{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا } أي : لله وحده ، مقبلا عليه ، معرضا عن من سواه . { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } فتبرأ من الشرك ، وأذعن بالتوحيد ، وأقام على ذلك البرهان [ وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات ، هو الصواب ، وهو أن المقام مقام مناظرة ، من إبراهيم لقومه ، وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية وغيرها . وأما من قال : إنه مقام نظر في حال طفوليته ، فليس عليه دليل ]{[296]}
ثم ختم إبراهيم هذا الترقى فى الاستدلال على وحدانية الله بقوله - كما حكى القرآن عنه - : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً } أى : إنى صرفت وجهى وقلبى فى المحبة والعبادة لله الذى أوجد وأنشأ السموات والأرض على غير مثال سابق .
ومعنى { حَنِيفاً } مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائفة كلها إلى الدين الحق ، وهو - أى حنيفا - حال من ضمير المتكلم فى { وَجَّهْتُ } .
وقوله { وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } أى : وما أنا من الذين يشركون مع الله آلهة أخرى لا فى أقوالهم ولا فى أفعالهم . وقد أفادت هذه الجملة التأكيد لجملة { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } . . . إلخ .
وبذلك يكون إبراهيم - عليه السلام - قد أقام الأدلة الحكيمة والبراهين الساطعة على وحدانية الله - تعالى - وسفه المعبودات الباطلة وعابديها .
و { وجهت وجهي } أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه ب { وجهي } ، و { فطر } معناه : ابتدع في أجرام ، و { حنيفاً } معناه مستقيماً ، والحنف الميل في كلام العرب ، وأصله في الأشخاص وهو في المعاني مستعار ، فالمعوج في الأجرام أحنف على الحقيقة أي مائل والمستقيم فيها أحنف على تجوز كأنه مال عن كل جهة إلى القوام{[4992]} .
جملة { إنّي وجَّهْت وَجْهِي } بمنزلة بدل الاشتمال من جملة { إنِّي بريء ممّا تشركون } ، لأنّ البراءة من الإشراك تشتمل على توجيه الوجه إلى الله ، وهو إفراده بالعبادة . والوجه في قوله : { وجهي } . و { وجّهت } مشتقّ من الجهة والوجهة ، أي صرفته إلى جهة ، أي جعلت كذا جهة له يقصدها . يقال : وجَّهه فتوجّه إلى كذا إذا ذهب إليه . ويقال للمكان المقصود وجهة بكسر الواو ، وكأنَّهم صاغوه على زنة الهيئة من الوَجه لأنّ القاصد إلى مكان يقصده من نحو وجهه ، وفعلوه على زنة الفعلة بكسر الفاء لأنّ قاصد المكان بوجهه تَحْصُل هيئة في وجهه وهي هيئة العزم وتحديقُ النظر . فمعنى { وجَّهت وجهي } صرفتُه وأدرته . وهذا تمثيل : شبّهت حالة إعراضه عن الأصنام وقصده إلى إفراد الله تعالى بالعبادة بمن استقبل بوجهه شيئاً وقصده وانصرف عن غيره .
وأتي بالموصول في قوله : { للذي فطر السماوات والأرض } ليومىء إلى علّة توجّهه إلى عبادته ، لأنّ الكواكب من موجودات السماء ، والأصنامَ من موجودات الأرض فهي مفطورة لله تعالى .
وفعل ( وجَّه ) يتعدّى إلى المكان المقصود بإلى ، وقد يتعدّى باللام إذا أريد أنَّه انصرف لأجل ذلك الشيء ، فيحسن ذلك إذا كان الشيء المقصود مراعى إرضاؤه وطاعته كما تقول : توجّهت للحبيب ، ولذلك اختير تعدّيه هنا باللام ، لأنّ في هذا التوجّه إرضاء وطاعة .
وفَطَر : خلَق ، وأصل الفَطْر الشقّ . يقال فطر فطوراً إذا شقّ قال تعالى { فارجع البصر هل تَرى من فُطُور } [ الملك : 3 ] أي اختلال ، شُبّه الخلْق بصناعة الجلد ونحوه ، فإنّ الصانع يشقّ الشيء قبل أن يصنعه ، وهذا كما يقال : الفَتق والفَلْق ، فأطلق الفَطر على إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة تؤهّل للفعل .
و { حنيفاً } حال من ضمير المتكلّم في { وجهتُ } . وتقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً } في سورة [ البقرة : 135 ] .
وجملة : { وما أنا من المشركين } عطف على الحال ، نفَى عن نفسه أن يكون متَّصلاً بالمشركين وفي عدادهم .
فلما تبرّأ من أصنامهم تبرّأ من القوم ، وقد جمعهما أيضاً في سورة [ الممتحنة : 4 ] إذ قال { إنّا بُرَآء منكم وممّا تعبدون من دون الله } .
وأفادت جملة { وما أنا من المشركين } تأكيداً لجملة { إنِّي وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً } ، وإنَّما عطفت لأنَّها قصد منها التبرّىء من أن يكون من المشركين .
وهذا قد جرينا فيه على أنّ قول إبراهيم لمّا رأى النيّرات { هذا ربِّي } هو مناظرة لقومه واستدراج لهم ، وأنّه كان موقناً بنفي إلهيتها ، وهو المناسب لصفة النبوءة أن يكون أوحى إليه ببطلان الإشراك وبالحجج التي احتجّ بها على قومه . ومن المفسّرين من قال : إنّ كلامه ذلك كان نظراً واستدلالاً في نفسه لقوله : { لئن لم يهدني ربِّي } ، فإنَّه يُشعر بأنّه في ضلال لأنَّه طلب هداية بصيغة الاستقبال أي لأجل أداة الشرط ، وليس هذا بمتعيّن لأنَّه قد يقوله لتنبيه قومه إلى أنّ لهم ربَّا بيده الهداية ، كما بيّنّاه في موضعه ، فيكون كلامه مستعملاً في التعريض . على أنَّه قد يكون أيضاً مراداً به الدوام على الهداية والزيادة فيها ، على أنَّه قد يكون أراد الهداية إلى إقامة الحجّة حتَّى لا يتغلّب عليه قومه .
فإذا بنينا على أنّ ذلك كان استدلالاً في نفسه قبل الجزم بالتوحيد فإنّ ذلك كان بإلهام من الله تعالى ، فيكون قوله : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] معناه نريه ما فيها من الدلائل على وجود الصانع ووحدانيته قبل أن نُوحي إليه ، ويكون قوله : { رأى كوكباً } بمعنى نظر في السماء فرأى هذا الكوكب ولم يكن نظر في ذلك من قبل ، ويكون قوله : { قال هذا ربِّي } قولاً في نفسه على نحو ما يتحدّث به المفكِّر في نفسه ، وهو حديث النفس ، كقول النابغة في كلب صيد :
قالتْ له النفس إنِّي لا أرى طمعاً *** وإنّ مولاك لم يسلَمْ ولم يَصد
ثم انثنى وقال في التفكير *** إنّ الحياة اليوم في الكُرور
وقوله : { هذا ربِّي } وقوله : { لا أحبّ الآفلين ، } وقوله : { لئِن لم يهدني ربِّي } كلّ ذلك مستعمل في حقائقه من الاعتقاد الحقيقي . وقوله : { قال يا قوم } هو ابتداء خطابه لقومه بعد أن ظهر الحقّ له فأعلن بمخالفته قومه حينئذٍ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام، أنه لما تبين له الحقّ وعرفه، شهد شهادة الحقّ، وأظهر خلاف قومه أهل الباطل وأهل الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولم يستوحش من قيل الحقّ والثبات عليه، مع خلاف جميع قومه لقوله وإنكارهم إياه عليه، وقال لهم:"يا قوم إني بريء مما تشركون" مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم، "إني وجهت وجهي "في عبادتي إلى الذي خلق السموات والأرض، الدائم الذي يبقى ولا يفنى ويحيي ويميت، لا إلى الذي يفنَى ولا يبقَى ويزول ولا يدوم ولا يضرّ ولا ينفع. ثم أخبرهم تعالى ذكره أن توجيهه وجهه لعبادته بإخلاص العبادة له والاستقامة في ذلك لربه على ما يجب من التوحيد، لا على الوجه الذي يوجه له وجهه من ليس بحنيف، ولكنه به مشرك، إذ كان توجيه الوجه لا على التحنيف غير نافع موجهه بل ضارّه ومهلكه. "وَما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ": ولست منكم أي لست ممن يدين دينكم ويتبع ملتكم أيها المشركون.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{إني وجهت وجهي} أي جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
الحنيف: الثابت على الدين، المائل إليه بالكلية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنّي وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض} أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله في نفسه، فحكاه الله. والأوّل أظهر لقوله: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبّي} وقوله: {قَالَ ياقوم إِنّي بَرِيء مّمَّا تُشْرِكُونَ}.
فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب.
فإن قلت: ما وجه التذكير في قوله: {هذا رَبّى} والإشارة للشمس؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، و {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث. ألا تراهم قالوا في صفة الله «علام» ولم يقولوا «علامة» وإن كان العلامة أبلغ، احترازاً من علامة التأنيث.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...و {وجهت وجهي} أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه ب {وجهي}، و {فطر} معناه: ابتدع في أجرام، و {حنيفاً} معناه مستقيماً، والحنف الميل في كلام العرب، وأصله في الأشخاص وهو في المعاني مستعار، فالمعوج في الأجرام أحنف على الحقيقة أي مائل والمستقيم فيها أحنف على تجوز كأنه مال عن كل جهة إلى القوام.
أما قوله: {إني وجهت وجهي} ففيه مسألتان:
المسألة الثانية: هذا الكلام لا يمكن حمله على ظاهره. بل المراد وجهت عبادتي وطاعتي، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره، فإنه يتوجه بوجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة. وأما قوله: {للذي فطر السماوات والأرض} ففيه دقيقة: وهي أنه لم يقل وجهت وجهي إلى الذي فطر السماوات والأرض. بل ترك هذا اللفظ وذكر قوله: {وجهت وجهي للذي} والمعنى: أن توجيه وجه القلب ليس إليه، لأنه متعال عن الحيز والجهة، بل توجيه وجه القلب إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته، فترك كلمة «إلى» هنا والاكتفاء بحرف اللام دليل ظاهر على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة، ومعنى فطر أخرجهما إلى الوجود، وأصله من الشق، يقال: تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهرهما، وأما الحنيف فهو: المائل، قال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت في صلاته، وقيل إنه العادل عن كل معبود دون الله تعالى.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} أي: خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق. {حَنِيفًا} أي في حال كوني حَنِيفًا، أي: مائلا عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقد اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ]}... والحق أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي: القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما أبطل بذلك جميع مذهبهم أظهر التوجه إلى الإله الحق، وأنه قد انكشف له الصواب بهذا النظر، والمراد هم، ولكن سوقه على هذا الوجه أدعى لقبولهم إياه، فقال مستنتجاً عما دل عليه الدليل العقلي في الملكوت: {إني وجهت وجهي} أي أخلصت قصدي غير معرج على شيء أصلاً، فعبر بذلك عن الانقياد التام، لأن من انقاد لشيء أقبل عليه بوجهه، ودل على كماله وتفرده بالكمال مبدعاتُه، وعبر باللام دون إلى لئلا يوهم الحيز، فقال: {للذي فطر} أي لأجل عبودية من شق وأخرج {السماوات والأرض} فختم الدليل بما افتتحت به السورة من قوله "الذي خلق السماوات والأرض "وأدل دليل على ما تقدم -أني فسرت الحنف به من أنه الميل مع الدليل سهولة ولطافة على ما هو دأب الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها- قولُه بعد نصب هذا الدليل: {حنيفاً} أي سهلاً هيناً ليناً لطيفاً ميالاً مع الدليل غير كزّ جاف جامد على التقليد دأب الغليظ البليد، وأكد البراءة منهم بقوله: {وما أنا من المشركين} أي منكم، ولكنه أظهر الوصف المقتضي للبراءة والتعميم، أي لا أعد في عدادكم بشيء أقاربكم به.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} تبرأ من شركهم وقفى على تلك البراءة ببيان عقيدته الحق وهي التوحيد الخالص فقال إني وجهت وجهي وقصدي وجعلت توجهي في عبادتي للرب الخالق الذي فطر السموات والأرض، أي ابتدأ خلقهما بما فتق من رتق مادتهما وهي دخان، وأكمل خلقهن أطوارا في ستة أزمان، فهو خالق هذه الكواكب النيرات، وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات، وتوجيه الوجه هنا بمعنى إسلامه في قوله عز وجل: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النساء: 125] وقوله: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن} [لقمان: 22]. وقد تقدم في تفسير الأولى (ج 5) أن إسلام الوجه له تعالى عبارة عن توجه القلب، فإن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال والإعراض والخشوع والسرور والكآبة وغير ذلك، وأن المراد بإسلامه وبتوجيهه لله تعالى تركه له يتوجه إليه وحده في طلب حاجته، وإخلاص عبوديته، فهو وحده الرب المستحق للعبادة، القادر على الأجر والإثابة.
ومن الشواهد على استعمال الوجه بمعنى القلب حديث « لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» وفي رواية قلوبكم. رواه أحمد وأصحاب السنن. ووجه يتعدى باللام وإلى كأسلم وتقدم شاهدا « أسلم» آنفا، ولم يتكرر « وجه» في القرآن بهذا المعنى، وإلا فاللام هنا بمعنى إلى كقوله تعالى: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5] وقوله: {لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28]...
هذا وإن التعبير بفاطر السموات والأرض هو وجه الحجة في الآية فإن ما فتن به القوم من تأثير النيرات في الأرض- إن صح- لم يعد أن يكون خاصية لبعض أجرام السماء وهي لم توجد نفسها ولا صفاتها وخواصها، فالواجب أن ينظر في أمرها من حيث هي جزء أو أجزاء من مجموع العالم، وحينئذ يراها الناظر المتفكر خاضعة لتدبير من فطر العالم الكبير التي هي بعضه، ويعلم أنه هو الحقيق بالعبادة من دونها، لأنه هو الرب الحق المدبر لها ولغيرها. وإنما يتجلى الاستدلال على وحدانية الربوبية والإلهية بالنظر في جملة العالم وكونه لا بد أن يكون له خالق مدبر واحد، إذ لا يمكن أن يستقيم نظام المتعدد إلا إذا كان له جهة واحدة كما بيناه في غير هذا الموضع وسيعاد أن شاء الله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] وأما الاستدلال بأجزاء الكون فيتولد منه شبهات ومشكلات كثيرة.
والحنيف صفة من الحنف وهو بالتحريك الميل عن الضلال والعوج إلى الاستقامة، وضده الجنف بالجيم. فقوله حنيفا حال أي وجهت وجهي له حال كوني مائلا عن معبوداتكم الباطلة وعن غيرها، فتوجهي وإسلامي خالص له لا يشوبه شرك ولا رياء، وإما أنا من القوم المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات، كالكواكب أو الملائكة أو الملوك والصالحين، أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل.
تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ثم تبرأ منهم أنفسهم {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} [الممتحنة: 4] روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض: ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجهه. فرد عليهم بأنه حنيف أي مخلص له لا يشرك به كما يشركون اه بالمعنى.
المسألة الثانية: معنى الرب والإله وشبهة الشرك وكونه قسمان
ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، فالإله هو المعبود فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها، والرب هو السيد المالك والمربي والمدبر والمتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء في كل زمن وكل حال وملكه حقيقي تام، وملك غيره عرفي ناقص موقوت، له أجل محدود، وهو المعبود بحق، إذ العبادة الحق لا تكون إلا للرب، فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب وما هو فوق الأسباب، لأنه هو الموجد لها والمتصرف فيها، فهي خاضعة لسلطانه وكل ما عداه فهو خاضع لسلطانها بل سلطانه فيها. والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران:
أحدهما: أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات لقصر إدراكهم عن الوصول إلى كون القدرة الذاتية خاصة بخالق كل شيء الذي أعطى كل شيء خلقه وما امتاز به على غيره، وكون خفاء سبب الخصوصية لا يقتضي عدم خضوع صاحبها لسنن الخالق فيها وفي غيرها من شؤونه (أي شؤون صاحب الخصوصية) ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة.
ثانيهما: اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر، وسيلة إلى الرب الإله الحق، تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها، أو التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يمثلها أو يذكر بها، فيتوسل ذو الحاجة بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لأجل حمله تعالى بتأثيرها عنده، على قبوله وإعطائه سؤله، وهذا التوسل توجه إلى غير الله مبني على اعتقاد عدم انفراد الرب بالاستقلال بقضاء الحاجات، وكونه يفعل بتأثير الوسيلة في إرادته، وهذا شرك في العبادة ينافي الحنيفية. وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت العرب عليها في زمن البعثة، ولذلك كانوا يقولون في طوافهم: (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك).
وكان بعض قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة في الجملة أو أوشكوا، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم، ولا تقدر على نفعهم ولا ضرهم، وإنما قلدوا بعبادتها آباءهم، كما يعلم من محاجته صلى الله عليه وسلم لهم في سورة الشعراء (26: 69) الخ ولذلك اتخذوها آلهة معبودين، لا أربابا مدبرين، ولكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي أو الوهمي في الأرض، وتوسعوا في إسناد التأثير إليها حتى اخترعوا من ذلك ما لا شبهة له، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب النار ونير الأرض والسماء يدبر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم ويمزقه كل ممزق – ويعتقدون نحو ذلك في زحل واسمه (بيني) ويعتقدون أن مرداخ، وهو المشتري، شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام حافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن (رنكال) وهو المريخ كمي الأرباب ورب الصيد وسلطان الحرب، فهو يشترك مع زحل في تدبيره إلا أن هذا هو المقدم في الصيد وذاك المقدم في الحرب، وأن عشتار (أو نانا) وهي الزهرة ربة الغبطة والسعادة ومفيضة السرور على الناس، وتمثل في الآثار بامرأة عارية. وأن (نبو) وهو عطارد رب العلم والحكمة.
وكانت حجة إبراهيم البالغة في حصر العبادة بالتوجه فيها إلى فاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائط والوسائل، ومثلها في سورة الأنبياء فقد قال في تماثيلهم {بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين} [الأنبياء: 56] وبهذا كان يحتج جميع الرسل عليهم السلام وهو أقوى الحجج وأظهرها، وأما ما ذكره إبراهيم صلى الله عليه وسلم من التعريض قبلها فهو تمهيد لها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} أي: لله وحده، مقبلا عليه، معرضا عن من سواه. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فتبرأ من الشرك، وأذعن بالتوحيد، وأقام على ذلك البرهان [وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات، هو الصواب، وهو أن المقام مقام مناظرة، من إبراهيم لقومه، وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية وغيرها. وأما من قال: إنه مقام نظر في حال طفوليته، فليس عليه دليل]
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إنّي وجَّهْت وَجْهِي} بمنزلة بدل الاشتمال من جملة {إنِّي بريء ممّا تشركون}، لأنّ البراءة من الإشراك تشتمل على توجيه الوجه إلى الله، وهو إفراده بالعبادة. والوجه في قوله: {وجهي}. و {وجّهت} مشتقّ من الجهة والوجهة، أي صرفته إلى جهة، أي جعلت كذا جهة له يقصدها. يقال: وجَّهه فتوجّه إلى كذا إذا ذهب إليه. ويقال للمكان المقصود وجهة بكسر الواو، وكأنَّهم صاغوه على زنة الهيئة من الوَجه لأنّ القاصد إلى مكان يقصده من نحو وجهه، وفعلوه على زنة الفعلة بكسر الفاء لأنّ قاصد المكان بوجهه تَحْصُل هيئة في وجهه وهي هيئة العزم وتحديقُ النظر. فمعنى {وجَّهت وجهي} صرفتُه وأدرته. وهذا تمثيل: شبّهت حالة إعراضه عن الأصنام وقصده إلى إفراد الله تعالى بالعبادة بمن استقبل بوجهه شيئاً وقصده وانصرف عن غيره.
وأتي بالموصول في قوله: {للذي فطر السماوات والأرض} ليومىء إلى علّة توجّهه إلى عبادته، لأنّ الكواكب من موجودات السماء، والأصنامَ من موجودات الأرض فهي مفطورة لله تعالى.
وفعل (وجَّه) يتعدّى إلى المكان المقصود بإلى، وقد يتعدّى باللام إذا أريد أنَّه انصرف لأجل ذلك الشيء، فيحسن ذلك إذا كان الشيء المقصود مراعى إرضاؤه وطاعته كما تقول: توجّهت للحبيب، ولذلك اختير تعدّيه هنا باللام، لأنّ في هذا التوجّه إرضاء وطاعة.
وفَطَر: خلَق، وأصل الفَطْر الشقّ. يقال فطر فطوراً إذا شقّ قال تعالى {فارجع البصر هل تَرى من فُطُور} [الملك: 3] أي اختلال، شُبّه الخلْق بصناعة الجلد ونحوه، فإنّ الصانع يشقّ الشيء قبل أن يصنعه، وهذا كما يقال: الفَتق والفَلْق، فأطلق الفَطر على إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة تؤهّل للفعل.
و {حنيفاً} حال من ضمير المتكلّم في {وجهتُ}. وتقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى: {قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً} في سورة [البقرة: 135].
وجملة: {وما أنا من المشركين} عطف على الحال، نفَى عن نفسه أن يكون متَّصلاً بالمشركين وفي عدادهم.
فلما تبرّأ من أصنامهم تبرّأ من القوم، وقد جمعهما أيضاً في سورة [الممتحنة: 4] إذ قال {إنّا بُرَآء منكم وممّا تعبدون من دون الله}.
وأفادت جملة {وما أنا من المشركين} تأكيداً لجملة {إنِّي وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً}، وإنَّما عطفت لأنَّها قصد منها التبرّي من أن يكون من المشركين.
وهذا قد جرينا فيه على أنّ قول إبراهيم لمّا رأى النيّرات {هذا ربِّي} هو مناظرة لقومه واستدراج لهم، وأنّه كان موقناً بنفي إلهيتها، وهو المناسب لصفة النبوءة أن يكون أوحى إليه ببطلان الإشراك وبالحجج التي احتجّ بها على قومه. ومن المفسّرين من قال: إنّ كلامه ذلك كان نظراً واستدلالاً في نفسه لقوله: {لئن لم يهدني ربِّي}، فإنَّه يُشعر بأنّه في ضلال لأنَّه طلب هداية بصيغة الاستقبال أي لأجل أداة الشرط، وليس هذا بمتعيّن لأنَّه قد يقوله لتنبيه قومه إلى أنّ لهم ربَّا بيده الهداية، كما بيّنّاه في موضعه، فيكون كلامه مستعملاً في التعريض. على أنَّه قد يكون أيضاً مراداً به الدوام على الهداية والزيادة فيها، على أنَّه قد يكون أراد الهداية إلى إقامة الحجّة حتَّى لا يتغلّب عليه قومه.
فإذا بنينا على أنّ ذلك كان استدلالاً في نفسه قبل الجزم بالتوحيد فإنّ ذلك كان بإلهام من الله تعالى، فيكون قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} [الأنعام: 75] معناه نريه ما فيها من الدلائل على وجود الصانع ووحدانيته قبل أن نُوحي إليه، ويكون قوله: {رأى كوكباً} بمعنى نظر في السماء فرأى هذا الكوكب ولم يكن نظر في ذلك من قبل، ويكون قوله: {قال هذا ربِّي} قولاً في نفسه على نحو ما يتحدّث به المفكِّر في نفسه
...ويقدم سيدنا إبراهيم برهانه لقومه، إنه يعبد الله وحده الذي خلق السماوات والأرض، رافضا كل فساد في الكون، ويتمثل هذا في قومه {حنيفا}، و (الحنف) في اللغة هو ميل في القدمين، ونجد القدم مقوسة إلى الخارج. وهذا يعني أنه لا يسير على طريق الفساد الموجود في الكون؛ لأن السماء تتدخل بالرسالات حين يطم الفساد في الأرض، وحين يأتي الرسول مائلا عن الفساد فهو يسير معتدلا؛ لأن الميل عن الفساد اعتدال واستقامة.