فلما رأى موسى عليه السلام عتوهم عليه { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي } أي : فلا يدان لنا بقتالهم ، ولست بجبار على هؤلاء . { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : احكم بيننا وبينهم ، بأن تنزل فيهم من العقوبة ما اقتضته حكمتك ، ودل ذلك على أن قولهم وفعلهم من الكبائر العظيمة الموجبة للفسق .
بعد أن رأى من قومه ما رأى من عناد وجبن ، لجأ إلى ربه يشكو إليه منهم ، يلتمس منه أن يفرق بينه وبينهم ، فقال : { رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } .
أي : قال موسى باثا شكواه وحزنه إلى الله ، ومعتذرا إليه من فسوق قومه وسفاهتهم وجبنهم : رب إنك تعلم أني لا أملك لنصرة دينك أمر أحد ألزمه بطاعتك سوى أمر نفسي ، وأمر أخي هارون ، ولا ثقة لي في غيرنا أن يطيعك في العسر واليسر والمنشط والمكره .
ولم يذكر الرجلين اللذين قالا لقومهما فيما سبق { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب } لعدم ثقته الكاملة في دخولهما معه أرض الجبارين ، وفي وقوفهما بجانبه عند القتال إذا تخلى بقية القوم عنه فإن بعض الناس كثيرا ما يقدم على القتال مع الجيش الكبير ، ولكنه قد يحجم إذا رأى أن عدد المجاهدين قليل .
ومن هنا لم يذكر أنه يملك أمر هذين الرجلين كما يملك أمر نفسه وامر أخيه .
وصرح موسى - عليه السلام - بأنه يملك أمر أخيه هارون كما يملك أمر نفسه ، لمؤازرته التامة له في كفاحه ظلم فرعون ، ولوقوفه إلى جانبه بعزيمة صادقة في كل موطن من مواطن الشدة وليقينه بأنه مؤيد بروح من الله - تعالى .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما كان معه الرجلان المذكوران ؟ قلت كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحية من أحوال قومه ، وتلونهم وقسوة قلوبهم فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره . ويجوز أن يكون قال ذلك لفرط ضجره عندما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه . ويجوز أن يريد ومن يؤاخيني على ديني .
هذا وقد ذكر النحويون وجوها من الإِعراب لقوله ( وأخي ) منها : أنه منصوب عطفا على قوله : ( نفسي ) أي : ولا أملك إلا أخي مع ملكي نفسي دون غيرهما .
وقوله - تعالى - : { فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } بيان لما يرجوه موسى من ربه - عز وجل - بعد أن خرج بنو إسرائيل عن طاعته .
والفاء هنا لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله . والفرق معناه الفصل بين شيئين .
والمعنى : قال موسى مخاطباً ربه : لقد علمت يا إلهي أني لا أملك لنصرة دينك إلا أمر نفسي وأمر أخي ، أما قومي فقد خرجوا عن طاعتي وفسقوا عن أمرك وما دام هذا شأنهم فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل ، بأن تحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون فإنك أنت الحكم العدل بين العباد .
( قال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي . فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ) . .
دعوة فيها الألم . وفيها الالتجاء . وفيها الاستسلام . وفيها - بعد ذلك - المفاصلة والحسم والتصميم !
وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه . . ولكن موسى في ضعف الإنسان المخذول . وفي إيمان النبي الكليم . وفي عزم المؤمن المستقيم ، لا يجد متوجها إلا لله . يشكو له بثه ونجواه ، ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين . فما يربطه بهم شيء بعد النكول عن ميثاق الله الوثيق . . ما يربطه بهم نسب . وما يربطه بهم تاريخ . وما يربطه بهم جهد سابق . إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى الله ، وهذا الميثاق مع الله .
وقد فصلوه . فانبت ما بينه وبينهم إلى الأعماق . وما عاد يربطه بهم رباط . . إنه مستقيم على عهد الله وهم فاسقون . . إنه مستمسك بميثاق الله وهم ناكصون . .
هذا هو أدب النبي . . وهذه هي خطة المؤمن . وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون . . لا جنس . لا نسب . لا قوم . لا لغة . لا تاريخ . لا وشيجة من كل وشائج الأرض ؛ إذا انقطعت وشيجة العقيدة ؛ وإذا اختلف المنهج والطريق . .
وقوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } يعني : لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام ، وقال داعيا عليهم : { رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي } أي : ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ، ويجيب إلى ما دعوتَ إليه إلا أنا وأخي هارون ، { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } قال العَوْفِي ، عن ابن عباس : يعني اقض بيني وبينهم . وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
وكذا قال الضحاك : اقض بيننا وبينهم ، وافتح بيننا وبينهم ، وقال غيره : افرق : افصل بيننا وبينهم ، كما قال الشاعر{[9565]} :
ولما سمع موسى عليه السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى الله تعالى منهم ، وقال داعياً عليهم : { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } يعني هارون ، وقوله : { وأخي } يحتمل أن يكون إعرابه رفعاً إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه ، وإما على العطف على الضمير الذي في { أملك } تقديره لا أملك أنا ، ويحتمل أن يكون إعرابه نصباً على العطف على { نفسي } ، وذلك لأن هارون كان يطيع «موسى » فلذلك أخبر أنه يملكه{[4505]} ، وقرأ الحسن «إلا نفسيَ وأخي » بفتح الياء فيهما ، وقوله : { فافرق بيننا } دعاء حرج ، قال السدي ، هي عجلة عجلها موسى عليه السلام ، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما : المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح ، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة ، وقال قوم : المعنى «فافرق بيننا وبينهم » في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق ، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه : «فرق بيننا وبينهم » بمعنى أن يقول :«فقدنا وجوههم وفرق بيننا وبينهم » حتى لا نشقى بفسقهم ، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء ، وقرأ عبيد بن عمير «فافرِق » بكسر الراء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.