وعلى كل ، فالنفس آية كبيرة من آياته التي حقيقة بالإقسام بها{[1437]} فإنها في غاية اللطف والخفة ، سريعة التنقل [ والحركة ] والتغير والتأثر والانفعالات النفسية ، من الهم ، والإرادة ، والقصد ، والحب ، والبغض ، وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه ، وتسويتها على هذا الوجه{[1438]} آية من آيات الله العظيمة .
{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }
والإِلهام : هو التعريف والإِفهام للشئ ، أو التمكين من فعله أو تركه ، والفجور : فعل ما يؤدى إلى الخسران والشقاء . والتقوى : هى الإِتيان بالأقوال والأفعال التى ترضى الله - تعالى - وتصون الإِنسان من غضبه -عز وجل - .
أى : فعرف - سبحانه - النفس الإِنسان و ألهمها وأفهمها معنى الفجور والتقوى ، وبين لها حالهما ، ووضح لها ما ينبغى أن تفعله وما ينبغى أن تتركه ، من خير أو شر ، ومن طاعة أو معصية ، بحيث يتميز عندها الرشد من الغى ، والخبيث من الطيب .
ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } وقوله - عز وجل - : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } وقدم - سبحانه - هنا الفجور على التقوى ، مراعاة لأحوال المخاطبين بهذه السورة ، وهم كفار قريش ، الذين كانت أعمالهم قائمة على الفجور والخسران ، بسبب إعراضهم عما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من حق وبر .
يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ) . . ويعبر عنها بالهداية تارة : ( وهديناه النجدين ) . . فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد . . والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك . ولكنها لا تخلقها خلقا . لأنها مخلوقة فطرة ، وكائنة طبعا ، وكامنة إلهاما .
وقوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } أي : فأرشدها إلى فجورها وتقواها ، أي : بين لها ذلك ، وهداها إلى ما قدر لها .
قال ابن عباس : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } بين لها الخير والشر . وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والثوري .
وقال سعيد بن جبير : ألهمها الخير والشر . وقال ابن زيد : جعل فيها فجورها وتقواها .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل قالا حدثنا عَزْرَة بن ثابت ، حدثني يحيى بن عقيل ، عن يحيى بن يَعْمَر ، عن أبي الأسود الدّيلي{[30130]} قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل فيه الناس ويتكادحون فيه ، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قَدَر قد سبق ، أو فيما يُستَقبَلُون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وأكدت عليهم الحجة ؟ قلت : بل شيء قضي{[30131]} عليهم . قال : فهل يكون ذلك ظلمًا ؟ قال : ففزعت منه فزعًا شديدًا ، قال : قلت له : ليس شيء إلا وهو خَلقُه وملْك يَده ، لا يسألُ عما يفعل وهم يسألون . قال : سددك الله ، إنما سألت لأخبر{[30132]} عقلك ، إن رجلا من مُزَينة - أو جهينة - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون ، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قَدر قد سبق ، أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم ، وأكدت به عليهم الحجة ؟ قال : " بل شيء قد قضي{[30133]} عليهم " . قال : ففيم نعمل ؟ قال : " من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يُهَيِّئه لها ، وتصديق ذلك في كتاب الله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }
رواه أحمد ومسلم ، من حديث عَزْرَة بن ثابت به{[30134]} .
وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } يحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى نفسه ، أي : بطاعة الله - كما قال قتادة - وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل . ويُروَى نحوه عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير . وكقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [ الأعلى : 14 ، 15 ] .
{ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } أي : دسسها ، أي : أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهُدَى ، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل .
وقد يحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى الله نفسه ، وقد خاب من دَسَّى الله نفسه ، كما قال{[30135]} العوفي وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي وأبو زُرْعَة قالا حدثنا سهل{[30136]} بن عثمان ، حدثنا أبو مالك - يعني عمرو بن هشام - عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قول الله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أفلحت نفس زكاها الله " {[30137]} .
ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي مالك ، به . وجويبر [ هذا ]{[30138]} هو ابن سعيد ، متروك الحديث ، والضحاك لم يلق ابن عباس .
وقال الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الآية : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } وقف ، ثم قال : " اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وخير من زكاها " {[30139]} .
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يعقوب بن حميد المدني ، حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي ، حدثنا مَعْن بن محمد الغفاري ، عن حنظلة بن علي الأسلمي ، عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قال : " اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها " {[30140]} لم يخرجوه من هذا الوجه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن نافع - عن ابن عمر - عن صالح بن سُعَيد ، عن عائشة : أنها فَقَدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه ، فلمسته بيدها ، فوقعت{[30141]} عليه وهو ساجد ، وهو يقول : " رب ، أعط نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها " {[30142]} تفرد به .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عاصم الأحول ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم ، إني أعوذ بك من العجز والكَسَل والهرم ، والجُبن والبخل وعذاب القبر . اللهم ، آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم ، إني أعوذ بك من قَلْب لا يخشع ، ومن نَفْس لا تشبع ، وعِلْم لا ينفع ، ودعوة لا يستجاب لها " . قال زيد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكوهن .
رواه مسلم من حديث أبي معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن الحارث - وأبي عثمان النهدي ، عن زيد بن أرقم ، به{[30143]} .
وقوله : فألهَمها فُجُورَها وتَقْوَاها يقول تعالى ذكره : فبين لها ما ينبغي لها أن تأتي أو تذر من خير ، أو شرّ أو طاعة ، أو معصية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها يقول : بَيّنَ الخيرَ والشرّ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فأَلهَمها فُجُورَها وَتَقْوَاها يقول : بيّن الخيرَ والشرّ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها قال : علّمها الطاعة والمعصية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها قال : عَرّفها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها : فبَيّن لها فجورها وتقواها .
وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها ، بيّن لها الطاعةَ والمعصيةَ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مِهْران ، عن سفيان فأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها قال : أعلمها المعصيةَ والطاعةَ .
قال : ثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن الضحاك بن مزاحم فأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها قال : الطاعةَ والمعصيةَ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن الله جعل فيها ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها قال : جعل فيها فجورَها وتقواها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل ، قالا : حدثنا عزرة بن ثابت ، قال : ثني يحيى بن عقيل ، عن يحيى بن يَعْمَر ، عن أبي الأسود الدّيليّ ، قال : قال لي عمران بن حُصين : أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه ، أشيء قُضِيَ عليهم ، ومضى عليهم من قَدَرٍ قد سبق ، أو فيما يستقبلون ، مما أتاهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام ، وأكدت عليهم الحجة ؟ قلت : بل شيء قُضِيَ عليهم ، قال : فهل يكون ذلك ظلما ؟ قال : ففزعت منه فزعا شديدا ، قال : قلت له : ليس شيء إلا وهو خَلْقُه ، ومِلْكُ يده ، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون . قال : سدّدك الله ، إنما سألتك «أظنه أنا » لأخْبُرَ عقلك . إن رجلاً من مُزَينة أو جهينة ، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أرأيتَ ما يعملُ الناس فيه ويتكادحون : أشيء قضي عليهم ، ومضى عليهم من قَدَرٍ سبق ، أو فيما يستقبلون ، مما أتاهم به نبيهم عليه السلام ، وأكّدت به عليهم الحجة ؟ قال : «فِي شَيْءٍ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ » قال : ففيم نعملُ ؟ قال : «مَنْ كانَ اللّهُ خَلَقَهُ لإِحْدَى المَنْزِلَتَينِ يُهَيّئُهُ لَهَا ، وَتَصْدِيقُ ذلكَ فِي كِتابِ اللّهِ : وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فأَلَهَمها فُجُورَها وَتَقْوَاها » .
وعطف { فألهمها فجورها وتقواها } على { سواها } ، فهو مقسم به ، وفعل « ألهمها » في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة { ما } المصدرية ، وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشىء عن التسوية ، فضمير الرفع في « ألهمها » عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من { سواها } ويجوز أن تكون { ما } موصولة صادقة على فعل الله تعالى ، وجملة { بناها } صلة الموصول ، أي والبناءِ الذي بنَى السماء ، والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس .
فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإِلهام .
والإِلهام : مصدر ألهم ، وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجردَ منه مُمات والإِلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهداً له من كلام العرب .
ويطلق الإِلهام إطلاقاً خاصاً على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانياً كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية ، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية والنظرية .
وإيثار هذا الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإِنسان ، قال الراغب : الإِلهام : إيقاع الشيء في الرُوع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وَجهة الملأ الأعلى ا ه . ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواجُ أمثال ذلك في اللغة قبل الإِسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب ، وهو مشتق من اللّهْم وهو البلْع دَفعةً ، يقال : لَهِم كفرح ، وأما إطلاق الإِلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية .
والمعنى هنا : أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإِدراك الضروري المدرَّج ابتداء من الانسياق الجِبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة ، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يُكره ، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي ، وكل ذلك إلهام .
وتعدية الإِلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية ، فلولا العقول لما تيسّر إفهامُ الإِنسان الفجور والتقوى ، والعقابَ والثواب .
وتقديم الفجور على التقوى مراعىً فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون ، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم ، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ .
ومجيء فعل : « ألهمها » بصيغة الإِسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ { ما } إن جعلتَها موصولة .