{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } أي : هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا ، ودفع عنهم جدالُكم بعض ما تحذرون{[228]} من العار والفضيحة عند الخَلْق ، فماذا يغني عنهم وينفعهم ؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة ، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ؟ { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ }
فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار ؟ وفي هذه الآية إرشاد{[229]} إلى المقابلة بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل مناهيه ، وبين ما يفوت من ثواب الآخرة أو يحصل من عقوباتها .
فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا فما النفع الذي انتفعت به ؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة ؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران ؟
وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها : هبك فعلت ما اشتهيت فإن لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم والحسرات ، وفوات الثواب وحصول العقاب - ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها . وهذا من أعظم ما ينفع العبدَ تدبرُه ، وهو خاصة العقل الحقيقي . بخلاف الذي{[230]} يدعي العقل ، وليس كذلك ، فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة ، ولو ترتب عليها ما ترتب . والله المستعان .
ثم وبخ - سبحانه - أولئك الذين دافعوا عن الخائنين وجادلوا عنهم بالباطل فقال : { هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } .
أى : ها أنتم أيها المدافعون عن الخائنين كطعمة وأمثاله قد جادلتم عنهم فى الدنيا مبرئين إياهم من الخيانة بدون حق ، فمن ذا الذى يستطيع منكم ان يدافع عنهم أمام الله يوم القيامة ، بل من يكون عليهم يومئذ وكيلا . أى : قائما بتدبير أمورهم ، ومدافعا عنهم ؟ لا شك أنه لن يكون هناك أحد يدافع عنهم يوم القيامة لأن كل إنسان سيجازى بعمله ، ولن ينفعه دفاع المدافعين ، أو جدال المجادلين .
وقوله { هَا } حرف تنبيه . أى المخاطبين على خطئهم فى المجادلة عن السارق ، وقوله { أَنْتُمْ } مبتدأ . وقوله { هؤلاء } منادى بحرف نداء محذوف مبنى على الكسر فى محل نصب . وجملة { جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ } . خبر المبتدأ . وبعضهم أعرب هؤلاء خبر أول . وجعل جملة جادلتهم خبرا ثانيا .
وقوله { جَادَلْتُمْ } من الجدل بمعنى الفتل ومنه رجل مجدول الفتل أى قوى البنية فالجدال معناه تقوية الحجة التى يدافع بها الإِنسان عن نفسه أو عن غيره . وقيل إن الجدال مأخوذ من الجدالة وهى وجه الأرض . فكأن كل واحد من الخصمين يكون كالمضارع الذى يريد أن يلقى صاحبه عليها . ومنه قولهم : تركته مجدلا أى مطروحا على الأرض .
و { أَمْ } فى قوله { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } منقطعة للإِضراب الانتقالى .
والاستفهام إنكارى بمعنى النفى فى الموضعين .
أى لا أحد يجادل عنهم أمام الله - تعالى - ولا أحد يستطيع أن يقوم بتدبير أمورهم يوم القيامة .
{ هَا أَنْتُمْ هََؤُلآءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنْيا } ها أنتم الذين جادلتم يا معشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا . والهاء والميم في قوله : { عَنْهُمْ } من ذكر الخائنين . { فَمَنْ يُجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ } يقول : فمن ذا يخاصم الله عنهم يوم القيامة : أي يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم ، فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم ، ومعاقبهم به . وإنما يعني بذلك أنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم ، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا ، فإنهم سيصيرون في آجل الاَخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلّ بهم من أليم العذاب ونكال العقاب . وأما قوله : { أمّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } فإنه يعني : ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلاً يوم القيامة : أي ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة . وقد بينا معنى الوكالة فيما مضى ، وأنها القيام بأمر من توكل له .
وقوله تعالى : { ها أنتم هؤلاء } قد تقدمت وجوه القراءات فيه في سورة آل عمران ، والخطاب بهذه الآية للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي ، ويندرج طي هذا العموم أهل النازلة ، ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل التعصب في هذه النازلة وهو الأظهر عندي بحكم التأكيد ب { هؤلاء } وهي إشارة إلى حاضرين ، وقد تقدم إعراب مثل هذه الآية في سورة آل عمران ، و «والمجادلة » : المدافعة بالقول وهي من فتل الكلام وليه ، إذ الجدل الفتل{[4276]} ، وقوله تعالى : { فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة } وعيد محض ، أي إن الله يعلم حقيقة الأمر فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره ، كما فعلتم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إذ هو بشر يقضي على نحو ما يسمع .
قوله { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم } استئناف أثاره قوله : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } ، والمخاطب كلّ من يصلح للمخاطبة من المسلمين . والكلام جار مجرى الفرض والتقدير ، أو مجرى التعريض ببعض بني ظَفَر الذين جادلوا عن بني أبيرق .
والقول في تركيب { هأنتم هؤلاء } تقدّم في سورة البقرة ( 85 ) عند قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } وتقدّم نظيره في آل عمران ( 119 ) ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم .
و ( أمْ ) في قوله : { أمَّن يكون عليهم وكيلاً } مُنقطعة للإضراب الانتقالي . و ( مَن ) استفهام مستعمل في الإنكار .
والوكيل مضى الكلام عليه عند قوله تعالى : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } في سورة آل عمران ( 173 ) .