{ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( 79 ) } .
{ إني وجهت وجهي } أي : وجه قلبي وروحي في المحبة والمعادلة ، بل جعلته مسلما { للذي فطر السماوات والأرض حنيفا } أي : مائلا عن الأديان الباطلة ، والعقائد الزائغة ، { وما أنا من المشركين } .
الأول- توسع المفسرون هنا في قوله : { هذا ربي } :
فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر ، وأنه لما قال ذلك ، قال إبراهيم { لا أحب الآفلين } .
وقيل : إنه إبراهيم ، وكان ذلك في حال الطفولية ، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله : { لئن لم يهدني ربي . . . } الخ .
وقيل : بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة ، إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاري ، توبيخا لقومه ، فحذف الهمزة ، ومثله كثير .
وقيل : على إضمار القول أي : يقولون هذا ربي ، وإضمار القول كثير .
وقيل : المعنى في زعمكم واعتقادكم .
وقيل : الإخبار على سبيل الاستهزاء . . . إلى أقوال أخر .
والقصد في ذلك تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة ، واعتقاد ربوبية ذلك ، لمنافاته للعصمة .
/ وأقول : هذا مسلم بلا ريب ، ولكن الأوجه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أولا من أن قوله : { هذا ربي } من باب استعمال النصفة مع الخصوم ، على سبيل الوضع ، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها ، لكونها مسلمة عند غيره ، لأجل إلزامه بها . وهو مصطلح أهل الجدل . وقد اقتصر الزمخشري على هذا الوجه الفريد .
قال الناصر في ( الانتصاف ) : وذلك متعين . وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة{[3523]} " أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فيلتمسون منه الشفاعة ، فيقول : نفسي ! نفسي ! ويذكر كذباته الثلاث ، ويقول : لست لها ، يريد قوله لسارة هي أختي ، وإنما عنى : في الإسلام . وقوله : إنه سقيم ، وإنما عنى همه بقومه وبشركهم والمؤمن يسقمه ذلك- وقوله : { بل فعله كبيرهم } " ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض . فإذا عد صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات ، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها ، دل ذلك على أنها أعظم ما صدر منه . فلو كان الأمر على ما يقال ، من أن هذا الكلام محكي عنه على أنه نظره لنفسه ، لكان أولى أن يعده ، وأعظم ، مما ذكرناه . لأنه حينئذ يكون شكا ، بل جزما . على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك . انتهى .
وقال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير{[3524]} من طريق علي بن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر . واختاره ابن جرير مستدلا عليه بقوله : { لئن لم يهدني ربي } الآية . وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمرود بن كنعان ، / لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ . فلما حملت أم إبراهيم به . وحان وضعها ، ذهبت إلى سرب ، ظاهر البلدة . فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك . وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين .
ثم قال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه ، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين ، في المقام الأول مع أبيه ، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية ، التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه . بين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة . وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم ، الشمس ثم القمر ثم الزهرة . فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه ، ولا تملك لنفسها تصرفا ، بل هي جرم من الأجرام ، خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب ، حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال . وهذه لا تصلح للإلهية . ثم بين في القمر ما بين في النجم ، ثم الشمس كذلك . فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة ، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن ، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن .
ثم قال ابن كثير : وكيف يجوز أن يكون ناظرا في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه : { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ، إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون }{[3525]} . وقال تعالى : { إن إبراهيم كان أمة / قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، شاكرا لأنعمه ، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم }{[3526]} .
وقد ثبت في ( الصحيحين ) {[3527]} عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل مولود يولد على الفطرة " .
وفي ( صحيح مسلم ) {[3528]} عن عياض ابن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :قال الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء " . وقال تعالى : { فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } وقال تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى }{[3529]} . ومعناه على أحد القولين ، كقوله : { فطرت الله التي فطر الناس عليها } . فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل / الذي جعله الله : { أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين } ناظر في هذا المقام ؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلا شك ولا ريب .
ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك ، لا ناظرا ، قوله تعالى : { وحاجه قومه . . . } الآية الآتية . انتهى .
وممن جود هذا المبحث الجليل ، وبين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظرا لقومه ، العلامة الشهرستاني في كتابه ( الملل والنحل ) ، ونحن نسوقه عنه تأييدا لهذا البحث المهم ، وتعرفا بمعتقد قومه ، وما دفعهم إليه ، لما فيه من الفوائد .
قال رحمه الله تحت ترجمة ( أصحاب الهياكل والأشخاص ) : هؤلاء من فرق الصابئة ( وهم المتعصبون للروحانيين ) ، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة ، ونذكرها ههنا تفصيلا :
اعلم أن أصحاب الروحانيات ، لما عرفوا أن لابد للإنسان من متوسط ، ولابد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه ، ويتقرب به ، ويستفاد منه فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، فتعرفوا أولا بيوتها ومنازلها ، وثانيا مطالعها ومغاربها ، وثالثا اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة ، مرتبة على طبائعها ، ورابعا تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها ، وخامسا تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها ، فعملوا الخواتيم ، وتعلموا العزائم والدعوات ، وعينوا ليوم زحل مثلا يوم السبت ، وراعوا فيه ساعته الأولى ، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وصفته ، ولبسوا اللباس الخاص به ، وبخروا ببخوره الخاص ، ودعوا بدعواته الخاصة ، وسألوا حاجاتهم منه ، الحاجة التي تستدعي من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به .
وكذلك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته ، وجميع الإضافات التي/ ذكرنا إليه . وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب . وكانوا يسمونها : أربابا آلهة ، والله تعالى هو رب الأرباب ، وإله الآلهة . ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب ، فكانوا يتقربون إلى الهياكل ، تقربا إلى الروحانيات- يعني الملائكة- ويتقربون إلى الروحانيات ، تقربا إلى البارئ تعالى ، لاعتقادهم بأن كل روحاني هيكلا ، ولكل هيكل فلكا ، فالهياكل أبدان الروحانيات ، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات ، وهي أربابها ومدبراتها ، تتصرف في أبدانها تدبيرا وتصريفا وتحريكا ، كما يتصرف في أبداننا . ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه . ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب . وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتختيم والتعزيم والخواتيم والصور ، كلها من علومهم . وأما أصحاب الأشخاص فقالوا : إذا كان لابد من متوسط يتوسل به ، وشفيع يتشفع إليه ، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل ، لكنا إذا لم نرها بالأبصار ، ولم نخاطبها بالألسن ، لم يتحقق القرب إليها إلا بهياكلها ، ولكن الهياكل قد ترى في وقت ، ولا ترى في وقت ، لأنها لها طلوعا وأفولا ، وظهورا بالليل ، وخفاء بالنهار ، فلم يصف لنا التقرب بها ، والتوجه إليها ، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا ، فنعكف عليها ، ونتوسل بها إلى الهياكل ، فنتقرب بها إلى الروحانيات ، ونتقرب بالروحانيات إلى الله تعالى ، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، فاتخذوا أصناما أشخاصا على مثال الهياكل السبعة ، كل شخص في مقابلة هيكل ، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل ، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره ، وصوروه بصورته على الهيأة التي تصدر أفعاله عنه ، وراعوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية ، من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعي منه ، فتقربوا إليه في يومه وساعته ، وتبخروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه ، ولبسوا ثيابه ، وتضرعوا بدعائه ، وعزموا / بعزائمه ، وسألوا حاجتهم منه ، فيقولون : كان تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها ، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم أنهم عبدة الكواكب والأوثان . فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب ، إذ قالوا بإلهيتها- كما شرحنا- وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان ، إذ سموها آلهة في مقابلة آلهة أولئك السماوية ، وقالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله }{[3530]} . وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هذين الفريقين ، فابتدأ بكسر مذهب أصحاب الأشخاص ، وذلك قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم } . وتلك الحجة أن كسرهم قولا بقوله : { أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون } . ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ، لهذا كانوا يشترون منه الأصنام ، لا من غيره ، كان أكثر الحجج معه ، وأقوى الإلزامات عليه { إذ قال لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين } وقال : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا }{[3531]} لأنك جهدت كل الجهد ، واستعملت كل العلم ، حتى عملت أصناما في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيه سمعا وبصرا ، وأن تغني عنك ، وتضر وتنفع ، وإنك بفطرتك وخلقتك أرفع درجة منها ، لأنك خلقت سميعا بصيرا ضارا ونافعا . والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفا ، والمعمول تصنعا ، فيا لها من حيرة ، إذ صار المصنوع بيدك ، معبودا لك ، والصانع أشرف من المصنوع : { يا أبت لا تعبد الشيطان } { يا أبت إني قد / جاءني من العلم ما لم يأتيك فاتبعني أهدك صراطا سويا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم }{[3532]} فلم يقبل حجته القولية ، فعدل عليه الصلاة والسلام إلى الكسر بالفعل ، فجعلهم جذاذا ، إلا كبيرا لهم : { قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين }{[3533]} { قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ، ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون }{[3534]} فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم ، كما أفحمهم بالقول ، حيث أحال الفعل منهم ، وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم ، وإلا فما كان الخليل كاذبا قط . ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله تعالى الحجة على قومه ، قال : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفا له على الروحانيات وهياكلها ، وترجيحا لمذهب الحنفاء على مذهب الصائبة ، وتقريرا أن الكمال في الرجال ، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل : { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي } على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام : { بل فعله كبيرهم هذا } وإلا فما كان الخليل كاذبا في هذا القول ، ولا مشركا في تلك الإشارة . ثم استدل بالأفول والزوال والتغير والانتقال ، بأنه لا يصلح أن يكون ربا إلها ، فإن الإله القديم لا يتغير ، وإذا تغير فاحتاج إلى مغير ، وهذا لو اعتقدتموه ربا قديما وإلها أزليا ، ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعا ووسيلة ، فالأفول والزوال أيضا ، يخرجه عن الكمال . وعن هذا ما ا استدل عليهم بالطلوع ، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول ، فإنهم إما انتقلوا إلى عمل الأشخاص ، لما عراهم من التحير بالأفول ، فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل عليهم بما اعترفوا بصحته . وذلك أبلغ في الاحتجاج . ثم { لما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد ، ونهاية المعرفة ، والواصل إلى الغاية والنهاية ، كيف يكون في مدارج البداية ؟ دع هذا كله خلف قاف ، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف . فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج ، وأوضح المناهج . وعن هذا قال : { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر } لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك ، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار ، ويقبلون منه الآثار { فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } قرر مذهب الحنفاء ، وأبطل مذهب الصابئة ، وبين أن الفطرة هي الحنيفية ، وأن الطهارة فيها ، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها ، وأن النجاة والخلاص متعلقة بها ، وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها ، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها ، وأن الفاتحة والخاتمة ، والمبدأ والكمال ، منوطة بتلخيصها وتحريرها . ذلك الدين القيم ، والصراط المستقيم ، والمنهج الواضح ، والمسلك اللائح . انتهى كلام الشهرستاني رحمه الله تعالى . وإنما نقلت كلامه برمته ، لأنه كما قيل :
وقد قدم رحمه الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة ، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء ، بما تفيد مراجعته فائدة كبرى . فجزاه الله خيرا .
/ الثاني- تبين مما ذكره الشهرستاني أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ ، مع كون كل منهما منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية- هو إتيانهم من حيث تحيرهم ، إلزاما لهم بما يعترفون بصحته .
وقال أبو السعود : لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة- عدل عنه إلى الأفول ، لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار ، وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة ، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد . انتهى . وهو لطيف ، إلا أن الأول أسد .
الثالث- لو قيل : إن الأفول ، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة الربوبية على ما ذكرنا ، وقد ثبت ذلك في أكبر الكواكب- ( أعني الشمس ) - فلزم ثبوته فيما دونها بالأولى- فهلا اقتصر على أفول الشمس رعاية للإيجاز والاختصار ؟ أجيب : بأن الأخذ من الأدنى فالأدنى ، إلى الأعلى فالأعلى ، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد ، لا يحصل من غيره ، فكان سوق الاستدلال على هذا الوجه أولى- أفاده الرازي- .
الرابع- قال الرازي : تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل ، لا على التقليد ، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة .