{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } فتبقى قلوبهم سالمة من كل دغل{[455]} وحسد متصافية متحابة { إخوانا على سرر متقابلين }
دل ذلك على تزاورهم واجتماعهم وحسن أدبهم فيما بينهم في كون كل منهم مقابلا للآخر لا مستدبرا له متكئين على تلك السرر المزينة بالفرش واللؤلؤ وأنواع الجواهر .
ثم بين - سبحانه - ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسى ، ونقاء قلبى فقال : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } .
والنزع : القلع يقال : نزع فلان هذا الشىء من مكانه إذا قلعه منه ، وفعله من باب ضرب والغل : الحقد والضغينة ، وأصله من الغلالة ، وهى ما يلبس بين الثوبين : الشعار والدثار .
أو من الغلل وهو الماء المتخلل بين الأشجار . ويقال : غل صدر فلان يغل - بالكسر - غلا إذا كان ذا غش ، أو ضغن ، أو حقد .
والسرر : جمع سرير وهو المكان المهيأ لراحة الجالس عليه وإدخال السرور على قلبه .
أى : وقلعنا ما في صدور هؤلاء المتقين من ضغائن وعداوات كانت موجودة فيها في الدنيا ، وجعلناهم يدخلون الجنة إخوانًا متحابين متصافين ، ويجلسون متقابلين ، على سرر مهيأة لراحتهم ورفاهيتهم وإدخال السرور على نفوسهم .
وقوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } حال عن فاعل { ادخلوها } .
وعبر بقوله { متقابلين } لأن مقابلة الوجه للوجه أدخل في الإِيناس ، وأجمع للقلوب .
والآية الكريمة تشعر بأنهم في الجنة ينشئهم الله - تعالى - نشأة أخرى جديدة وتكون قلوبهم فيها خالية من كل ما كان يخالطهم في الدنيا من ضغائن وعداوات وأحقاد وأطماع وغير ذلك من الصفات الذميمة ، ويصلون بسبب هذه النشأة الجديدة إلى منتهى الرقى البشرى . . .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث والآثار منها ما رواه القاسم عن أبى أمامة قال : يدخل أهل الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ .
ومنها : ما رواه أبو مالك الأشجعى عن أبي حبيبة - مولى لطلحة - قال : دخل عمران ابن طلحة على الإِمام على بن أبى طالب بعد ما فرغ من أصحاب الجمل ، فرحب على - رضى الله عنه - به ، وقال : إنى لأرجو أن يجعلنى الله وإياك من الذين قال الله فيهم : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ . . . } .
وقوله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } روى القاسم ، عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ }{[16175]}
هكذا في هذه الرواية ، والقاسم بن عبد الرحمن - في روايته{[16176]} عن أبي أمامة - ضعيف .
وقد روى سُنَيْد في تفسيره : حدثنا ابن فضالة ، عن لقمان ، عن أبي أمامة قال : لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدرهم من غل ، حتى ينزع منه مثل السبع الضاري{[16177]}
وهذا موافق لما في الصحيح ، من رواية قتادة ، حدثنا أبو المتوكل الناجي : أن أبا سعيد الخدري حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَخْلُص المؤمنون من النار ، فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيُقتص لبعضهم من بعضهم ، مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا ، أذن لهم في دخول الجنة " {[16178]}
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا هشام ، عن محمد - هو ابن سيرين - قال : استأذن الأشتر على عليٍّ ، رضي الله عنه ، وعنده ابن لطلحة ، فحبسه ثم أذن له . فلما دخل قال : إني لأراك إنما احتبستني لهذا ؟ قال : أجل . قال : إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني ؟ قال : أجل إني{[16179]} لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [ إِخْوَانًا ]عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }{[16180]} {[16181]}
وحدثنا الحسن : حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن أبي حبيبة - مولى لطلحة - قال : دخل عمران بن طلحة على عليٍّ ، رضي الله عنه ، بعدما فرغ من أصحاب الجمل ، فرحب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } - قال : ورجلان جالسان على ناحية البساط ، فقالا الله أعدل من ذلك ، تقتلهم بالأمس ، وتكونون إخوانا ! فقال علي ، رضي الله عنه : قُوما أبعد أرض وأسحقها ! فمن هو إذا إن لم أكن أنا وطلحة ، وذكر أبو معاوية الحديث بطوله{[16182]}
وروى وَكِيع ، عن أبان بن عبد الله البجلي ، عن نُعَيْم بن أبي هند ، عن رِبْعِي بن خِرَاش ، عن علي ، نحوه ، وقال فيه : فقام رجل من هَمْدان فقال : الله أعدل من ذاك يا أمير المؤمنين . قال : فصاح به علي صيحة ، فظننت أن القصر تَدهدَه لها ، ثم قال : إذا لم نكن نحن فمن هو ؟{[16183]}
وقال سعيد بن مسروق ، عن أبي طلحة - وذكره - فيه : فقال الحارث الأعور ذلك ، فقام إليه علي ، رضي الله عنه ، فضربه بشيء كان في يده في رأسه ، وقال : فمن هم{[16184]} يا أعور إذا لم نكن نحن ؟
وقال سفيان الثوري : عن منصور ، عن إبراهيم قال : جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على عليٍّ ، رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له ، فقال له : أما أهل البلاء فتجفوهم . فقال علي : بفيك التراب ، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ، ممن قال الله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }
وكذا روى الثوري ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، بنحوه .
وقال سفيان بن عُيَيْنة ، عن إسرائيل ، عن أبي موسى ، سمع الحسن البصري يقول : قال علي : فينا والله - أهل بدر - نزلت هذه الآية : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }
وقال كثير النَّواء : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت : وليي وليكم ، وسلمي سلمكم ، وعدوي عدوكم ، وحربي حربكم . إني أسألك بالله : أتبرأ من أبي بكر وعمر ؟ فقال : { قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ الأنعام : 56 ] تولهما{[16185]} يا كثير ، فما أدركك فهو في رقبتي هذه ، ثم تلا هذه الآية : { إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، رضي الله عنهم أجمعين .
وقال الثوري ، عن رجل ، عن أبي صالح في قوله : { إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال : هم عشرة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهم أجمعين .
وقوله : { مُتَقَابِلِينَ } قال مجاهد : لا ينظر بعضهم في قفا بعض .
وفيه حديث مرفوع ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا إبراهيم بن بشر{[16186]} حدثنا يحيى بن معين ، عن إبراهيم القرشي ، عن سعيد بن شرحبيل ، عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا هذه الآية : { إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } في الله ، ينظر بعضهم إلى بعض{[16187]}
{ ونزعنا } في الدنيا بما ألف بين قلوبهم ، أو في الجنة بتطييب نفوسهم . { ما في صدورهم من غلٍّ } من حقد كان في الدنيا وعن علي رضي الله تعالى عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ، أو من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب . { إخوانا } حال من الضمير في جنات ، أو فاعل ادخلوها أو الضمير في آمنين أو الضمير المضاف إليه ، والعامل فيها معنى الإضافة وكذا قوله : { على سرر متقابلين } ويجوز أن يكون صفتين لإخوانا أو حال من ضميره لأنه بمعنى متصافين ، وأن يكون متقابلين حالا من المستقرين على سرر .
جملة ونزعنا ما في صدورهم من غل } عطف على الخبر ، وهو { في جنات وعيون } . والتقدير : إن المتقين نزعنا ما في صدورهم من غِلّ .
والغِلّ بكسر الغين البغض . وتقدم في قوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غلّ تجري من تحتهم الأنهار } في سورة الأعراف ( 43 ) ، أي ما كان بين بعضهم من غلّ في الدنيا .
و{ إخواناً } حال ، وهو على معنى التشبيه ، أي كالإخوان ، أي كحال الإخوان في الدنيا .
وأول من يدخل في هذا العموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم من الحوادث الدافع إليها اختلاف الاجتهاد في إقامة مصالح المسلمين ، والشدة في إقامة الحق على حسب اجتهادهم . كما روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال : إني لأرجو من أن أكون أنا وطلحة ممن قال الله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً } . فقال جاهل من شيعة عليّ اسمه الحارث بن الأعور الهمذاني : كلا ، اللّهُ أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد . فقال عليّ : « فلمن هذه الآية لا أمّ لك بِفيك التراب » .
والسرر : جمع سرير . وهو محمل كالكرسي متّسع يمكن الاضطجاع عليه . والاتّكاء : مجلس أصحاب الدعة والرفاهية لتمكن الجالس عليه من التقلّب كيف شاء حتى إذا ملّ جِلسة انقلب لغيرها .
والتقابل : كون الواحد قبالة غيره ، وهو أدخل في التأنس بالرؤية والمحَادثة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ونزعنا ما في صدورهم من غل} يقول: أخرجنا ما في قلوبهم من الغش الذي كان في الدنيا بعضهم لبعض، فصاروا متحابين، {إخوانا على سرر متقابلين}، في الزيارة، يرى بعضهم بعضا، متقابلين على الأسرة يتحدثون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 45]
إن الذين اتقوا الله بطاعته وخافوه، فتجنبوا معاصيه "في جَنّاتٍ وَعُيُونٍ "يقال لهم: "ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ" من عقاب الله، أو أن تُسلبوا نعمة الله عليكم وكرامة أكرمكم بها.
"وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ" يقول: وأخرجنا ما في صدور هؤلاء المتقين الذين وصف صفتهم من حقد وضغينة بعضهم لبعض... عن ابن عيينة: "وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ" قال: من عداوة... واختلف أهل التأويل في الحال التي ينزع الله ذلك من صدورهم؛
فقال بعضهم: ينزل ذلك بعد دخولهم الجنة.
وقال بعضهم: ما يشبّه بهم إلا أهل جمعة انصرفوا من جمعتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ونزعنا ما في صدورهم من غل} في الآخرة. قال بعضهم: هو صلة قوله: {إن المتقين في جنات وعيون}، أي نزعنا ما في صدورهم من الغل الذي كان في الدنيا بالكفر فصاروا {إخوانا} بالإسلام الذي هداهم الله إليه، فكانوا إخوانا. ثم قيل لهم: ادخلوا الجنة بلا غل، وهو ما قال: {فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} (آل عمران: 103) قد نزع من قلوبهم الغل في الدنيا، فصاروا إخوانا، فدخلوا الجنة. وقال بعضهم: قوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} في الآخرة، إذا دخلوا الجنة، وتقابلوا، واتكأوا على سرر، فعند ذلك ينزع الغل من قلوبهم، والمظالم التي كانت بينهم. فإن كان هذا فهو بين أهل الإسلام. وعلى ذلك يحتمل أن يكون: من جفا آخر في الدنيا أن ينسي الله ذلك منه في الجنة، لأن ذكر الجفاء ينغص النعم التي فيها. وكذلك ما يكون بين الرجل وولده من الجفاء والعقوق، يجوز أن ينسي الله ذلك منهما. وعلى ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير.
{ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين}:
قال بعضهم: يجعل الله منازلهم بعضا مقابل بعض، فينظر بعضهم إلى بعض، ويزور بعضهم بعضا.
وقال بعضهم: يأمر الله السرر التي هم عليها جلوس ليكون بعضها مقابل بعض؛ إذا اشتهى بعضهم زيارة بعض، ولا يكونون مدبرين ولا معرضين بل مقبلين. يخبر عن اجتماعهم في الآخرة في الشراب وأنواع المطاعم على ما يستحسن في الدنيا الإخوان بينهم الاجتماع على الشراب والطعام والتلذذ والنظر بعضهم إلى بعض، فعلى ذلك أخبر أن لهم في الآخرة اجتماعا في الشراب والنظر وأنواع التلذذ، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... الغل: الحقد الذي ينعقد في القلب، ومنه الغل الذي يجعل في العنق، والغلول: الخيانة التي يطوق عارها صاحبها، فبين تعالى أن الأحقاد التي في صدور أهل الدنيا تزول بين أهل الجنة ويصبحون "إخوانا "متحابين "على سرر" وهي جمع سرير، وهو المجلس الرفيع موطأ للسرور... وهو مأخوذ من السرور، لأنه مجلس سرور، "متقابلين" أي: كل واحد منهم مقابل لصاحبه ومحاذ لأخيه، فإنه بذلك يعظم سرورهم. والتقابل: وضع كل واحد بإزاء الآخر على التشاكل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَمَرَ الخليلَ عليه السلام ببناء الكعبة وتطهيرها فقال: {وَطَهِّرْ بيتي} [الحج:26]، وأَمَرَ جبريلَ عليه السلام حتى غَسَلَ قلبَ المصطفى – صلى الله عليه وسلم -فَطَهَّرَهِ. وتولّى هو- سبحانه -بنفسه تطهيرَ قلوب العاصين، فقال: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر:47] وذلك رفقاً بهم، فقد يصنع الله بالضعيف ما يتعجَّبُ منه القوي، ولو وكل تطهير قلوبهم إلى الملائكة لاشتهرت عيوبُهم، فتولَّى ذلك بنفسه رفقاً بهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقيل: معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، ونزع منها كل غل، وألقى فيها التوادّ والتحاب..
{على سُرُرٍ متقابلين} كذلك. وعن مجاهد. تدور بهم الأسرة حيثما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وذكر الله تعالى في هذه الآية أنه ينزع الغل من قلوب أهل الجنة، ولم يذكر لذلك موطناً، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط، وجاء في بعضها أن ذلك على أبواب الجنة، وفي لفظ بعضها أن الغل ليبقى على أبواب الجنة كمعاطن الإبل... والذي يقال في هذا أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين...
{إخوانا}... وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}...
واعلم أن للثواب أربع شرائط: وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة؛
أما القيد الأول: وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله: {إن المتقين في جنات وعيون}.
وأما القيد الثاني: وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله: {ادخلوها بسلام آمنين} لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال.
وأما القيد الثالث: وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر، فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية، وإما أن تكون جسمانية، أما المضار الروحانية فهي الحقد، والحسد، والغل، والغضب، وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} إشارة إلى نفي المضار الروحانية.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} أي حقد، وأصله على ما قيل من الغلالة وهو ما يلبس بين الثوبين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما يستعار الدرع لها، وقيل: قيل للحقد غل أخذاً له من انغل في كذا وتغلل إذا دخل فيه، ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر غلل، وقد يستعمل الغل فيما يضمر في القلب مما يذم كالحسد والحقد وغيرهما...
والآية ظاهرة في وجود الغل في صدورهم قبل النزع، فتأمل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ونزعنا ما في صدورهم من غل)، في مقابل الحقد الذي يغلي به صدر إبليس فيما سلف من السياق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة ونزعنا ما في صدورهم من غل} عطف على الخبر، وهو {في جنات وعيون}. والتقدير: إن المتقين نزعنا ما في صدورهم من غِلّ. والغِلّ بكسر الغين البغض. وتقدم في قوله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ تجري من تحتهم الأنهار} في سورة الأعراف (43)، أي ما كان بين بعضهم من غلّ في الدنيا. و {إخواناً} حال، وهو على معنى التشبيه، أي كالإخوان، أي كحال الإخوان في الدنيا. وأول من يدخل في هذا العموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم من الحوادث الدافع إليها اختلاف الاجتهاد في إقامة مصالح المسلمين، والشدة في إقامة الحق على حسب اجتهادهم.
والسرر: جمع سرير. وهو محمل كالكرسي متّسع يمكن الاضطجاع عليه. والاتّكاء: مجلس أصحاب الدعة والرفاهية لتمكن الجالس عليه من التقلّب كيف شاء حتى إذا ملّ جِلسة انقلب لغيرها. والتقابل: كون الواحد قبالة غيره، وهو أدخل في التأنس بالرؤية والمحَادثة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهناك راحة نفسية، وهي أبرك النعم بعد الأمن، أشار إليه سبحانه بقوله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} نزع الله تعالى ما في النفوس من الغل الذي يتكون من الحقد، والحسد وحب الاستعلاء؛ لأنه سبب في شقاء الدنيا، فالناس يشقون إذا ملأ الحقد والحسد قلوبهم، فالحاسد في هم دائم، وتعب ملازم، وكلما تكاثرت النعم على المحسود تفاقمت النقم على الحاسد، ومن كان في قلبه حقد أوجب انتقاما، فهو يضم بين جنبيه نارا تلهب دائما، وتؤجج أضغان القلوب. وقد صور النفوس المطمئنة فقال: {إخوانا على سرر متقابلين}، أي جالسين على سرر جمع سرير، متقابلين بوجوه مقبلة فرحة مستبشرة، وهذه نعمة أخرى من أجل النعم الإنسانية وهي نعمة الأخوة والمحبة المتوادة المتراحمة..
...كلمة "نزعنا "تدل على أن تغلغل العمليات الحقدية في النفوس يكون عميقاً، وأن خلعها في اليوم الآخر يكون خلعاً من الجذور، وينظر المؤمن إلى المؤمن مثله؛ والذي عاداه في الدنيا نظرته إلى محسن له؛ لأنه بالعداوة والمنافسة جعله يخاف أن يقع عيب منه. ذلك أن المؤمن في الآخرة يذكر معطيات الأشياء، ويجعلهم الحق سبحانه إخواناً؛ فرب أخ لك لم تلده أمك، والحق سبحانه هو القائل في موقع آخر: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} (سورة آل عمران 103).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أي من حقد، فأهل الجنة يعيشون المحبة بعيداً عن الحقد، لأن الحقد لا مكان له في النفس المؤمنة، لا سيما في رحاب الجنة التي تتسع لتطلعات كل الناس ومشتهياتهم، فلا تخص بذلك، من أهلها، قوماً دون قوم، ليتنازعوا على ما فيها كما كانوا يتنازعون في الدنيا، ولا تضيق بجماعةٍ دون جماعةٍ، ليتزاحم الناس على هذا الموقع أو ذاك، كما كانوا يفعلون في الدنيا، فيؤدّي بهم ذلك إلى العداوة والبغضاء. وهكذا يعيشون الانفتاح الروحي على مجتمعهم كله، ويلتقون في مواقع المحبة والرحمة {إِخْوَانًا} بما توحيه الأخوّة من معاني الإخلاص والحب والمواساة والعطف والحنان {عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} في جوّ من الانفتاح الكامل على بعضهم البعض، فلا حجاب يحجبهم في حياتهم، ولا حواجز تحجز أحدهم عن الآخر..