{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به .
واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام ، بهذه الأصول ، وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح ، وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام ، وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها ، فهي من الإيمان ، وأثر من آثاره ، فحيث أطلق الإيمان ، دخل فيه ما ذكر ، وكذلك الإسلام ، إذا أطلق دخل فيه الإيمان ، فإذا قرن بينهما ، كان الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق ، والإسلام ، اسما للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة ، فقوله تعالى : { قُولُوا } أي : بألسنتكم ، متواطئة عليها قلوبكم ، وهذا هو القول التام ، المترتب عليه الثواب والجزاء ، فكما أن النطق باللسان ، بدون اعتقاد القلب ، نفاق وكفر ، فالقول الخالي من العمل عمل القلب ، عديم التأثير ، قليل الفائدة ، وإن كان العبد يؤجر عليه ، إذا كان خيرا ومعه أصل الإيمان ، لكن فرق بين القول المجرد ، والمقترن به عمل القلب .
وفي قوله : { قُولُوا } إشارة إلى الإعلان بالعقيدة ، والصدع بها ، والدعوة لها ، إذ هي أصل الدين وأساسه .
وفي قوله : { آمَنَّا } ونحوه مما فيه صدور الفعل ، منسوبا إلى جميع الأمة ، إشارة إلى أنه يجب على الأمة ، الاعتصام بحبل الله جميعا ، والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا ، وعملهم متحدا ، وفي ضمنه النهي عن الافتراق ، وفيه : أن المؤمنين كالجسد الواحد .
وفي قوله : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } إلخ دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان ، على وجه التقييد ، بل على وجوب ذلك ، بخلاف قوله : " أنا مؤمن " ونحوه ، فإنه لا يقال إلا مقرونا بالاستثناء بالمشيئة ، لما فيه من تزكية النفس ، والشهادة على نفسه بالإيمان .
فقوله : { آمَنَّا بِاللَّهِ } أي : بأنه موجود ، واحد أحد ، متصف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص وعيب ، مستحق لإفراده بالعبادة كلها ، وعدم الإشراك به في شيء منها ، بوجه من الوجوه .
{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى : { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله ، من صفات الباري ، وصفات رسله ، واليوم الآخر ، والغيوب الماضية والمستقبلة ، والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية ، وأحكام الجزاء وغير ذلك .
{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } إلى آخر الآية ، فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء ، والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا ، ما نص عليه في الآية ، لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار . فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب ، أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول ، ثم ما عرف منهم بالتفصيل ، وجب الإيمان به مفصلا .
وقوله : { لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } أي : بل نؤمن بهم كلهم ، هذه خاصية المسلمين ، التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين .
فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره ، فيفرقون بين الرسل والكتب ، بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به ، وينقض تكذيبهم تصديقهم ، فإن الرسول الذي زعموا ، أنهم قد آمنوا به ، قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كذبوا محمدا ، فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به ، فيكون كفرا برسولهم .
وفي قوله : { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } دلالة على أن عطية الدين ، هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية . لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك ، بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع .
وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله ، ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه ، ليس لهم من الأمر شيء .
وفي قوله : { مِنْ رَبِّهِمْ } إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده ، أن ينزل عليهم الكتب ، ويرسل إليهم الرسل ، فلا تقتضي ربوبيته ، تركهم سدى ولا هملا .
وإذا كان ما أوتي النبيون ، إنما هو من ربهم ، ففيه الفرق بين الأنبياء وبين من يدعي النبوة ، وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه ، فالرسل لا يدعون إلا إلى لخير ، ولا ينهون إلا عن كل شر ، وكل واحد منهم ، يصدق الآخر ، ويشهد له بالحق ، من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }
وهذا بخلاف من ادعى النبوة ، فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم ، كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع ، وعرف ما يدعون إليه .
فلما بيَّن تعالى جميع ما يؤمن به ، عموما وخصوصا ، وكان القول لا يغني عن العمل قال : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : خاضعون لعظمته ، منقادون لعبادته ، بباطننا وظاهرنا ، مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول ، وهو { لَهُ } على العامل وهو { مُسْلِمُونَ }
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، واشتملت على الإيمان بجميع الرسل ، وجميع الكتب ، وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم ، وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك ، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين ، ومن ادعى النبوة من الكاذبين ، وعلى تعليم الباري عباده ، كيف يقولون ، ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة ، فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .
ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى جواب جامع وكلمة سواء تفيد نبذ التعصب جانباً وتدعو إلى اتباع الوحي الإِلهي الذي أرسل الله به الرسل مبشرين ومنذرين بدون تفرقة بين أحد منهم ، وهو يتضمن دعوة أهل الكتاب إلى الطريق الحق فقال تعالى : { قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
أي : قولوا أيها المؤمنون لأولئك اليهود الذين يزعمون أن الهداية في اتباع ملتهم ، قولوا لهم : ليست الهداية في اتباع ملتكم فقد دخلها الشرك والتحريف ، وإنما الهداية في أن نصدق بالله ، وبالقرآن الكريم الذي أنزله الله على موسى وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ، ونحن في تصديقنا بالأنبياء لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعضهم ونكفر بالبعض الآخر كما فعلتم أنتم يا معشر اليهود وإنما نؤمن بهم جميعاً بدون تفرقة بينهم ، ونحن لربنا مسلمون خاضعون بالطاعة .
قال الإِمام الرازي : " فإن قيل : كيف يجوز الإِيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة ؟ قلنا : نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه ، فلا يلزم منا المناقضة ، أما اليهود فإنهم لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز على يديه ، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام المعجز على يديه ، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق .
وقوله تعالى : { قولوا آمَنَّا } خطاب للمؤمنين .
والأسباط : جمع سبط ، وهو الحفيد ، وهم أبناء يعقوب - عليه السلام - سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق - عليه السلام - وكانوا اثني عشر سبطاً كما قال تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } والمراد : الإِيمان بما أنزل الله من الوحي على الأنبياء منهم .
قال الإمام القرطبي : والأسباط : ولقد يعقوب ، وهم اثنا عشر ولداً ، ولكل واحد من هم أمة من الناس ، واحدهم سبط ، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل ، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون ، وقيل أصله من السبط " بالتحريك " وهو الشجر ، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجرة : الواحد سبطه ، وبين لك هذا ما روى عن ابن عباس ، قال : كل الأنبياء من إسرائيل إلا عشرة : نوحا وشعيبا ، وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمداً - صلوات الله وسلامه عليهعم جميعاً " .
وقوله تعالى : { وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ } معناه : وآمنا - أيضاً - بالتوراة التي أعطاها الله - تعالى - لموسى ، وبالإنجيل الذي أعطاه لعيسى ، وبكل ما آتاه الله لأنبيائه تصديقاً لهم في نبوتهم .
وعطف - سبحانه - عيسى على موسى بدون إعادة الفعل لأن عيسى جاء مصدقاً للتوراة ، وما نسخ منها إلا أحكاماً يسيرة ، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله حكاية عنه { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وقدم - سبحانه - الإِيمان بالله على غيره لأن الإيمان بالأنبياء . وما أنزل إليهم متوقف على الإِيمان بالله .
وقدم الإِيمان بما أنزل إلينا - نحن معشر المسلمين - وهو القرآن الكريم لأن الإِيمان به يجب أن يكون على وجهي الإِجمال والتفصيل ، أما ما أنزل على الأنبياء من قبل كالتوراة والإِنجيل ، فيكفي الإِيمان به على و جه الإِجمال .
وقوله تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } معناه : لا نفرق يبن جماعة النبيين ، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلتم يا معشر اليهود ، إذ كفرتم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وفعلكم هذا في حقيقته كفر بالأنبياء جميعا لأن من كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل ، ولذلك فنحن معشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء بدون تفرقة أو استثناء .
ثم يدعو المسلمين لإعلان الوحدة الكبرى للدين ، من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى عيسى بن مريم ، إلى الإسلام الأخير . ودعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا الدين الواحد :
( قولوا : آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم . لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) . .
تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعا ، وبين الرسل جميعا ، هي قاعدة التصور الإسلامي وهي التي تجعل من الأمة المسلمة ، الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض ، الموصولة بهذا الأصل العريق ، السائرة في الدرب على هدى ونور . والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميع الحياة في ظله دون تعصب ولا اضطهاد . والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا مفتوحا للناس جميعا في مودة وسلام .
{ قولوا آمنا بالله } الخطاب للمؤمنين لقوله تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } { وما أنزل إلينا } القرآن ، قدم ذكره لأنه أول بالإضافة إلينا ، أو سبب للإيمان بغيره { وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } الصحف ، وهي وإن نزلت إلى إبراهيم لكنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها فهي أيضا منزلة إليهم ، كما أن القرآن منزل إلينا ، والأسباط جمع سبط وهو الحافد ، يريد به حفدة يعقوب ، أو أبناءه وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق { وما أوتي موسى وعيسى } التوراة والإنجيل ، أفردهما بالذكر بحكم أبلغ لأن أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق ، والنزاع وقع فيهما { وما أوتي النبيون } جملة المذكورين منهم وغير المذكورين .
{ من ربهم } منزلا عليهم من ربهم . { لا نفرق بين أحد منهم } كاليهود ، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض ، وأحد لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين . { ونحن له } أي لله { مسلمون } مذعنون مخلصون .
{ قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }( 136 )
هذا الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، علمهم الله الإيمان( {[1313]} ) ، و { ما أنزل إلينا } يعني به القرآن ، وصحت إضافة الإنزال إليهم من حيث هم المأمورون المنهيون فيه ، و { إبراهيم وإسماعيل } يجمعان براهيم وسماعيل ، هذا هو اختيار سيبويه والخليل ، وقال قوم «براهم » ، وقال الكوفيون : «براهمة وسماعلة » ، وقال المبرد : «أباره وأسامع » ، وأجاز ثعلب «براه » كما يقال في التصغير «بريه » ، { والأسباط } هم ولد يعقوب ، وهم روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وربالون ويشحر ودنية بنته وأمهم ليا ، ثم خلف على أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين ، وولد له من سريتين ذان وتفثالي وجاد وأشرو ، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل ، فسموا الأسباط لأنه كان من كل واحد منهم سبط( {[1314]} ) ، و { ما أوتي موسى } هو التوراة وآياته ، و «ما أوتي عيسى » هو الإنجيل وآياته ، فالمعنى أنا نؤمن بجميع الأنبياء لأن جميعهم جاء بالايمان بالله ، فدين الله واحد وإن اختلفت أحكام الشرائع( {[1315]} ) ، و { لا نفرق بين أحد منهم } أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما تفعلون ، وفي الكلام حذف تقديره : بين أحد منهم وبين نظيره( {[1316]} ) ، فاختصر لفهم السامع ، والضمير في { له } عائد على اسم الله عز وجل .
بدل من جملة { قل بل ملة } [ البقرة : 135 ] لتفصيل كيفية هاته الملة بعد أن أجمل ذلك في قوله : { قل بل ملة إبراهيم حنيفاً } .
والأمر بالقول أمر بما يتضمنه إذ لا اعتداد بالقول إلا لأنه يطابق الاعتقاد ، إذ النسبة إنما وضعت للصدق لا للكذب ، والمقصود من الأمر بهذا القول الإعلان به والدعوة إليه لما يشتمل عليه من الفضيلة الظاهرة بحصول فضيلة سائر الأديان لأهل هاته الملة ولما فيه من الإنصاف وسلامة الطوية ، ليرغب في ذلك الراغبون ويكمد عند سماعه المعاندون وليكون هذا كالاحتراس بعد قوله : { قل بل ملة إبراهيم حنيفاً } أي نحن لا نطعن في شريعة موسى وشريعة عيسى وما أوتي النبيئون ولا نكذبهم ولكنا مسلمون لله بدين الإسلام الذي بقي على أساس ملة إبراهيم وكان تفصيلاً لها وكمالاً لمراد الله منها حين أراد الله إكمالها فكانت الشرائع التي جاءت بعد إبراهيم كمنعرجات الطريق سلك بالأمم فيها لمصالح ناسبت أحوالهم وعصورهم بعد إبراهيم كما يسلك بمن أتعبه المسير طريق منعرج ليهدأ من ركز السيارة في المحجة فيحط رحله وينام ثم يرجع به بعد حين إلى الجادة ، ومن مناسبات هذا المعنى أن ابتدىء بقوله { وما أنزل إلينا } ، واختتم بقوله { ونحن له مسلمون } ، ووُسِّط ذكر ما أنزل على النبيئين بين ذلك .
وجمع الضمير ليشمل النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين فهم مأمورون بأن يقولوا ذلك . وجعله بدلاً يدل على أن المراد من الأمر في قوله : { قل بل ملة } النبيء وأمته .
وأفرد الضمير في الكلامين اللذين للنبيء فيهما مزيد اختصاص بمباشرة الرد على اليهود والنصارى لأنه مبعوث لإرشادهم وزجرهم وذلك في قوله : { قل بل ملة إبراهيم } إلخ وقوله الآتي : { قل أتحاجوننا في الله } [ البقرة : 139 ] وجمع الضمير في الكلام الذي للأمة فيه مزيد اختصاص بمضمون المأمور به في سياق التعليم أعني قوله : { قولوا آمنا بالله } إلخ لأن النبيء صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك من قبل فيما تضمنته علوم الرسالة ، ولذلك لم يخل واحد من هاته الكلامات ، عن الإيذان بشمول الأمة مع النبيء ، أما هنا فظاهر بجمع الضمائر كلها ، وأما في قوله : { قل بل ملة } إلخ فلكونه جواباً موالياً لقولهم : { كونوا هوداً } [ البقرة : 135 ] بضمير الجمع فعلم أنه رد عليهم بلسان الجميع ، وأما في قوله الآتي : { قل أتحاجوننا } فلأنه بعد أن أفرد قل جمع الضمائر في { أتحاجوننا } ، و { ربنا } ، و { لنا } ، و { أعمالنا } ، و { نحن } ، و { مخلصون } ، فانظر بدائع النظم في هاته الآيات ودلائل إعجازها .
وقدم الإيمان بالله لأنه لا يختلف باختلاف الشرائع الحق ، ثم عطف عليه الإيمان بما أنزل من الشرائع .
والمراد بما أنزل إلينا القرآن ، وبما عطف عليه ما أنزل على الأنبياء والرسل من وحي وما أوتوه من الكتب ، والمعنى أنا آمنا بأن الله أنزل تلك الشرائع ، وهذا لا ينافي أن بعضها نسخ بعضاً ، وأن ما أنزل إلينا نسخ جميعها فيما خالفها فيه ، ولذلك قدم { وما أنزل إلينا } للاهتمام به ، والتعبير في جانب بعض هذه الشرائع بلفظ ( أنزل ) وفي بعضها بلفظ ( أوتي ) تفنن لتجنب إعادة اللفظ الواحد مراراً ، وإنما لم يفرد أحد الفعلين ولم تعطف متعلقاته بدون إعادة الأفعال تجنباً لتتابع المتعلقات فإنه كتتابع الإضافات في ما نرى .
وجملة { لا نفرق بين أحد منهم } حال أو استئناف كأنه قيل كيف تؤمنون بجميعهم فإن الإيمان بحق بواحد منهم ، وهذا السؤال المقدر ناشىء عن ضلالة وتعصب حيث يعتقدون أن الإيمان برسول لا يتم إلا مع الكفر بغيره وأن تزكية أحد لا تتم إلا بالطعن في غيره ، وهذه زلة في الأديان والمذاهب والنحل والأحزاب والأخلاق كانت شائعة في الأمم والتلامذة فاقتلعها الإسلام ، قال أبو علي بن سينا في « الإشارات » رداً على من انتصر في الفلسفة لأرسطو وتنقص أفلاطون « والمعلم الأول وإن كان عظيم المقدار لا يخرجنا الثناء عليه إلى الطعن في أساتيذه » .
وهذا رد على اليهود والنصارى إذا آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمن جاء بعدهم ، فالمقصود عدم التفرقة بينهم في الإيمان ببعضهم ، وهذا لا ينافي اعتقاد أن بعضهم أفضل من بعض .
وأحد أصله وحد بالواو ومعناه منفرد وهو لغة في واحد ومخفف منه وقيل هو صفة مشبهة فأبدلت واوه همزة تخفيفاً ثم صار بمعنى الفرد الواحد فتارة يكون بمعنى ما ليس بمتعدد وذلك حين يجري على مخبر عنه أو موصوف نحو { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] واستعماله كذلك قليل في الكلام ومنه اسم العدد أحد عشر ، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس وذلك حين يبين بشيء يدل على جنس نحو خذ أحد الثوبين ويؤنث نحو قوله تعالى : { فتذكر إحداهما الأخرى } [ البقرة : 282 ] وهذا استعمال كثير وهو قريب في المعنى من الاستعمال الأول ، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس لكنه لا يبين بل يعمم وتعميمه قد يكون في الإثبات نحو قوله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } [ التوبة : 6 ] ، وقد يكون تعميمه في النفي وهو أكثر أحوال استعماله نحو قوله تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [ الحاقة : 47 ] وقول العرب : أحَدٌ لا يقول ذلك ، وهذا الاستعمال يفيد العموم كشأن النكرات كلها في حالة النفي .
وبهذا يظهر أن أحد لفظ معناه واحد في الأصل وتصريفه واحد ولكن اختلفت مواقع استعماله المتفرعة على أصل وضعه حتى صارت بمنزلة معان متعددة وصار أحد بمنزلة المترادف ، وهذا يجمع مشتت كلام طويل للعلماء في لفظ أحد وهو ما احتفل به القرافي في كتابه « العقد المنظوم في الخصوص والعموم » .
وقد دلت كلمة { بين } على محذوف تقديره وآخر لأن بين تقتضي شيئين فأكثر .
وقوله : { ونحن له مسلمون } القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { إلها واحداً ونحن له مسلمون } [ البقرة : 133 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أمر الله عز وجل المؤمنين، فقال: {قولوا آمنا بالله} بأنه واحد لا شريك له
{وما أنزل إلينا}: قرآن محمد صلى الله عليه وسلم.
{وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط}: وهم بنو يعقوب...
{وما أوتي موسى}: التوراة، {و} ما أوتي {وعيسى}: الإنجيل، يقول: ما أنزل على موسى وعيسى وصدقنا.
{وما أوتي النبيون من ربهم}: وأوتي داود وسليمان الزبور
{لا نفرق بين أحد منهم}: فنؤمن ببعض النبيين ونكفر ببعض، كفعل أهل الكتاب
... وفرض الله على اللسان القَوْلَ والتعبيرَ عن القلب بما عقد وأقر به، فقال في ذلك: {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فذلك ما فرض الله على اللسان من القول والتعبير عن القلب، وهو عمله. والفرض عليه من الإيمان. (مناقب الشافعي: 1/389.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: {قولوا} أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا: {آمنّا}، أي صدّقنا بالله...
{وما أنزل} إلينا يقول أيضا: صدّقنا بالكتاب الذي أنزل الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فأضاف الخطاب بالتنزيل إليهم إذْ كانوا مُتّبعيه ومأمورين منهيين به، فكان وإن كان تنزيلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى التنزيل إليهم للذي لهم فيه من المعاني التي وصفت.
{وَما أنْزِلَ إلى إبْرَاهِيمَ}: صدّقنا أيضا وآمنّا بما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والأسباط وهم الأنبياء من ولد يعقوب.
{وَما أوتيَ مُوسَى وعِيسَى}: وآمنّا أيضا بالتوراة التي آتاها الله موسى، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى، والكتب التي آتى النبيين كلهم، وأقررنا وصدّقنا أن ذلك كله حقّ وهدى ونور من عند الله. وأن جميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حقّ وهدى يصدّق بعضهم بعضا على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله والعمل بطاعته، لا نُفَرّق بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ يقول: لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، ونتبرأ من بعض، ونتولّى بعضا، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء، وكما تبرأت النصارى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرّت بغيره من الأنبياء بل نشهد لجميعهم أنهم كانوا رسل الله وأنبياءه، بعثوا بالحقّ والهدى.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}...: ونحن له خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية. فذُكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك لليهود، فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به. وأما الأسباط الذين ذكرهم فهم اثنا عشر رجلاً من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسُموا أسباطا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا...}؛ فالآية تنقض على من يستثني في إيمانه: لأنه أمرهم أن يقولوا قولا باتا لا ثنيا فيه، ولا شك، وكذلك قوله: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} [البقرة: 137].
ثم يحتمل أن يكون هذا ردا على أولئك الكفرة حين فرقوا بين الرسل؛ آمنوا ببعضهم، وكفروا ببعض، وكذلك آمنوا ببعض الكتب، وكفروا ببعضها، فأمر الله عز وجل المؤمنين، ودعاهم إلى أن يؤمنوا بالرسل كلهم والكتب جميعا، لا يفرقون بين أحد منهم كما فرق أولئك الكفرة، ويحتمل أن يكون ابتداء تعليم الإيمان من الله عز وجل لهم بما ذكر من الجملة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الفرق بين التفريق والفرق؛ أن التفريق: جعل الشيء مفارقا لغيره، والفرق: نقيض الجمع. والجمع جعل الشيء مع غيره، والفرق جعل الشيء لا مع غيره. والفرق بالحجة هو البيان الذي يشهد أن الحكم لأحد الشيئين دون الآخر، وفائدة الآية الأمر بالإيمان بالله والإقرار بالنبيين، وما أنزل إليهم من الكتب ليتعبدوا به من الأحكام، والرد على من فرق بينهم فيما جمعهم الله عليه من النبوة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا آمن نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بجميع ما أُنْزِلَ من قَبْلهِ، أُكْرِمَ بجميع ما أَكْرَمَه من قبله، فلمَّا أظهر موافقة الجميع أَمَرَ الكُلَّ بالكَوْنِ تحت لوائه...
ولمَّا آمنت أُمتَّهُ بجميع ما أَنزل الله على رسله، ولم يفرقوا بين أحد فهم ضربوا في التكريم بالسَّهم الأعلى فتقدموا على كافة الأمم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قال الضحاك: علموا أولادكم أسماء الأنبياء المذكورين في القرآن كي يؤمنوا بهم، ولا تظنوا أن الإيمان بمحمد يكفي عن الإيمان بسائر الأنبياء.
[و] حكى عن السلف أنهم كانوا إذا قيل للرجل منهم: [أمؤمن أنت]؟ قرأ {آمنا بالله وما أنزل إلينا...} الآية.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فالمعنى أنا نؤمن بجميع الأنبياء لأن جميعهم جاء بالإيمان بالله، فدين الله واحد وإن اختلفت أحكام الشرائع.
و {لا نفرق بين أحد منهم}: أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما تفعلون، وفي الكلام حذف تقديره: بين أحد منهم وبين نظيره، فاختصر لفهم السامع، والضمير في {له} عائد على اسم الله عز وجل...
اعلم أنه تعالى لما أجاب بالجواب الجدلي أولا، ذكر بعده جوابا برهانيا في هذه الآية وهو: أن الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء عليهم السلام ظهور المعجز عليهم، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلا، فهذا هو المراد من قوله: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} إلى آخر الآية، وهذا هو الغرض الأصلي من ذكر هذه الآية.
فإن قيل: كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة، قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقا في زمانه فلا يلزم منا المناقضة، أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام المعجز على يده، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق.
ثم نقول:... الله تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا: {كونوا هودا أو نصارى} ذكروا في مقابلته للرسول عليه السلام: {قل بل ملة إبراهيم} ثم قال لأمته: {قولوا آمنا بالله} وهذا قول الحسن. وقال القاضي قوله: {قولوا آمنا بالله} يتناول جميع المكلفين، أعني النبي عليه السلام وأمته، والدليل عليه وجهان:
(أحدهما): أن قوله: {قولوا} خطاب عام فيتناول الكل.
[و] (الثاني): أن قوله: {وما أنزل إلينا} لا يليق إلا به صلى الله عليه وسلم، فلا أقل من أن يكون هو داخلا فيه...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى: {قولوا آمنا بالله} خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل" الآية.
وقال محمد بن سيرين: إذا قيل لك أنت مؤمن؟ فقل: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} الآية...
والخطاب في هذه الآية لهذه الأمة، علمهم الإيمان...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
أمره تعالى بأن نؤمن بما أنزل على أهل الكتاب صحيح، ولكن أين ذلك المنزل، والله إن وجوده أعز من عنقاء المغرب. (الأجوبة الفاخرة: 125).
قال ابن القاسم:"إن شتم الأنبياء أو أحدا منهم أو نقصه قتل ولم يستتب". (الذخيرة: 12/20)...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وما أنزل إلينا}: إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين، فالمنزل إليهم هو القرآن، وصح نسبة إنزاله إليهم، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك، وتعدية أنزل ب"إلى"، دليل على انتهاء المنزل إليهم.
وإن كان الضمير في قولوا عائداً على اليهود والنصارى، فالمنزل إلى اليهود: التوراة، والمنزل إلى النصارى: الإنجيل، ويلزم من الإيمان بهما، الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويصح أن يراد بالمنزل إليهم: القرآن، لأنهم أمروا باتباعه، وبالإيمان به، وبمن جاء على يديه.
{وما أنزل إلى إبراهيم}: الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف. قال: {إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى} وكرر الموصول، لأن المنزل إلينا، وهو القرآن، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم. فلو حذف الموصول، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى ابراهيم.
قالوا: ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وعطفوا على إبراهيم، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه، فأضيف الإنزال إليهم، كما أضيف في قوله: {وما أنزل إلينا}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلّهم، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151]...
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يَسار عن ابن عباس، قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر ب {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا} الآية، والأخرى ب {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]... قال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقُوا بكتبه كلّها وبرسله. وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما... عن مَعْقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل، وليسَعْكمُ القرآن"...
لفظ الإنزال صريح فيما أنزل من أعلى إلى أسفل، ولفظ الإيتاء محتمل لأن يكون من اليمين والشمال والأمام والعلو.
والنصارى (مؤمنون) بما أنزل على عيسى، واليهود (مؤمنون) بما أنزل على موسى لأنهم لا احتمال عندهم فيه ولا شك.
ولما كانوا شاكين في المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل إبراهيم وما بعده وبعضهم يدعي أنهم (تلقوه) من الكهان، أتى فيه باللفظ الصريح الدال على نزوله من أعلى إلى أسفل ولهذا قال: {وَمَآ أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ} لينفي هذا الاحتمال، وأجاب ابن عرفة بجواب آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان خاطره إلى العالم العلوي أميل، إذ في السّماء الجنّة والعرش والكرسيّ والملائكة، ناسب تعدي الإنزال إليه ب « على» ليشعر بإتيانه من الجهة الشريفة المحبوبة بخلاف هذه فإنّ فيها « قُولُوا» وهو خطاب له ولغيره. وأجاب ابن عرفة وبعض طلبته عن تخصيص أول الآية بالإنزال [33و] وآخرها بالإيتاء بأنه لما كان ظهور المعجزات الفعلية على يد موسى وعيسى أكثر (وأشهر) من ظهورها على يد إسحاق ويعقوب وإبراهيم لأن موسى ضرب البحر فانفلق، وألقى العصا فعادت ثعبانا، وأخرج يده فصارت بيضاء من غير سوء، (ورفع) من على البئر الصخرة لابنة شعيب، ووضع ثوبه على حجر، ودخل النهر فمضى الحجر به فتبعه وهو يقول: ثوبي حجر. وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فناسب لفظ الإيتاء سَيدَنَا إبراهيم عليه السلام وأولاده فإن اشتهارهم بإنزال الوحي أكثر من اشتهارهم بالمعجزات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قيل ذلك توجهت النفس إلى ما به يوصل إلى ملة إبراهيم. فصرف الخطاب الذي كان عند الحجاج للأكمل على وجه يشمل من قاربه إلى من دونه بما يشمله، لأن المراد العموم، وساقه تعالى في جواب من كأنهم قالوا: ما نقول: حتى نكون إياها فقال: {قولوا} أي يا أيها الذين آمنوا {آمنا بالله} الذي له جميع صفات الكمال...
ولما كان المأمور المؤمنين وكانت تعدية الإنزال ب"إلى" تقتضي الانتهاء وكان ذلك يقتضي واسطة قبل الانتهاء وكان الانتهاء إلى الاتباع إنما هو بالقصد الثاني كان الأنسب في هذه الآية لتوجيه الأمر إليهم التعبير ب"إلى" بخلاف آية آل عمران كما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال: {وما أنزل إلينا} أي من الكتاب الذي تقدم أنه الهدى على أي وجه كان من الأحكام والنسخ والنسيء وغير ذلك وقيل {وما أنزل إلى إبراهيم} ليكون المهيع واحداً {وإسماعيل وإسحاق} ابنيه.
قال الحرالي: فلقن العرب الأميين المحسودين على ما آتاهم الله من فضله نسق ما أجرى من لفظ بني إسرائيل في عهده لهم، فكان فيه وصل العرب الذين هم أبناء إسماعيل بإبراهيم وبنيه وقطع بني إسرائيل عنهم، وفيه إظهار لمزية فضل الله على العرب حين يلقنهم ولا يستنطقهم فيقصروا في مقالهم فأغناهم بما لقنهم فتلوه عما كانوا يقولونه لو وكلوا إلى أنفسهم فسكّنهم ربهم فأقرأهم ما يصلح من القول لهم وقال: {ويعقوب والأسباط} تكملة لما تقدم في العهد السابق – {وما أوتي موسى وعيسى} أي من ربهم من المنزل من التوراة والإنجيل وغير المنزل، وغيّر الأسلوب تفضيلاً لما لهما من الكتابين والمعجزات وغير ذلك من المكنة.
ثم أسند الإيتاء إلى الجميع لكون أهل الكتب العظيمة فيهم على سبيل التغليب فقال مؤكداً الكلام لأنه على لسان الأتباع وهم بالتأكيد أحق:
{وما أوتي النبيون} أي قاطبة من تقدم وغيرهم من المنزل من كتاب وغيره {من ربهم} المحسن إليهم بذلك {لا نفرق بين أحد منهم} في أمر الإيمان باصطفائهم مع توجيه الأوامر إليهم {ونحن له} أي لربهم المحسن إلينا بإحسانه إليهم وحده {مسلمون} أي منقادون في الظاهر بعد انقياد الباطن، لا آمر لنا معه أصلاً، قال الحرالي: فأجرى على ألسنة الذين آمنوا من هذه الأمة تلقيناً لهم ما أجراه على ألسنة الأسباط قولاً منهم، فكانت العرب أحق بهم من أبناء إسرائيل بما استووا في الدين وإن افترقوا في نسب الإسرائيلية -انتهى...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{قولوا آمنا بالله} خطاب للمؤمنين... {وما أنزل إلينا} أي: من القرآن وإنما قدّم ذكره؛ لأنه أوّل الكتب بالنسبة إلينا أو لأنه سبب للإيمان بغيره.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وقدم الإيمان بالله سبحانه لأنه أول الواجبات، ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات.
{وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى} أي التوراة والإنجيل، ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق، ولأن أمرهما أيضاً بالنسبة إلى موسى وعيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة، لا باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إسحق ويعقوب والأسباط ولم يعد الموصول لذلك في عيسى لعدم مخالفة شريعته لشريعة موسى إلا في النزر، ولذلك الاهتمام عبر بالإيتاء دون الإنزال لأنه أبلغ لكونه المقصود منه، ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي لا تكن دعوتكم إلى شيء خاص بكم يفصل بينكم وبين سائر أهل الأديان السماوية بل انظروا إلى جهة الجمع والاتفاق، وادعوا إلى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع، وهو التسليم بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين، مع الإسلام لرب العالمين، لا نعبد إلا الله، ولا نفرق بين أحد من رسل الله.
{وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} قال الأستاذ الإمام: وهاهنا نكتة دقيقة في اختلاف التعبير عن الوحي الذي منحه الله الأنبياء إذ عبر ب"أنزل" تارة وب"أوتي" تارة أخرى، وهي أن التعبير ب"أنزل" ذكر هنا في جانب الأنبياء الذين ليس لهم كتب تؤثر، ولا صحف تنقل، وذلك أن إنزال الوحي على نبي لا يستلزم إعطاءه كتابا يؤثر عنه، وهذا ظاهر إذا كان النبي غير مرسل فإن الوحي إليه يكون خاصا به، ويكون إرشاده للناس أن يعملوا بشرع رسول آخر إن كان بعث فيهم رسول وإلا كان قدوة في الخير ومعدا للنفوس لبعثة نبي مرسل، وأما النبي المرسل فقد يؤمر بالتبليغ الشفاهي ولا يعطى كتابا باقيا وقد يكتب ما يوحى إليه في عصره فيضيع من بعده، فهؤلاء الرسل الكرام الذين عبر عنهم بقوله {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط} لا يؤثر عن أحد منهم كتاب مسند صحيح ولا غير صحيح، وإننا نؤمن بأنهم كانوا أنبياء. وأن ما نزل عليهم هو دين الله الحق، وأنه موافق في جوهره وأصوله لما أنزل على من بعدهم.
وما ذكر الله من ملة إبراهيم بالنص هو روح ذلك الوحي كله. {وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} فهو يشير بالإيتاء إلى أن ما أوحي إليهم له وجود يمكن الرجوع إليه والنظر فيه فإن أقوامهم يأثرون عنهم كتبا.
وأقول الآن: إن المراد الإيمان بما أنزل الله تعالى وما أعطاه لأولئك النبيين والمرسلين إجمالا، وأنه كان وحيا من الله فلا نكذب أحدا منهم بما ادعاه ودعا إليه في عصره، بصرف النظر عما طرأ عليه من ضياع بعضه وتحريف بعض. فإن ذلك لا يضرنا، لأن الإيمان التفصيلي والعمل مقصور على ما أنزل إلينا.
وقال بعد ما ذكر الفريقين {لا نفرق بين أحد من رسله} أي سواء منهم من له كتاب يؤثر ومن ليس له ذلك، نؤمن بالجميع إجمالا ونأخذ التفصيل عن خاتمهم الذي بين لنا أصل ملتهم التي كانوا عليها وزادنا من الحكم والأحكام ما يناسب هذا الزمان وما بعده من الأزمان.
والعمدة في الدين على إسلام القلب لله تعالى {ونحن له مسلمون} أي مذعنون منقادون كما يقتضي الإيمان الصحيح ولستم كذلك أهل الكتاب وإنما أنتم متبعون لأهوائكم وتقاليدكم لا تحولون عنها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الآية الكريمة، قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به...
واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام، بهذه الأصول، وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح، وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام، وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها، فهي من الإيمان، وأثر من آثاره، فحيث أطلق الإيمان، دخل فيه ما ذكر، وكذلك الإسلام، إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فإذا قرن بينهما، كان الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق، والإسلام، اسما للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة، فقوله تعالى: {قُولُوا} أي: بألسنتكم، متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام، المترتب عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان، بدون اعتقاد القلب، نفاق وكفر، فالقول الخالي من العمل عمل القلب، عديم التأثير، قليل الفائدة، وإن كان العبد يؤجر عليه، إذا كان خيرا ومعه أصل الإيمان، لكن فرق بين القول المجرد، والمقترن به عمل القلب...
وفي قوله: {قُولُوا} إشارة إلى الإعلان بالعقيدة، والصدع بها، والدعوة لها، إذ هي أصل الدين وأساسه...
وفي قوله: {آمَنَّا} ونحوه مما فيه صدور الفعل، منسوبا إلى جميع الأمة، إشارة إلى أنه يجب على الأمة، الاعتصام بحبل الله جميعا، والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا، وعملهم متحدا، وفي ضمنه النهي عن الافتراق.
وفيه: أن المؤمنين كالجسد الواحد... فقوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} أي: بأنه موجود، واحد أحد، متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص وعيب، مستحق لإفراده بالعبادة كلها، وعدم الإشراك به في شيء منها، بوجه من الوجوه...
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله، من صفات الباري، وصفات رسله، واليوم الآخر، والغيوب الماضية والمستقبلة، والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية، وأحكام الجزاء وغير ذلك...
{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي: بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية المسلمين، التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين...
وفي قوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} دلالة على أن عطية الدين، هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية. لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك، بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع...
وفي قوله: {مِنْ رَبِّهِمْ} إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده، أن ينزل عليهم الكتب، ويرسل إليهم الرسل، فلا تقتضي ربوبيته، تركهم سدى ولا هملا... فلما بيَّن تعالى جميع ما يؤمن به، عموما وخصوصا، وكان القول لا يغني عن العمل قال: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: خاضعون لعظمته، منقادون لعبادته، بباطننا وظاهرنا، مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول، وهو {لَهُ} على العامل وهو {مُسْلِمُونَ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يدعو المسلمين لإعلان الوحدة الكبرى للدين، من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى عيسى بن مريم، إلى الإسلام الأخير. ودعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا الدين الواحد:... تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعا، وبين الرسل جميعا، هي قاعدة التصور الإسلامي وهي التي تجعل من الأمة المسلمة، الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور. والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميع الحياة في ظله دون تعصب ولا اضطهاد. والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا مفتوحا للناس جميعا في مودة وسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأمر بالقول أمر بما يتضمنه، إذ لا اعتداد بالقول إلا لأنه يطابق الاعتقاد، إذ النسبة إنما وضعت للصدق لا للكذب، والمقصود من الأمر بهذا القول الإعلان به والدعوة إليه لما يشتمل عليه من الفضيلة الظاهرة بحصول فضيلة سائر الأديان لأهل هاته الملة ولما فيه من الإنصاف وسلامة الطوية، ليرغب في ذلك الراغبون ويكمد عند سماعه المعاندون وليكون هذا كالاحتراس بعد قوله: {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} أي نحن لا نطعن في شريعة موسى وشريعة عيسى وما أوتي النبيئون ولا نكذبهم ولكنا مسلمون لله بدين الإسلام الذي بقي على أساس ملة إبراهيم وكان تفصيلاً لها وكمالاً لمراد الله منها حين أراد الله إكمالها فكانت الشرائع التي جاءت بعد إبراهيم كمنعرجات الطريق سلك بالأمم فيها لمصالح ناسبت أحوالهم وعصورهم بعد إبراهيم كما يسلك بمن أتعبه المسير طريق منعرج ليهدأ من ركز السيارة في المحجة فيحط رحله وينام ثم يرجع به بعد حين إلى الجادة.
ومن مناسبات هذا المعنى أن ابتدئ بقوله {وما أنزل إلينا}، واختتم بقوله {ونحن له مسلمون}، ووُسِّط ذكر ما أنزل على النبيئين بين ذلك...
وجمع الضمير ليشمل النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين فهم مأمورون بأن يقولوا ذلك. وجعله بدلاً يدل على أن المراد من الأمر في قوله: {قل بل ملة} النبيء وأمته...
وأفرد الضمير في الكلامين اللذين للنبيء فيهما مزيد اختصاص بمباشرة الرد على اليهود والنصارى لأنه مبعوث لإرشادهم وزجرهم وذلك في قوله: {قل بل ملة إبراهيم} إلخ وقوله الآتي: {قل أتحاجوننا في الله} [البقرة: 139] وجمع الضمير في الكلام الذي للأمة فيه مزيد اختصاص بمضمون المأمور به في سياق التعليم أعني قوله: {قولوا آمنا بالله...} لأن النبيء صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك من قبل فيما تضمنته علوم الرسالة، ولذلك لم يخل واحد من هاته الكلامات، عن الإيذان بشمول الأمة مع النبيء، أما هنا فظاهر بجمع الضمائر كلها، وأما في قوله: {قل بل ملة} إلخ فلكونه جواباً موالياً لقولهم: {كونوا هوداً} [البقرة: 135] بضمير الجمع فعلم أنه رد عليهم بلسان الجميع، وأما في قوله الآتي: {قل أتحاجوننا} فلأنه بعد أن أفرد قل جمع الضمائر في {أتحاجوننا}، و {ربنا}، و {لنا}، و {أعمالنا}،
و {نحن}، و {مخلصون}، فانظر بدائع النظم في هاته الآيات ودلائل إعجازها...
وقدم الإيمان بالله لأنه لا يختلف باختلاف الشرائع الحق، ثم عطف عليه الإيمان بما أنزل من الشرائع.
والمراد بما أنزل إلينا القرآن، وبما عطف عليه ما أنزل على الأنبياء والرسل من وحي وما أوتوه من الكتب. والمعنى أنا آمنا بأن الله أنزل تلك الشرائع، وهذا لا ينافي أن بعضها نسخ بعضاً، وأن ما أنزل إلينا نسخ جميعها فيما خالفها فيه، ولذلك قدم {وما أنزل إلينا} للاهتمام به.
والتعبير في جانب بعض هذه الشرائع بلفظ (أنزل) وفي بعضها بلفظ (أوتي) تفنن لتجنب إعادة اللفظ الواحد مراراً، وإنما لم يفرد أحد الفعلين ولم تعطف متعلقاته بدون إعادة الأفعال تجنباً لتتابع المتعلقات فإنه كتتابع الإضافات في ما نرى...
وجملة {لا نفرق بين أحد منهم} حال أو استئناف كأنه قيل كيف تؤمنون بجميعهم فإن الإيمان بحق بواحد منهم، وهذا السؤال المقدر ناشئ عن ضلالة وتعصب حيث يعتقدون أن الإيمان برسول لا يتم إلا مع الكفر بغيره وأن تزكية أحد لا تتم إلا بالطعن في غيره، وهذه زلة في الأديان والمذاهب والنحل والأحزاب والأخلاق كانت شائعة في الأمم والتلامذة فاقتلعها الإسلام...
وهذا رد على اليهود والنصارى إذا آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمن جاء بعدهم، فالمقصود عدم التفرقة بينهم في الإيمان ببعضهم، وهذا لا ينافي اعتقاد أن بعضهم أفضل من بعض... وقد دلت كلمة {بين} على محذوف تقديره وآخر لأن بين تقتضي شيئين فأكثر...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب. وقد تضمنت:
- أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم، فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار منهم، وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.
- وتعقيباً على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهاناً على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة...
- والتفاتاً خطابياً للنبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا، وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.
- وهتافاً بلسان حال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق، ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.
- وأمراً للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالاً تنديدياً عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعاً.
- وأمراً ثانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.
- وأمراً آخر له بسؤال المحاجين سؤالاً تنديدياً آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى حينما يقولون: إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هوداً أو نصارى فقط.
- وأمراً ثالثاً له بسؤالهم سؤالاً فيه تسفيه لمغالطتهم –الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.
- وأمراً رابعاً له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله هو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولنا في التعليق على هذه الآية كلمتان:
الأولى: أنها تمثّل أنموذجاً لأسلوب الحوار في الإسلام، وخلاصته البحث عن مواطن اللقاء في بداية الحديث من أجل الإيحاء بوجود قاعدة مشتركة للفكر المتنوّع، وأرض مشتركة للموقف المتعدّد، ما يوحي للآخر بأنك إذا اختلفت معه في إيمانك بما أنزل إليك من القرآن، فإنك لن تختلف معه في إيمانك بما يؤمن به من ناحية المبدأ من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم، وتعاليم النبوّات المشتركة بين الأديان من خلال الأنبياء الذين يلتقون على رسالات اللّه، فيلتقي المؤمنون على الإيمان بهم. وهذا الأسلوب من أوضح الأساليب وأكثرها حكمةً وانفتاحاً، لأنه يخلق جوّاً نفسياً ملائماً يؤدي إلى حالةٍ حواريةٍ حميمةٍ تفتح العقل من خلال النافذة المطلة على القلب، باعتبار أنَّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو الطريق الذي يؤدي إلى قلبه، لأنه إذا أحبّك أحبَّ فكرك، وإذا انفتح عليك من الناحية الشعورية انفتح عليك من الناحية العقلية.
ولعلّ مشكلة الكثيرين من النّاس أنهم يركزون على مواقع الخلاف التي تغلق القلوب بدلاً من مواقع الوفاق التي تفتحها، لأنهم لا يعيشون المحبة للآخرين في الرسالة، بل ينطلقون بها من موقع العقدة والحقد والانفعال، حتى أعطوا الحقد الذي لا قداسة له معنى القداسة.
الثانية: إنَّ هناك اختلافاً في التعبير في الآية، فقد عبّر عمّا عندنا وعمّا عند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالإنزال، وعند موسى وعيسى والنبيين بالإيتاء وهو الإعطاء، كما أشار إلى ذلك في تفسير الميزان، فهل هناك نكتة في ذلك... وخلاصة الفكرة هي أنَّ المطلوب هو بيان استقلالية إبراهيم ومَنْ بعده عن موسى وعيسى، ما يفرض اختلاف التعبير الذي يوحي بتعدّد المواقع. ولكنَّنا نلاحظ أنَّ ذلك لا يدلّ على اختلاف فريق الإيتاء وفريق الإنزال في طبيعة الرسالة، فلا مانع من أن يكون ما أوتيه إبراهيم وفريقه هو نفسه الذي أوتيه موسى وعيسى مع إنزال الوحي على هذا أو ذاك مع وحدة المضمون الرسالي في تنوّع الخصائص؛ وهذا ما يريد اللّه تأكيده في القرآن من الإيمان بالكتاب كلّه وبالرسل كلّهم الذين يلتقون على الخطوط العامة، حيث يكون الإيمان بأحدهم إيماناً بالآخر.