{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
أي : { وَأَلْقَى } الله تعالى لأجل عباده { فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ } وهي : الجبال العظام لئلا تميد بهم وتضطرب بالخلق فيتمكنون من حرث الأرض والبناء والسير عليها ، ومن رحمته تعالى أن جعل فيها أنهارا ، يسوقها من أرض بعيدة إلى أرض مضطرة إليها لسقيهم وسقي مواشيهم وحروثهم ، أنهارا على وجه الأرض ، وأنهارا في بطنها يستخرجونها بحفرها ، حتى يصلوا إليها فيستخرجونها بما سخر الله لهم من الدوالي والآلات ونحوها ، ومن رحمته أن جعل في الأرض سبلا ، أي : طرقا توصل إلى الديار المتنائية { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } السبيل إليها حتى إنك تجد أرضا مشتبكة بالجبال مسلسلة فيها وقد جعل الله فيما بينها منافذ ومسالك للسالكين .
ولفظ : { رواسى } جمع راس من الرسو - بفتح الراء وسكون السين - بمعنى الثبات والتمكن فى المكان ، يقال رسا الشئ يرسو إذا ثبت . وهو صفة لموصوف محذوف . أى : جبالا رواسى .
و { تميد } أى تضطرب وتميل . يقال : ماد الشئ يميد ميدا ، إذا تحرك ، ومادت الأغصان إذا تمايلت أى : وألقى - سبحانه - فى الأرض جبالا ثوابت لكى تقر وتثبت ولا تضطرب .
فقوله { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } تعليل لإِلقاء الجبال فى الأرض .
قال القرطبى : وروى الترمذى بسنده عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتضطرب ، فخلق الجبال عليها فاستقرت ، فعجبت الملائكة من شدة الجبال . قالوا يارب هل من خلقك شئ أشد من الجبال ؟ قال نعم ، الحديد . قالوا يارب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد ؟ قال نعم النار . قالوا يارب فهل من خلقك شئ أشد من النار ؟ قال نعم الماء ، قالوا يارب فهل من خلقك شئ أشد من الماء ؟ قال نعم الريح . قالوا يارب : فهل من خلقك شئ أشد من الريح ؟ قال نعم ، ابن آدم إذا تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله " .
هذا ، ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : { خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ . . } وقوله - تعالى - : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً والجبال أَوْتَاداً } ثم بين - سبحانه - نعما أخرى لما ألقاه فى الأرض فقال : { وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . أى : وجعل فى الأرض { أنهارا } تجرى من مكان إلى آخر ، فهى تنبع فى مواضع . وتصب فى مواضع أخرى ، وفيها نفع عظيم للجميع ، إذ منها يشرب الناس والدواب والأنعام والنبات .
وجعل فيها كذلك طرقا ممهدة ، يسير فيها السائرون من مكان إلى آخر . { لعلكم تهتدون } بتلك السبل إلى المكان الذى تريدون الوصول إليه . بدون تحير أو ضلال .
وقد كرر القرآن الكريم هذا المعنى فى آيات كثيرة ، منها قوله تعالى - : { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }
والفوج الأخير في هذا المقطع من السورة :
( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ، وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) .
فأما الجبال الرواسي فالعلم الحديث يعلل وجودها ولكنه لا يذكر وظيفتها التي يذكرها القرآن هنا يعلل وجودها بنظريات كثيرة متعارضة أهمها أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش ، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه وتتجعد فتكون الجبال والمرتفعات والمنخفضات . ولكن القرآن يذكر أنها تحفظ توازن الأرض . وهذه الوظيفة لم يتعرض لها العلم الحديث .
وفي مقابل الجبال الرواسي يوجه النظر إلى الأنهار الجواري ، والسبل السوالك . والأنهار ذات علاقة طبيعية في المشهد بالجبال ، ففي الجبال في الغالب تكون منابع الأنهار ؛ حيث مساقط الأمطار . والسبل ذات علاقة بالجبال والأنهار . وذات علاقة كذلك بجو الأنعام والأحمال والانتقال .
{ وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن نِعمه عليكم أيها الناس أيضا ، أن ألقى في الأرض رواسي ، وهي جمع راسية ، وهي الثوابت في الأرض من الجبال . وقوله : أنْ تَمِيدَ بِكُمْ يعني : أن لا تميد بكم ، وذلك كقوله : يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا ، والمعنى : أن لا تضلوا . وذلك أنه جلّ ثناؤه أرسى الأرض بالجبال لئلا يميد خلقه الذي على ظهرها ، بل وقد كانت مائدة قبل أن تُرْسى بها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد : أن الله تبارك وتعالى لما خلق الأرض جعلت تمور ، قالت الملائكة : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا فأصبحت صبحا وفيها رواسيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : لما خلق الله الأرض قَمَصَت ، وقالت : أي ربّ أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث ؟ قال : فأرسى الله عليها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان قرارها كاللحم يترجرج .
والميد : هو الاضطراب والتكفؤ ، يقال : مادت السفينة تميد ميدا : إذا تكفأت بأهلها ومالت ، ومنه الميد الذي يعتري راكب البحر ، وهو الدوار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنْ تَمِيدَ بِكُمْ : أن تكفأ بكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : وألْقَى فِي الأرْضِ روَاسِيَ أنْ تَمِيدُ بِكُمْ قال : الجبال أن تميد بكم . قال : قتادة : سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كادت تميد ، فقالوا : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خُلقت الجبال ، فلم تدر الملائكة مم خُلقت الجبال .
وقوله : وأنهَارا يقول : وجعل فيها أنهارا ، فعطف بالأنهار على الرواسي ، وأعمل فيها ما أعمل في الرواسي ، إذ كان مفهوما معنى الكلام والمراد منه وذلك نظير قول الراجز :
تَسْمَعُ في أجْوَافِهِنّ صَوْرَا *** وفي اليَدَيْنِ حَشّةً وبَوْرَا
والحشة : اليُبس ، فعطف بالحشة على الصوت ، والحشة لا تسمع ، إذ كان مفهوما المراد منه وأن معناه وترى في اليدين حَشّةً .
وقوله : وَسُبُلاً وهي جمع سبيل ، كما الطرق جمع طريق . ومعنى الكلام : وجعل لكم أيها الناس في الأرض سُبلاً وفجاجا تسلكونها وتسيرون فيها في حوائجكم وطلب معايشكم رحمة بكم ونعمة منه بذلك عليكم ولو عماها لهلكتم ضلالاً وحيرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : سُبُلاً : أي طرقا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : سُبُلاً قال : طرقا . وقوله لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ يقول : لكي تهتدوا بهذه السبل التي جعلها لكم في الأرض إلى الأماكن التي تقصدون والمواضع التي تريدون ، فلا تضلوا وتتحيروا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.