الأسباط : جمع سبط ، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل ، وهم ولد يعقوب اثنا عشر ، لكل واحد منهم أمة من الناس ، وسيأتي ذكر أسمائهم .
سموا بذلك من السبط : وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون .
ويقال : سبطييييي عليه العطاء إذا تابعه .
ويقال : هو مقلوب بسط ، ومنه السباطة والساباط .
ويقال للحسن والحسين : سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم ، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت ، فيقال : سبط أبي عمر بن عبد البر ، وسبط حسين بن منده ، وسبط السلفي في أولاد بناتهم .
وقيل : أصل الأسباط من السبط ، وهو الشجر الملتف ، والسبط : الجماعة الراجعون إلى أصل واحد .
الصبغة : فعلة من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ .
{ قولوا آمنا بالله } الآية ، خرج البخاري ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية ، فإن كان حقاً لم تكذبوه وإن كان كذباً لم تصدّقوه » والضمير في قوله : { قولوا } ، عائد على الذين قالوا : { كونوا هوداً أو نصارى } .
أمروا بأن يكونوا على الحق ، ويصرحوا به .
ويجوز أن يعود على المؤمنين ، وهو أظهر .
وارتبطت هذه الآية بما قبلها ، لأنه لما ذكر في قوله : { بل ملة إبراهيم } ، جواباً إلزامياً ، وهو أنهم : وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية ، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد .
هذا ، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى ، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع ابراهيم ، لأنهم ، أعني الطائفتين المختلفتين ، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم .
والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، إن كان الدين بالتقليد .
فلما ذكر هنا جواباً إلزامياً ، ذكر بعده برهاناً في هذه الآية ، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات .
وقد ظهرت على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجب الإيمان بنبوّته .
فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرّدّ ، يوجب التناقض في الدليل ، وهو ممتنع عقلاً .
{ وما أنزل إلينا } : إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين ، فالمنزل إليهم هو القرآن ، وصح نسبة إنزاله إليهم ، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك ، وتعدية أنزل بإلى ، دليل على انتهاء المنزل إليهم .
وإن كان الضمير في قولوا عائداً على اليهود والنصارى ، فالمنزل إلى اليهود : التوراة ، والمنزل إلى النصارى : الإنجيل ، ويلزم من الإيمان بهما ، الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويصح أن يراد بالمنزل إليهم : القرآن ، لأنهم أمروا باتباعه ، وبالإيمان به ، وبمن جاء على يديه .
{ وما أنزل إلى إبراهيم } : الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف .
قال : { إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى } وكرر الموصول ، لأن المنزل إلينا ، وهو القرآن ، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم .
فلو حذف الموصول ، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى ابراهيم ، قالوا : ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعطفوا على إبراهيم ، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه ، فأضيف الإنزال إليهم ، كما أضيف في قوله : { وما أنزل إلينا } .
والأسباط هم أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر سبطاً .
قال الشريف أبو البركات الجوّاني النسابة : وولد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم : يوسف النبي صلى الله عليه وسلم ، صاحب مصر وعزيزها ، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر ، والأسباط سوى يوسف : كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ويفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب ، وسليمان النبي صلى الله عليه وسلم .
وجاء من سليمان عليه السلام النبي : مريم ابنة عمران ، أمّ المسيح عليهما السلام .
وجاء من لاوي بن يعقوب : موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما السلام .
وقال ابن عطية : والأسباط هم ولد يعقوب .
وهم : روبيل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ورفالون ، وبشجر ، وذينة بنته ، وأمّهم لياثم .
خلف على أختها راحيل ، فولدت له : يوسف ، وبنيامين .
وولد له من سريتين : داني ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر .
انتهى كلامه ، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء .
وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني : روبيل أصح وأثبت ، يعني باللام ، قال : وقبره في قرافة مصر ، في لحف الجبل ، في تربة أليسع عليهما السلام .
{ وما أوتي موسى وعيسى } : أي : وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات ، وعيسى من الإنجيل والآيات .
وموسى هنا : هو موسى بن عمران ، كليم الله .
وقال الحسين بن أحمد البيساني : وفي ولد ميشا بن يوسف ، يعني الصديق : موسى بن ميشا بن يوسف .
وزعم أهل التوراة أن الله نبأه ، وأنه صاحب الخضر .
وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب ، فشا في الأسباط الكهانة ، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله ، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة ، والله أعلم بصحة ذلك .
انتهى كلامه ، ونص على موسى وعيسى ، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم ، والكلام معهم ، ولم يكرر الموصول في عيسى ، لأن عيسى إنما جاء مصدقاً لما في التوراة ، لم ينسخ منها إلا نزراً يسيراً .
فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى ، وإن كان قد خالف في نزر يسير .
وجاء : { وما أنزل إلينا } ، وجاء : { وما أوتي موسى وعيسى } ، تنويعاً في الكلام وتصرفاً في ألفاظه ، وإن كان المعنى واحداً ، إذ لو كان كله بلفظ الإيتاء ، أو بلفظ الإنزال ، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ .
ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب :
ونهب نفوس أهل النهب أولى***بأهل النهب من نهب القماش
ولما ذكر في الإنزال أوّلاً خاصاً ، عطف عليه جمعاً .
كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصاً ، عطف عليه جمعاً .
ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف ، أظهره في الإيتاء فقال : { وما أوتي النبيون من ربهم } ، وهو تعميم بعد تخصيص .
وظاهر قوله : { وما أوتي } يقتضي التعميم في الكتب والشرائع .
وفي حديث لأبي سعيد الخدري ، قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله ؟ قال : «مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، ثم أنزل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان .
وأما عدد الأنبياء ، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنهم مائة ألف نبي ، ومائة وعشرون ألف نبي ، كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرين ألف نبي .
وعدد الرسل : ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، كلهم من ولد يعقوب ، إلا عشرين رسولاً ، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين ، نص على أسمائهم وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وأليسع ، وإلياس ، ويونس ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، وعزير ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد ، صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية عن ابن عباس : أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرة : نوحاً ، وهوداً ، وشعيباً ، وصالحاً ، ولوطاً ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمداً ، صلى الله عليه وسلم أجمعين .
وابتدىء أولاً بالإيمان بالله ، لأن ذلك أصل الشرائع ، وقدم { ما أنزل إلينا } ، وإن كان متأخراً في الإنزال عن ما بعده ، لأنه أولى بالذكر ، لأن الناس ، بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، مدعوّون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلاً .
وقدم { ما أنزل إلى إبراهيم } على { ما أوتي موسى وعيسى } ، للتقدّم في الزمان ، أو لأن المنزل على موسى ، ومن ذكر معه ، هو المنزل إلى إبراهيم ، إذ هم داخلون تحت شريعته .
{ وما أوتي موسى } : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان ، وجوّزوا أن يكون : { وما أوتي موسى وعيسى } في موضع رفع بالابتداء ، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي ، فيكون في موضع رفع .
والخبر في قوله { من ربهم } ، أو لا نفرق ، أو يكون : { وما أوتي موسى وعيسى } معطوفاً على المجرور قبله ، { وما أوتي النبيون } رفع على الابتداء ، { ومن ربهم } الخبر ، أو لا نفرق هو الخبر .
والظاهر أن من ربهم في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، فتتعلق بما أوتي الثانية ، أو بما أوتي الأولى ، وتكون الثانية توكيداً .
ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله :
{ وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم } ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول ، فتتعلق بمحذوف ، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم .
{ لا نفرق بين أحد منهم } : ظاهره الاستئناف .
والمعنى : أنا نؤمن بالجميع ، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى .
فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم ، وكفروا بمحمد وعيسى ، صلوات الله على الجميع .
والنصارى آمنوا بالأنبياء ، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات .
وقيل : معناه لانشق عصاهم ، كما يقال شق عصا المسلمين ، إذا فارق جماعتهم .
وأحد هنا ، قيل : هو المستعمل في النفي ، فأصوله : الهمزة والحاء والدال ، وهو للعموم ، فلذلك لم يفتقر بين إلى معطوف عليه ، إذ هو اسم عام تحته أفراد ، فيصح دخول بين عليه ، كما تدخل على المجموع فتقول : المال بين الزيدين ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه .
وقيل : أحد هنا بمعنى : واحد ، والهمزة بدل من الواو ، إذ أصله : وحد ، وحذف المعطوف لفهم السامع ، والتقدير : بين أحد منهم وبين نظيره ، فاختصر ، أو بين أحد منهم والآخر ، ويكون نظير قول الشاعر :
فما كان بين الخير لو جاء سالما*** أبو حجر إلا ليال قلائل
يريد : بين الخير وبيني ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، إذ قد علم أن بين لا بد أن تدخل بين شيئين ، كما حذف المعطوف في قوله : { سرابيل تقيكم الحرّ } ومعلوم أن ما وقي الحر وقي البرد ، فحذف والبرد لفهم المعنى .
ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه .
وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية ، والوجه الأول أرجح ، لأنه لا حذف فيه .
{ ونحن له مسلمون } : هذا كله مندرج تحت قوله : { قولوا } .
ولما ذكر أولاً الإيمان ، وهو التصديق ، وهو متعلق بالقلب ، ختم بذكرالإسلام ، وهو الانقياد الناشىء عن الإيمان الظاهر عن الجوارح .
فجمع بين الإيمان والإسلام ، ليجتمع الأصل والناشىء عن الأصل .
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام حين سئل عنهما ، وذلك في حديث جبريل عليه السلام .
وقد فسروا قوله : { مسلمون } بأقوال متقاربة في المعنى ، فقيل : خاضعون ، وقيل : مطيعون ، وقيل : مذعنون للعبودية ، وقيل : مذعنون لأمره ونهيه عقلاً وفعلاً ، وقيل : داخلون في حكم الإسلام ، وقيل : منقادون ، وقيل : مخلصون .
وله متعلق بمسلمون ، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل ، أو تقدّم له للاعتناء بالعائد على الله تعالى لما نزل قوله : { قولوا آمنا بالله } الآية ، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال : «الله أمرني بهذا » .