ثم قال : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }
يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب ، ومنَّ عليهم به منة مطلقة ، أنهم { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أي : يتبعونه حق اتباعه ، والتلاوة : الاتباع ، فيحلون حلاله ، ويحرمون حرامه ، ويعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب ، الذين عرفوا نعمة الله وشكروها ،
وآمنوا بكل الرسل ، ولم يفرقوا بين أحد منهم .
فهؤلاء ، هم المؤمنون حقا ، لا من قال منهم : { نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه }
ولهذا توعدهم بقوله { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وقد تقدم تفسير الآية التي بعدها .
وبعد أن ذكر القرآن في الآيات السابقة أحوال الكافرين من أهل الكتاب أخذ في بيان حال المؤمنين ، فقال : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } .
أي : يقرءونه قراءة حقه ، مصحوبة بضبط لفظه ، وتدبر معانيه ، ولا شك أن ضبط لفظه يقتضي عدم تحريف ما لا يوافق أهواء أهل الكتاب ، كالجمل الواردة في نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تدبره يستدعي اتباعه والعمل به .
وجملة { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } حال من الضمير ( هم ) أو من الكتاب وهذه احلال من قبيل الأحول التي تلابس صاحبها بعد وقوع عاملها ، فإنهم إنما يتلون الكتاب بعد أن يؤتوه . وهي التي تسمى بالحال المقدرة أي : مقدراً وقوعها بعد وقوع عاملها .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب ، مؤمنوا أهل الكتاب . والمراد بالكتاب التوارة والإِنجيل . أو هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب : القرآن .
وأجاز بعضهم أن تكون الآية سيقت مدحاً لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن ، فيكون الضمير في يتلونه القرآن .
وقوله : { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } خبر عن قوله : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } .
وفي ذكر الإشارة ووضعه في صدر الجملة المخبر بها ، زيادة تأكيد لإثبات إيمانهم .
وفي هذه الجملة تعريض بأولئك المعاندين الذين كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونهن من بعد ما عقلوه ، فكاأن الآية التي معنا تقول : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } وكان من حالهم أن قرءوه حق قراءته ، يؤمنون به إيماناً لا ريبه فيه ، بخلاف المعاندين المحرفين للكلم عن مواضعه .
ثم بين - سبحانه - عاقبة الكافرين يكتبه فقال : { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون } .
والكفر بالكتاب يتحقق بتحريفه وإنكار بع ما جاء فيه ، أي ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون في الدنيا حيث لا يعيشون فيها عيش المؤمنين وهم الخاسرون في الآخرة ، إذ سيفونهم ما أعده الله لعباده من نعيم دائم ، ومقام كريم .
والذين يتجردون منهم من الهوى يتلون كتابهم حق تلاوته ، ومن ثم يؤمنون بالحق الذي معك ؛ فأما الذين يكفرون به فهم الخاسرون ، لا أنت ولا المؤمنون !
( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته . أولئك يؤمنون به . ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) . .
وأي خسارة بعد خسارة الإيمان ، أعظم آلاء الله على الناس في هذا الوجود ؟
{ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أُوْلََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله : الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ فقال بعضهم : هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من أصحابه : ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ }هؤلاء أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، آمنوا بكتاب الله وصدّقوا به .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل الذين آمنوا بالله وصدّقوا رُسُلَه ، فأقرّوا بحكم التوراة ، فعملوا بما أمر الله فيها من اتّباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، والتصديق بما جاء به من عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ فاولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ }قال : من كفر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون .
وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة لأن الاَيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين ، وتبديل من بدل منهم كتاب الله ، وتأوّلهم إياه على غير تأويله ، وادّعائهم على الله الأباطيل . ولم يَجْرِ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر ، فيكون قوله : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ } موجها إلى الخبر عنهم ، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها ، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء قصص غيرهم ، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قَصّ الله جل ثناؤه في الآية قبلها والآية بعدها ، وهم أهل الكتابين : التوراة والإنجيل . وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد ، وهو التوراة ، فقرءوه واتبعوا ما فيه ، فصدّقوك وآمنوا بك ، وبما جئت به من عندي ، أولئك يتلونه حقّ تلاوته . وإنما أدخلت الألف واللام في «الكتاب » لأنه معرفة ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أيّ الكتب عنى به .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عزّ وجل : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } فقال بعضهم : معنى ذلك يتبعونه حقّ اتباعه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثني ابن أبي عديّ ، وعبد الأعلى ، وحدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ جميعا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } يتبعونه حَقّ اتباعه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة بمثله .
وحدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة بمثله .
حدثني الحسن بن عمرو العنقزي ، قال : حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يحلون حلاله ويحرّمون حرامه ولا يحرفون .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال أبو مالك : إن ابن عباس قال في : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } فذكر مثله إلا أنه قال : ولا يحرّفونه عن مواضعه .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا المؤمل ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا يزيد ، عن مرّة ، عن عبد الله في قول الله عز وجل :
{ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قال عبد الله بن مسعود : والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرّف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ }أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ، ولا يحرّفه عن مواضعه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا الزبيري ، قال : حدثنا عباد بن العوّام عمن ذكره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَتْلُونَهُ حَق تِلاوَتِهِ } يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاح ، عن عطاء ، بمثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، وحدثني المثنى ، قال : حدثني أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان قالوا جميعا : عن منصور ، عن أبي رزين ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : عَمَلاً به .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن قيس بن سعد : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه ألم تر إلى قوله : وَالقَمَرِ إذَا تَلاها يعني الشمس إذا تبعها القمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء وقيس بن سعد ، عن مجاهد في قوله : { يَتْلُونَهُ حَق تِلاَوَتِهِ } قال : يعملون به حق عمله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد ، قال : يتبعونه حق اتباعه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } يعملون به حقّ عمله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن مجاهد في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثني عمرو ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن أبي أيوب ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن عبد الملك ، عن عطاء قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه ، يعملون به حقّ عمله .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن المبارك ، عن الحسن : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : يعملون بمحكمه ويؤمنون بمُتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ } قال : أحلوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وعملوا بما فيه ، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول : إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ، ويحرّم حرامه ، وأن يقرأه كما أنزله الله عز وجل ، ولا يحرّفه عن مواضعه .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا الحكم بن عطية ، سمعت قتادة يقول : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه ، قال : اتباعه يحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، ويقرءونه كما أنزل .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم عن داود ، عن عكرمة في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } قال : يتبعونه حقّ اتباعه ، أما سمعت قول الله عز وجل : { وَالقَمَرِ إذَا تَلاهَا } ؟ قال : إذا تبعها .
وقال آخرون : { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } : يقرءونه حقّ قراءته .
والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى : يتبعونه حقّ اتباعه ، من قول القائل : ما زلت أتلو أَثَره ، إذا اتبع أثره ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله . وإذا كان ذلك تأويله ، فمعنى الكلام : { الذين آتيناهم الكتاب } يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي ، يتبعون كتابي ( نص مضطرب ) الذي أنزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه ، فيؤمنون به ، ويقرّون بما فيه من نعتك وصفتك ، وأنك رسولي فُرض عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي ، ويعملون بما أحللتُ لهم ، ويجتنبون ما حرّمت عليهم فيه ، ولا يحرّفونه عن مواضعه ولا يبدّلونه ولا يغيرونه كما أنزلته عليهم بتأويل ولا غيره .
أما قوله : { حَقّ تِلاَوَتِهِ } فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به ، كما يقال : إن فلانا لعالم حَقّ عالم ، وكما يقال : إن فلانا لفاضلٌ كلّ فاضل .
وقد اختلف أهل العربية في إضافة «حقّ » إلى المعرفة ، فقال بعض نحويي الكوفة : غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى «أيّ » ، وبمعنى قولك : «أفضل رجل فلان » ، و«أفعل » لا يضاف إلى واحد معرفة لأنه مبعض ، ولا يكون الواحد المبعض معرفة . فأحالوا أن يقال : «مررت بالرجل حقّ الرجل ، ومررت بالرجل جدّ الرجل » ، كما أحالوا «مررت بالرجل أيّ الرجل » ، وأجازوا ذلك في «كل الرجل » و«عين الرجل » و«نفس الرجل » ، وقالوا : إنما أجزنا ذلك لأن هذه الحروف كانت في الأصل توكيدا ، فلما صِرْن مُدوحا تُركن مدوحا على أصولهن في المعرفة . وزعموا أن قوله : يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ إنما جازت إضافته إلى التلاوة ، وهي مضافة إلى معرفة لأن العرب تعتدّ بالهاء إذا عادت إلى نكرة بالنكرة ، فيقولون : «مررت برجل واحد أُمّه ، ونسيج وحده ، وسيد قومه » . قالوا : فكذلك قوله : حَقّ تلاوَته إنما جازت إضافة «حقّ » إلى التلاوة وهي مضافة إلى «الهاء » ، لاعتداد العرب ب«الهاء » التي في نظائرها في عداد النكرات . قالوا : ولو كان ذلك حق التلاوة لوجب أن يكون جائزا : «مررت بالرجل حقّ الرجل » ، فعلى هذا القول تأويل الكلام : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوة .
وقال بعض نحويي البصرة : جائزةٌ إضافةُ حقّ إلى النكرات مع النكرات ، ومع المعارف إلى المعارف وإنما ذلك نظير قول القائل : مررت بالرجل غلام الرجل ، وبرجل غلام رجل . فتأويل الآية على قول هؤلاء : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته .
وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول لأن معنى قوله : حَقّ تِلاَوَتِهِ أيّ تلاوة ، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها . «وأيّ » غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم ، وكذلك «حقّ » غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة ، وإنما أضيف في حقّ تلاوته إلى ما فيه الهاء لما وصفت من العلة التي تقدم بيانها .
القول في تأويل قوله تعالى : { أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } .
قال أبو جعفر : يعني جل ثناءه بقوله : أُولَئِكَ هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته .
وأما قوله : { يُؤْمِنُونَ بِهِ }فإنه يعني يصدّقون به . والهاء التي في قوله «به » عائدة على الهاء التي في «تلاوته » ، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله : { الّذِينَ آتَيْنَاهُم الكِتابَ } فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها ، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها ، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته دون من كان محرّفا لها مبدلاً تأويلها مغيرا سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه .
وإنما وصف جل ثناؤه من وصف بما وصف به من متبعي التوراة ، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم لأن في اتباعها اتباع محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوّته وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم ، وإن في التكذيب بمحمد التكذيب لها . فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم العاملون بما فيها . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } قال : من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، وبالتوراة ، وأن الكافر بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر ، كما قال جل ثناؤه : { ومَنْ يَكْفُرْ بِهِ فاولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ { .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَاولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه من آتاه من المؤمنين حقّ تلاوته . ويعني بقوله جل ثناؤه : { يَكْفُرْ }يجحد ما فيها من فرائض الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه ، ويبدّله ، فيحرّف تأويله ، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله واستبدلوا بها سخط الله وغضبه .
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فأولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ } قال : من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود ، { فَأولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ } .
{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ( 121 )
وقوله تعالى : { الذين آيتناهم الكتاب } الآية ، { الذين } رفع بالابتداء ، و { آيتناهم الكتاب } صلة ، وقال قتادة : المراد ب { الذين } في هذا الموضع من أسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، و { الكتاب } على هذا التأويل القرآن ، وقال ابن زيد : المراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، و { الكتاب } على هذا التأويل التوراة ، و { آتيناهم } معناه أعطيناهم ، وقال قوم : هذا مخصوص في الأربعين الذين وردوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السفينة ، فأثنى الله عليهم ، ويحتمل أن يراد ب { الذين } العموم في مؤمني بني إسرائيل والمؤمنين من العرب ، ويكون { الكتاب } اسم الجنس ، و { يتلونه } معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي ، وقيل { يتلونه } يقرؤونه حق قراءته ، وهذا أيضاً يتضمن الاتباع والامتثال( {[1203]} ) ، و { يتلونه } إذا أريد ب { الذين } الخصوص فيمن اهتدى يصح أن يكون خبر الابتداء ويصح أن يكون { يتلونه } في موضع الحال والخبر { أولئك } ، وإذا أريد ب { الذين } العموم لم يكن الخبر إلا { أولئك } ، و { يتلونه } حال لا يستغنى عنها وفيها الفائدة ، لأنه لو كان الخبر في { يتلونه } لوجب أن يكون كل مؤمن يتلو الكتاب { حق تلاوته }( {[1204]} ) ، و { حق } مصدر ، والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى أفعل ، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرف ، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم رجل واحد أمة ، ونسيج وحده ، والضمير في { به }( {[1205]} ) عائد على { الكتاب } ، وقيل : يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن متبعي التوراة يجدونه فيها فيؤمنون به .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل عندي أن يعود على { الهدى } الذي تقدم( {[1206]} ) ، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في أول لآية وحذر رسوله من اتباع أهوائهم ، وأعلمه بأن { هدى الله هو الهدى } الذي أعطاه وبعثه به ، ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذاك الهدى المقتدون بأنواره ، والضمير في { يكفر به } يحتمل من العود ما ذكر في الأول( {[1207]} ) ، و { فأولئك هم الخاسرون } ابتداء وعماد وخبر ، أو ابتداء وابتداء وخبر ، والثاني خبره خبر الأول ، والخسران نقصان الحظ .