تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (41)

{ 41 } { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

أي : استعلن الفساد في البر والبحر أي : فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها ، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك ، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها .

هذه المذكورة { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } أي : ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت ، فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم . فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (41)

وبعد هذا التوجيه الحكيم ، يسوق - سبحانه - الآثار السيئة التى ترتب على الكفر والمعاصى ، ويأمر بالاعتبار بالسابقين ، ويبين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار فيقول : { ظَهَرَ الفساد فِي البر . . . لاَ يُحِبُّ الكافرين } .

قال ابن كثير ما ملخصه : قال ابن عباس وغيره : المراد بالبر ها هنا ، الفيافى . وبالبحر : الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر .

وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف . وبالبحر المعروف .

والقول الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره ابن إسحاق فى السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح ملك أيلة ، وكتب به ببحره - يعنى ببلده - .

والمعنى : ظهر الفساد فى البر والبحر ، ومن مظاهر ذلك انتشار الشرك والظلم ، والقتل وسفك الدماء ، والأحقاد والعدوان ، ونقص البركة فى الزروع والثمار والمطاعم والمشارب ، وغير ذلك مما هو مفسدة وليس بمنفعة . .

قال ابن كثير - رحمه الله - : وقال أبو العالية : من عصى الله فى الأرض فقد أفسد فيها ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ، ولهذا جاء الحديث الذى رواه أبو داود : " الحد يقام فى الأرض ، أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً " .

والسبب فى هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس ، أو أكثرهم ، أو كثير منهم ، عن تعاطى المحرمات . وإذا ارتكبت المعاصى كان سبباً فى محق البركات . . وكلما أقيم العدل كثرت البركات والخيرات . وقد ثبت فى الحديث الصحيح : " إن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب " .

وقوله - تعالى - : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } بيان لسبب ظهور الفساد . أى : عم الفساد وطم البر والبحر ، بسبب اقتراف الناس للمعاصى . وانهماكهم فى الشهوات ، وتفلتهم من كل ما أمرهم الله - تعالى - به ، أو نهاهم عنه ، كما قال - تعالى - : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فظهور الفساد وانتشاره ، لا يتم عبثاً أو اعتباطاً ، وإنما يتم بسبب إعراض الناس عن طاعة الله - تعالى - ، وارتكابهم للمعاصى . .

ثم بين - سبحانه - ما ترتب على الوقوع فى المعاصى من بلاء واختبار ، فقال : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .

واللام فى " ليذيقهم " للتعليل وهى متعلقة بظهر . أى : ظهر الفساد . . ليذيق - سبحانه - الناس نتائج بعض اعمالهم السيئة ، كى يرجعوا عن غيرهم وفسقهم ، ويعودوا إلى الطاعة والتوبة .

ويجوز ان تكون متعلقة بمحذوف ، اى : عاقبهم بانتشار الفساد بينهم ، ليجعلهم يحسون بسوء عاقبة الولوغ فى المعاصى ، ولعلهم يرجعون عنها ، إلى الطاعة والعمل الصالح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (41)

33

ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد ، ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد ، ويجعله مسيطرا على أقدارها ، غالبا عليها :

( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) . .

فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا ، ولا يقع مصادفة ؛ إنما هو تدبير الله وسنته . . ( ليذيقهم بعض الذي عملوا )من الشر والفساد ، حينما يكتوون بناره ، ويتألمون لما يصيبهم منه : ( لعلهم يرجعون )فيعزمون على مقاومة الفساد ، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (41)

قال ابن عباس ، وعِكْرِمة ، والضحاك ، والسُّدِّي ، وغيرهم : المراد بالبر هاهنا : الفَيَافي ، وبالبحر : الأمصار والقرى ، وفي رواية عن ابن عباس وعَكرمة : البحر : الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر .

وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف ، وبالبحر : البحر المعروف .

وقال زيد{[22871]} بن رُفَيْع : { ظَهَرَ الْفَسَادُ } يعني : انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط ، وعن البحر تعمى{[22872]} دوابه . رواه ابن أبي حاتم .

وقال : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، عن سفيان ، عن حميد بن قيس الأعرج ، عن مجاهد : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ، قال : فساد البر : قتل ابن آدم ، وفساد{[22873]} البحر : أخذ السفينة غصبا .

وقال عطاء الخراساني : المراد بالبر : ما فيه من المدائن والقرى ، وبالبحر : جزائره .

والقول الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم صَالَح ملك أيلة ، وكتب إليه ببحره ، يعني : ببلده .

ومعنى قوله تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } أي : بان النقص في {[22874]} الثمار والزروع بسبب المعاصي .

وقال أبو العالية : مَنْ عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض ؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : " لَحَدٌّ يقام في الأرض أحبّ إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " {[22875]} . والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس - أو أكثرهم ، أو كثير منهم - عن تعاطي المحرمات ، وإذا ارتكبت المعاصي كان سببا في محاق {[22876]} البركات من السماء والأرض ؛ ولهذا إذا نزل عيسى [ ابن مريم ]{[22877]} عليه السلام ، في آخر الزمان فحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت ، من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية ، وهو تركها - فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف ، فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج ، قيل للأرض : أخرجي بركاتك . فيأكل من الرمانة الفئَام من الناس ، ويستظلون بقَحْفها ، ويكفي لبن اللّقحة الجماعةَ من الناس . وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير ؛ [ ولهذا ]{[22878]} ثبت في الصحيح :{[22879]} " إنَّ الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد ، والشجر والدواب " {[22880]} .

ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا محمد والحسين قالا حدثنا عَوْف ، عن أبي قحذم قال{[22881]} : وجد رجل في زمان زياد - أو : ابن زياد - صرة فيها حَبّ ، يعني من بر أمثال النوى ، عليه مكتوب : هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل{[22882]} .

وروى مالك ، عن زيد بن أسلم : أن المراد بالفساد هاهنا الشرك . وفيه نظر .

وقوله : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات ، اختبارا منه ، ومجازاة على صنيعهم ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن المعاصي ، كما قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] .


[22871]:- في أ "يزيد".
[22872]:- في ت، ف: "يعني".
[22873]:- في ت، ف: "وفي".
[22874]:- في ت: "من".
[22875]:- رواه أحمد في المسند (2/362) والنسائي في السنن (8/75) من حديث أبي هريرة، ولم يقع لي في سنن أبي داود.
[22876]:- في ت، ف، أ: "حصول".
[22877]:- زيادة من ت، ف، أ.
[22878]:- زيادة من أ.
[22879]:- في ت، أ: "الصحيحين".
[22880]:- صحيح البخاري برقم (6512).
[22881]:- في ت: "وروى أنه".
[22882]:- المسند (2/296).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (41)

القول في تأويل قوله تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } .

يقول تعالى ذكره : ظهرت المعاصي في برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه .

واختلف أهل التأويل في المراد من قوله : ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ فقال بعضهم : عنى بالبَرّ : الفلوات ، وبالبحر : الأمصار والقُرى التي على المياه والأنهار . ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عَثّام ، قال : حدثنا النضْر بن عربيّ ، عن مجاهد وَإذَا تَوَلّى سَعَى فِي الأرْض لِيُفْسِدَ فِيها . . . الاَية ، قال : إذا ولي سعى بالتعدّي والظلم ، فيحبس الله القطر ، ف يُهْلِكَ الحَرْثَ والنّسْلَ ، وَاللّهُ لا يُحِبّ الفَسادَ قال : ثم قرأ مجاهد : ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ . . . الاَية قال : ثم قال : أما والله ما هو بحرُكم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضْر بن عربيّ ، عن عكرمة ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ قال : أَمَا إني لا أقول بحرُكم هذا ، ولكن كلّ قرية على ماء جار .

قال : ثنا يزيد بن هارون ، عن عمرو بن فَرّوخ ، عن حبيب بن الزبير ، عن عكرمة ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ قال : إن العرب تسمي الأمصار بحرا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ قال : هذا قبل أن يَبعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، امتلأت ضلالة وظلما ، فلما بعث الله نبيه ، رجع راجعون من الناس .

قوله : ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ أما البرّ فأهل العمود ، وأما البحر فأهل القُرَى والريف .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ قال : الذنوب ، وقرأ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُوا لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، في قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ قال : أفسدهم الله بذنوبهم ، في بحر الأرض وبرها ، بأعمالهم الخبيثة .

وقال آخرون : بل عُنِي بالبرّ : ظهر الأرض ، الأمصار وغيرها ، وبالبحر البحر المعروف . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ظَهَر الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ : قال : في البرّ : ابن آدم الذي قتل أخاه ، وفي البحر : الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا .

حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر : يعني ابن عُلَيّة ، قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ قال : بقتل ابن آدم ، والذي كان يأخذ كل سفينة غصبا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن فضيل بن مرْزوق ، عن عطية ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ قال : قلت : هذا البرّ والبحر أيّ فساد فيه ؟ قال : فقال : إذا قلّ المطر ، قل الغَوْص .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ قال : قتل ابن آدم أخاه ، والبحر : قال : أخذ الملك السفن غَصْبا .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن الله تعالى ذكره ، أخبر أن الفساد قد ظهر في البرّ والبحر عند العرب في الأرض القفار ، والبحر بحران : بحر ملح ، وبحر عذب ، فهما جميعا عندهم بحر ، ولم يخصص جلّ ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر ، فذلك على ما وقع عليه اسم بحر ، عذبا كان أو ملحا . وإذا كان ذلك كذلك ، دخل القرى التي على الأنهار والبحار .

فتأويل الكلام إذن إذ كان الأمر كما وصفت ، ظهرت معاصي الله في كل مكان ، من برّ وبحر بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ : أي بذنوب الناس ، وانتشر الظلم فيهما .

وقوله : ولِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُوا يقول جلّ ثناؤه : ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا ، ومعصيتهم التي عَصَوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول : كي ينيبوا إلى الحقّ ، ويرجعوا إلى التوبة ، ويتركوا معاصيَ الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن لَعلّهُم يَرْجِعُونَ قال : يتوبون .

قال : ثنا ابن مهديّ ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ يوم بدر ، لعلهم يتوبون .

قال : ثنا أبو أُسامة ، عن زائدة ، عن منصور عن إبراهيم لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال : إلى الحقّ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ : لعلّ راجعا أن يرجع ، لعل تائبا أن يتوب ، لعلّ مستعتبا أن يستعتب .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال : يرجع مَنْ بعدَهم .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لِيُذِيقَهمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار لِيُذِيقَهُمْ بالياء ، بمعنى : ليذيقهم الله بعض الذي عملوا ، وذُكر أن أبا عبد الرحمن السّلَمي قرأ ذلك بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه بذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (41)

ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي في قوله { ظهر الفساد في البر والبحر } ، واختلف الناس في معنى { البر والبحر } في هذه الآية ، فقال مجاهد { البر } البلاد البعيدة من البحر ، و { البحر } السواحل والمدن التي على ضفة البحر والأنهار الكبار ، وقال قتادة { البر } الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري ، و { البحر } المدن جمع بحرة{[9320]} .

قال الفقيه الإمام القاضي : ومنه قول سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه " الحديث{[9321]} ، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ «في البر والبحور »{[9322]} ، ورويت عن ابن عباس ، وقال مجاهد أيضاً : ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه ، وفي البحر أخذ السفن غضباً ، وقال بعض العباد { البر } اللسان و { البحر } القلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن { البر والبحر } هما المعروفان المشهوران في اللغة .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتغلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر ، قال ابن عباس : الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه ، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة ، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد كان الظلم عم الأرض براً وبحراً ، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى ، وقوله تعالى : { بما كسبت } تقديره جزاء ما كسبت ، ويحتمل أن تتعلق الباء ب { ظهر } أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر ، والترجي في «لعل » هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور ، وقرأ عامة القراء والناس «ليذيقهم » بالياء ، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي «لنذيقهم » بالنون{[9323]} ومعناهما بين ، وقرأ أيضاً أبو عبد الرحمن «لتذيقهم » بالتاء من فوق .


[9320]:في (اللسان- بحر): "العرب تقول لكل قرية: هذه بحرتنا، والبحرة : الأرض والبلدة، وفي حديث القسامة: قتل رجلا ببحرة الرعاء، والبحرة: البلدة، وفي حديث عبد الله بن أبي: اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة". ويتضح من هذا أن البحرة هي البلدة، وأنها تصغر على بحيرة، ولكن لم نجد أن البحر جمع لها.
[9321]:أخرجه البخاري في التفسير، والأدب، والاستئذان، ومسلم في الجهاد، وأحمد في المسند 5-203، ولفظه كما في المسند عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله بن أبي: أيها المرء لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقا فلا تؤذينا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه، قال عبد الله ابن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال: أي سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي، قال كذا وكذا، قال: اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك، فذاك فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
[9322]:أي بالجمع كما نص على ذلك في البحر المحيط.
[9323]:وهي أيضا قراءة أبي حيوة، وسلام ، وسهل، وروح، وابن حسان. وهي قراءة قنبل من طريق ابن مجاهد، وابن الصباح، وأبو الفضل الواسطي عنه، ومحبوب عن أبي عمرو.