{ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا } أي : حجة ظاهرة { فَهُوَ } أي : ذلك السلطان ، { يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } ويقول لهم : اثبتوا على شرككم واستمروا على شككم فإن ما أنتم عليه هو الحق وما دعتكم الرسل إليه باطل .
فهل ذلك السلطان موجود عندهم حتى يوجب لهم شدة التمسك بالشرك ؟ أم البراهين العقلية والسمعية والكتب السماوية والرسل الكرام وسادات الأنام ، قد نهوا أشد النهي عن ذلك وحذروا من سلوك طرقه الموصلة إليه وحكموا بفساد عقل ودين من ارتكبه ؟ .
فشرك هؤلاء بغير حجة ولا برهان وإنما هو أهواء النفوس ، ونزغات الشيطان .
وقوله - تعالى - { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } التفات من الخطاب إلى الغيبة ، على سبيل التحقير لهم ، والتهوين من شأنهم . والاستفهام للنفى والتوبيخ .
أى : هؤلاء الذين أشركوا معنا غيرنا فى العبادة ، هل نحن أنزلنا عليهم حجة ذات قوم وسلطان تشهد لهم بأن شركهم لا يخالف الحق ، وتنطق بأن كفرهم لا غبار عليه ؟
كلا ، إننا ما أنزلنا عليهم شيئا من ذلك ، وإنما هم الذين وقعوا فى الشرك ، بغير علم ، ولا هدى ولا كتاب منير .
فالآية الكريمة تتهكم بهم لسفههم وجهلهم ، وتنفى أن يكون شركهم مبنيا على دليل أو ما شبه الدليل ، أو أن يكون هناك من أمرهم به سوى تقاليدهم الباطلة ، وأهوائهم الفاسدة وأفكارهم الزائفة .
وبعد هذه المعاجلة بالتهديد الرعيب يعود فيسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به نعمة الله ورحمته ؛ وهذا الكفر الذي ينتهون إليه :
( أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ? ) . .
فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئا في أمر عقيدته إلا من الله . فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه ? وهو سؤال استنكاري تهكمي ، يكشف عن تهافت عقيدة الشرك ، التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل . ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر ، يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله . وما يأتي بسلطان من عنده . وإلا فهو واهن ضعيف .
ثم قال منكرًا على المشركين فيما اختلقوه من عبادة الأوثان بلا دليل ولا حجة ولا برهان . { أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا } أي : حجة { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } أي : ينطق { بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } ؟ وهذا استفهام إنكار ، أي : لم يكن [ لهم ]{[22858]} شيء من ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أم أنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الاَلهة والأوثان ، كتابا بتصديق ما يقولون ، وبحقيقة ما يفعلون فَهُوَ يَتَكَلّمُ بِمَا كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ يقول : فذلك الكتاب ينطق بصحة شركهم وإنما يعني جلّ ثناؤه بذلك : أنه لم يُنْزل بما يقولون ويفعلون كتابا ، ولا أرسل به رسولاً ، وإنما هو شيء افتعلوه واختلقوه ، اتباعا منهم لأهوائهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله أمْ أنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانا فَهُوَ يَتَكَلّمُ بِمَا كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ يقول : أم أنزلنا عليهم كتابا فهو ينطق بشركهم .
{ أمْ } منقطعة ، فهي مثل ( بَل ) للإضراب هو إضراب انتقالي . وإذ كان حرف { أم } حرفَ عطف فيجوز أن يكون ما بعدها إضراباً عن الكلام السابق فهو عطف قصة على قصة بمنزلة ابتداءٍ ، والكلام توبيخ ولوم متصل بالتوبيخ الذي أفاده قوله { فتمتعوا فسوف تعلمون } [ الروم : 34 ] . وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عن مخاطبتكم إلى مخاطبة المسلمين تعجيباً من حال أهل الشرك . ويجوز أن يكون ما بعدها متصلاً بقوله { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم } [ الروم : 29 ] فهو عطف ذَم على ذم وما بينهما اعتراض .
وحيثما وقعت { أمْ } فالاستفهام مقدَّر بعدها لأنها ملازمة لمعنى الاستفهام . فالتقدير : بل أأنزلنا عليهم سلطاناً وهو استفهام إنكاري ، أي ما أنزلنا عليهم سلطاناً ، ومعنى الاستفهام الإنكاري أنه تقرير على الإنكار كأن السائل يسأل المسؤول ليقر بنفي المسؤول عنه .
والسلطان : الحجة . ولما جعل السلطان مفعولاً للإنزال من عند الله تعين أن المراد به كتاب كما قالوا { حتى تنزل علينا كتاباً نَقرؤه } [ الإسراء : 93 ] . ويتعين أن المراد بالتكلم الدلالة بالكتابة كقوله تعالى { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } [ الجاثية : 29 ] ، أي تدل كتابته ، أي كتب فيه بقلم القدرة أن الشرك حق كقوله تعالى { أم ءاتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون } [ الزخرف : 21 ] . وقدم { به } على { يشركون } للاهتمام بالتنبيه على سبب إشراكهم الداخل في حيز الإنكار للرعاية على الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر شركهم، فقال: {أم أنزلنا} وأم هاهنا صلة على أهل مكة، يعني كفارهم.
{عليهم سلطانا} كتابا من السماء.
{فهو يتكلم} ينطق {بما كانوا به يشركون} ينطق بما يقولون من الشرك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أم أنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الآلهة والأوثان، كتابا بتصديق ما يقولون، وبحقيقة ما يفعلون، "فَهُوَ يَتَكَلّمُ بِمَا كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ "يقول: فذلك الكتاب ينطق بصحة شركهم وإنما يعني جلّ ثناؤه بذلك: أنه لم يُنْزل بما يقولون ويفعلون كتابا، ولا أرسل به رسولاً، وإنما هو شيء افتعلوه واختلقوه، اتباعا منهم لأهوائهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: {أم أنزلنا} بل أنزلنا عليهم سلطانا حججا {فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} أي يبين، ويعلمهم أن الذي هم عليه شرك، ليس بتوحيد لأنهم كانوا يقولون: إنا على التوحيد، وإنما نعبد هذه الأصنام {ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] ونحوه. فيقول: بل أنزلنا عليهم ما يبين، ويعلم أن ذلك شرك، وليس بتوحيد.
ويحتمل وجها آخر؛ وهو أن قوله: {أم أنزلنا عليهم سلطانا} أي ما أنزلنا عليهم سلطانا، فيأمرهم {بما كانوا به يشركون}، إذ كانوا يدعون بذلك أمر الله كقولهم: {والله أمرنا بها} [الأعراف: 28] ففيه وجهان على أولئك الكفرة:
أحدهما: ما ذكرنا أنهم كانوا يدعون بذلك الأمر من الله، فيخبر أنهم كذبة في قولهم: إن الله أمرهم بذلك. بل لم يأمرهم بذلك، ولا أنزل عليهم الكتاب أو السلطان في إباحة ذلك.
والثاني: يذكر سفههم في عبادتهم الأصنام لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويسمونها آلهة بلا سلطان ولا حجة، كانوا يطلبون على ذلك. ثم كانوا يطلبون من الرسول آيات تقهرهم، وتضطرهم على رسالته وما يوعدهم بعد ما آتاهم من الآية ما أعلمهم، وأنبأهم، أنه رسول، فالعبادة أعظم وأكبر للمعبود من الرسالة. فإذا لم تطلبوا لأنفسكم الحجة والآية القاهرة في إباحة ما تعبدون من دون الله فكيف تطلبون من الرسول الآية القاهرة في إثبات الرسالة؟.
وقال بعضهم: {أم أنزلنا عليكم سلطانا} كتابا، فيه عذر لهم، فهو يشهد بما كانوا به يشركون...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً}:... رسولاً، حكاه ابن عيسى محتملاً.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَين أنهم بَنوا على غير أصلٍ طريقَهم، واتبعوا فيما ابتدعوه أهواءهم، وعلى غير شَرعٍ من الله أو حجةٍ أو بيانٍ أَسَّسُوا مذاهبَهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بكتهم بقوله: {هل لكم مما ملكت أيمانكم} ووصل به ما تقدم أنه في غاية التواصل، عاد له ملتفتاً إيذاناً بالتهاون بهم إلى مقام الغيبة إبعاداً لهم عن جنابه حيث جلى لهم هذه الأدلة واستمروا في خطر إغضابه بقوله: {أم أنزلنا} بما لنا من العظمة {عليهم سلطاناً} أي دليلاً واضحاً قاهراً {فهو} أي ذلك السلطان لظهور بيانه {يتكلم} كلاماً مجازياً بدلالته وإفهامه، ويشهد {بما} أي بصحة الذي {كانوا} أي كوناً راسخاً {به} أي خاصة {يشركون} بحيث لم يجدوا بدّاً من متابعته لتزول عنهم الملامة، وهذه العبارة تدل على أنهم لازموا الشرك ملازمة صيرته لهم خلقاً لا ينفك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به نعمة الله ورحمته؛ وهذا الكفر الذي ينتهون إليه.. فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئا في أمر عقيدته إلا من الله. فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه؟ وهو سؤال استنكاري تهكمي، يكشف عن تهافت عقيدة الشرك، التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل. ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر، يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله. وما يأتي بسلطان من عنده. وإلا فهو واهن ضعيف...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والسلطان: الحجة. ولما جعل السلطان مفعولاً للإنزال من عند الله تعين أن المراد به كتاب كما قالوا {حتى تنزل علينا كتاباً نَقرأه} [الإسراء: 93]. ويتعين أن المراد بالتكلم الدلالة بالكتابة كقوله تعالى {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية: 29]، أي تدل كتابته، أي كتب فيه بقلم القدرة أن الشرك حق كقوله تعالى {أم ءاتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون} [الزخرف: 21].
وقدم {به} على {يشركون} للاهتمام بالتنبيه على سبب إشراكهم الداخل في حيز الإنكار للرعاية على الفاصلة...