وعزتك وجلالك لا أزال أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم ، فقال الرب : وعزتى وجلالى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى " .
( قال : رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين )
وبذلك حدد إبليس ساحة المعركة . إنها الأرض :
وحدد عدته فيها إنه التزيين . تزيين القبيح وتجميله ، والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه . وهكذا لا يجترح الإنسان الشر إلا وعليه من الشيطان مسحة تزينه وتجمله ، وتظهره في غير حقيقته وردائه . فليفطن الناس إلى عدة الشيطان ؛ وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينا ، وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء . ليحذروا فقد يكون الشيطان هناك .
{ قال رب بما أغويتني } الباء للقسم وما مصدرية وجوابه . { لأُزيّننّ لهم في الأرض } والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور كقوله : { اخلد إلى الأرض } وفي انعقاد القسم بأفعال الله تعالى خلاف . وقيل للسببية والمعتزلة أولُو الإغواء بالنسبة إلى الغي ، أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه السلام ، أو بالإضلال عن طريق الجنة واعتذروا عن إمهال الله له ، وهو سبب لزيادة غيه وتسليط له على إغواء بني آدم بأن الله تعالى علم منه وممن تبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أولم يمهل ، وأن في إمهاله تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب ، وضعف ذلك لا يخفى على ذوي الألباب . { ولأغوينّهم أجمعين } ولأحملنهم أجمعين على الغواية .
الباء في { بما أغويتني } للسببية ، و ( ما ) موصولة ، أي بسبب إغوائك إياي ، أي بسبب أن خلقتني غاوياً فسأغوي الناس .
واللام في { لأزينن } لام قسم محذوف مراد بها التأكيد ، وهو القسم المصرح به في قوله : { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين } [ سورة ص : 82 ] .
والتزيين : التحسين ، أي جعل الشيء زينا ، أي حسناً . وحذف مفعول لأُزَينَنّ } لظهوره من المقام ، أي لأزينن لهم الشر والسيئات فيرونها حسنة ، وأزيّن لهم الإقبال على الملاذ التي تشغلهم عن الواجبات . وتقدم عند قوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } في سورة البقرة ( 212 ) .
والإغواء : جعلهم غاوين . والغّواية بفتح الغين : الضلال . والمعنى : ولأضلنّهم . وإغواء الناس كلهم هو أشد أحوال غاية المغوي إذ كانت غوايته متعدية إلى إيجاد غواية غيره .
وبهذا يعلم أن قوله : { بما أغويتني } إشارة إلى غَواية يعلمها الله وهي التي جبله عليها ، فلذلك اختير لحكايتها طريقة الموصولية ، ويعلم أن كلام الشيطان هذا طفح بما في جبلّته ، وليس هو تشفّياً أو إغاظة لأن العظمة الإلهية تصده عن ذلك .
وزيادة { في الأرض } لأنها أول ما يخطر بباله عند خطور الغواية لاقتران الغواية بالنزول إلى الأرض الذي دلّ عليه قوله تعالى : { فاخرج منها } [ سورة الحجر : 34 ] ، أي اخرج من الجنة إلى الأرض كما جاء في الآية الأخرى قال : { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر } [ سورة البقرة : 2 ] ، ولأن جعل التزيين في الأرض يفيد انتشاره في جميع ما على الأرض من الذوات وأحوالها .
وضمائر : { لهم } ، و { لأغوينهم } و { منهم } ، لبني آدم ، لأنه قد علم علماً ألقي في وجدانهِ بأن آدم عليه السلام ستكون له ذرية ، أو اكتسب ذلك من أخبار العالم العلوي أيام كان من أهله وملئه .
وجعل المُغْوَيْن هم الأصل ، واستثنى منهم عباد الله المخلصين لأن عزيمته منصرفة إلى الإغواء ، فهو الملحوظ ابتداء عنده ، على أن المُغوَيْن هم الأكثر . وعكسه قوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك } [ سورة الحجر : 42 ] . والاستثناء لا يُشعر بقلّة المستثنى بالنسبة للمستثنى منه ولا العكس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.