البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (136)

الأسباط : جمع سبط ، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل ، وهم ولد يعقوب اثنا عشر ، لكل واحد منهم أمة من الناس ، وسيأتي ذكر أسمائهم .

سموا بذلك من السبط : وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون .

ويقال : سبطييييي عليه العطاء إذا تابعه .

ويقال : هو مقلوب بسط ، ومنه السباطة والساباط .

ويقال للحسن والحسين : سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم ، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت ، فيقال : سبط أبي عمر بن عبد البر ، وسبط حسين بن منده ، وسبط السلفي في أولاد بناتهم .

وقيل : أصل الأسباط من السبط ، وهو الشجر الملتف ، والسبط : الجماعة الراجعون إلى أصل واحد .

الصبغة : فعلة من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ .

{ قولوا آمنا بالله } الآية ، خرج البخاري ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية ، فإن كان حقاً لم تكذبوه وإن كان كذباً لم تصدّقوه » والضمير في قوله : { قولوا } ، عائد على الذين قالوا : { كونوا هوداً أو نصارى } .

أمروا بأن يكونوا على الحق ، ويصرحوا به .

ويجوز أن يعود على المؤمنين ، وهو أظهر .

وارتبطت هذه الآية بما قبلها ، لأنه لما ذكر في قوله : { بل ملة إبراهيم } ، جواباً إلزامياً ، وهو أنهم : وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية ، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد .

هذا ، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى ، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع ابراهيم ، لأنهم ، أعني الطائفتين المختلفتين ، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم .

والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، إن كان الدين بالتقليد .

فلما ذكر هنا جواباً إلزامياً ، ذكر بعده برهاناً في هذه الآية ، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات .

وقد ظهرت على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجب الإيمان بنبوّته .

فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرّدّ ، يوجب التناقض في الدليل ، وهو ممتنع عقلاً .

{ وما أنزل إلينا } : إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين ، فالمنزل إليهم هو القرآن ، وصح نسبة إنزاله إليهم ، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك ، وتعدية أنزل بإلى ، دليل على انتهاء المنزل إليهم .

وإن كان الضمير في قولوا عائداً على اليهود والنصارى ، فالمنزل إلى اليهود : التوراة ، والمنزل إلى النصارى : الإنجيل ، ويلزم من الإيمان بهما ، الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويصح أن يراد بالمنزل إليهم : القرآن ، لأنهم أمروا باتباعه ، وبالإيمان به ، وبمن جاء على يديه .

{ وما أنزل إلى إبراهيم } : الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف .

قال : { إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى } وكرر الموصول ، لأن المنزل إلينا ، وهو القرآن ، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم .

فلو حذف الموصول ، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى ابراهيم ، قالوا : ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعطفوا على إبراهيم ، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه ، فأضيف الإنزال إليهم ، كما أضيف في قوله : { وما أنزل إلينا } .

والأسباط هم أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر سبطاً .

قال الشريف أبو البركات الجوّاني النسابة : وولد يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم : يوسف النبي صلى الله عليه وسلم ، صاحب مصر وعزيزها ، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر ، والأسباط سوى يوسف : كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ويفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب ، وسليمان النبي صلى الله عليه وسلم .

وجاء من سليمان عليه السلام النبي : مريم ابنة عمران ، أمّ المسيح عليهما السلام .

وجاء من لاوي بن يعقوب : موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما السلام .

انتهى كلامه .

وقال ابن عطية : والأسباط هم ولد يعقوب .

وهم : روبيل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ورفالون ، وبشجر ، وذينة بنته ، وأمّهم لياثم .

خلف على أختها راحيل ، فولدت له : يوسف ، وبنيامين .

وولد له من سريتين : داني ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر .

انتهى كلامه ، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء .

وقيل : روبيل أكبر ولده .

وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني : روبيل أصح وأثبت ، يعني باللام ، قال : وقبره في قرافة مصر ، في لحف الجبل ، في تربة أليسع عليهما السلام .

{ وما أوتي موسى وعيسى } : أي : وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات ، وعيسى من الإنجيل والآيات .

وموسى هنا : هو موسى بن عمران ، كليم الله .

وقال الحسين بن أحمد البيساني : وفي ولد ميشا بن يوسف ، يعني الصديق : موسى بن ميشا بن يوسف .

وزعم أهل التوراة أن الله نبأه ، وأنه صاحب الخضر .

وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب ، فشا في الأسباط الكهانة ، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله ، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة ، والله أعلم بصحة ذلك .

انتهى كلامه ، ونص على موسى وعيسى ، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم ، والكلام معهم ، ولم يكرر الموصول في عيسى ، لأن عيسى إنما جاء مصدقاً لما في التوراة ، لم ينسخ منها إلا نزراً يسيراً .

فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى ، وإن كان قد خالف في نزر يسير .

وجاء : { وما أنزل إلينا } ، وجاء : { وما أوتي موسى وعيسى } ، تنويعاً في الكلام وتصرفاً في ألفاظه ، وإن كان المعنى واحداً ، إذ لو كان كله بلفظ الإيتاء ، أو بلفظ الإنزال ، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ .

ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب :

ونهب نفوس أهل النهب أولى***بأهل النهب من نهب القماش

ولما ذكر في الإنزال أوّلاً خاصاً ، عطف عليه جمعاً .

كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصاً ، عطف عليه جمعاً .

ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف ، أظهره في الإيتاء فقال : { وما أوتي النبيون من ربهم } ، وهو تعميم بعد تخصيص .

وظاهر قوله : { وما أوتي } يقتضي التعميم في الكتب والشرائع .

وفي حديث لأبي سعيد الخدري ، قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله ؟ قال : «مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، ثم أنزل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان .

وأما عدد الأنبياء ، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنهم مائة ألف نبي ، ومائة وعشرون ألف نبي ، كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرين ألف نبي .

وعدد الرسل : ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، كلهم من ولد يعقوب ، إلا عشرين رسولاً ، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين ، نص على أسمائهم وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وأليسع ، وإلياس ، ويونس ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، وعزير ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد ، صلى الله عليه وسلم .

وفي رواية عن ابن عباس : أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرة : نوحاً ، وهوداً ، وشعيباً ، وصالحاً ، ولوطاً ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمداً ، صلى الله عليه وسلم أجمعين .

وابتدىء أولاً بالإيمان بالله ، لأن ذلك أصل الشرائع ، وقدم { ما أنزل إلينا } ، وإن كان متأخراً في الإنزال عن ما بعده ، لأنه أولى بالذكر ، لأن الناس ، بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، مدعوّون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلاً .

وقدم { ما أنزل إلى إبراهيم } على { ما أوتي موسى وعيسى } ، للتقدّم في الزمان ، أو لأن المنزل على موسى ، ومن ذكر معه ، هو المنزل إلى إبراهيم ، إذ هم داخلون تحت شريعته .

{ وما أوتي موسى } : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان ، وجوّزوا أن يكون : { وما أوتي موسى وعيسى } في موضع رفع بالابتداء ، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي ، فيكون في موضع رفع .

والخبر في قوله { من ربهم } ، أو لا نفرق ، أو يكون : { وما أوتي موسى وعيسى } معطوفاً على المجرور قبله ، { وما أوتي النبيون } رفع على الابتداء ، { ومن ربهم } الخبر ، أو لا نفرق هو الخبر .

والظاهر أن من ربهم في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، فتتعلق بما أوتي الثانية ، أو بما أوتي الأولى ، وتكون الثانية توكيداً .

ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله :

{ وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم } ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول ، فتتعلق بمحذوف ، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم .

{ لا نفرق بين أحد منهم } : ظاهره الاستئناف .

والمعنى : أنا نؤمن بالجميع ، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى .

فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم ، وكفروا بمحمد وعيسى ، صلوات الله على الجميع .

والنصارى آمنوا بالأنبياء ، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات .

وقيل : معناه لانشق عصاهم ، كما يقال شق عصا المسلمين ، إذا فارق جماعتهم .

وأحد هنا ، قيل : هو المستعمل في النفي ، فأصوله : الهمزة والحاء والدال ، وهو للعموم ، فلذلك لم يفتقر بين إلى معطوف عليه ، إذ هو اسم عام تحته أفراد ، فيصح دخول بين عليه ، كما تدخل على المجموع فتقول : المال بين الزيدين ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه .

وقيل : أحد هنا بمعنى : واحد ، والهمزة بدل من الواو ، إذ أصله : وحد ، وحذف المعطوف لفهم السامع ، والتقدير : بين أحد منهم وبين نظيره ، فاختصر ، أو بين أحد منهم والآخر ، ويكون نظير قول الشاعر :

فما كان بين الخير لو جاء سالما*** أبو حجر إلا ليال قلائل

يريد : بين الخير وبيني ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، إذ قد علم أن بين لا بد أن تدخل بين شيئين ، كما حذف المعطوف في قوله : { سرابيل تقيكم الحرّ } ومعلوم أن ما وقي الحر وقي البرد ، فحذف والبرد لفهم المعنى .

ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه .

وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية ، والوجه الأول أرجح ، لأنه لا حذف فيه .

{ ونحن له مسلمون } : هذا كله مندرج تحت قوله : { قولوا } .

ولما ذكر أولاً الإيمان ، وهو التصديق ، وهو متعلق بالقلب ، ختم بذكرالإسلام ، وهو الانقياد الناشىء عن الإيمان الظاهر عن الجوارح .

فجمع بين الإيمان والإسلام ، ليجتمع الأصل والناشىء عن الأصل .

وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام حين سئل عنهما ، وذلك في حديث جبريل عليه السلام .

وقد فسروا قوله : { مسلمون } بأقوال متقاربة في المعنى ، فقيل : خاضعون ، وقيل : مطيعون ، وقيل : مذعنون للعبودية ، وقيل : مذعنون لأمره ونهيه عقلاً وفعلاً ، وقيل : داخلون في حكم الإسلام ، وقيل : منقادون ، وقيل : مخلصون .

وله متعلق بمسلمون ، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل ، أو تقدّم له للاعتناء بالعائد على الله تعالى لما نزل قوله : { قولوا آمنا بالله } الآية ، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال : «الله أمرني بهذا » .

/خ141