اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَٰرٗا وَسُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (15)

قوله تعالى : { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُم } والمقصود منه : ذكرُ بعض النعم التي خلقها الله في الأرض ، وتقدم ذكر الرواسي .

قوله { أَن تَمِيدَ بِكُم } أي : كراهة أن تميدَ ، أو لئلاَّ تميد ، أي : تتحرَّك ، والميدُ : هو الاضطرابُ [ والتكفؤ ]{[19746]} ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحرِ : ميدٌ .

قال وهب : " لما خلق الله الأرض جعلت تمورُ ؛ فقالت الملائكة : إنَّ هذه غير مقرَّة أحدٍ على ظهرها ، [ فأصبحت ]{[19747]} وقد أُرسيتْ بالجبالِ ، فلم تدر الملائكة ممَّ خلقت الجبال ؛ كالسفينة إذا ألقيت في الماءِ ، فإنها تميل من جانب إلى جانب ، وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها ، استقرت على وجه الماء " .

قال ابن الخطيب - رحمه الله - وهذا مشكلٌ من وجوهٍ :

الأول : أنَّ هذا التعليل ؛ إمَّا أن يكون مع القولِ بأن حركاتِ هذه الأجسام بطبعها ، أو ليست بطبعها ؛ بل هي واقعةٌ بتحريكِ الفاعل المختارِ ، أمَّا على التقدير الأول فمشكلٌ ؛ لأن الأرض أثقل من الماءِ ، والأثقل من الماء يغوص في الماءِ ، ولا يبقى طافياً عليه ، وإذا لم يبق طافياً ، امتنع أن يقال : إنَّها تميلُ ، وتميدُ وتضطرب ، وهذا بخلاف السفينة ؛ لأنها متخذة من الخشب ، وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء ، فلهذا السَّبب تبقى الخشبةُ طافية على الماء ، [ فحينئذ ]{[19748]} تميل وتميد وتضطرب على وجه الماء ، فإذا أرسيت بالأجرام الثقيلة ، استقرت وسكنت ؛ فافترقا .

وأمَّا على التقدير الثاني : وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب ، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك ، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة ، وليس ههنا طبيعة للأرض ، ولا للماء ، توجب حالة مخصوصة ، فعلى هذا التقدير ؛ علَّة سكون الأرض : هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون .

وعلة كونها مائدة مضطربة : هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة ، وعلى هذا ، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة ، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها ؛ لتبقى ساكنة ؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان ، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء ، والثبات ، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ .

الثاني : أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان ؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل ، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً .

فنقول : فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص ؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين ، فلم لا نقولُ مثله في الأرض ؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن ، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت ؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال ، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين ، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص ، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض ؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً .

الثالث : أنَّ الأرض كلها جسم ، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط ، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس ؟ .

فإن قيل : أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال ، وتظهر تلك الحركات للناس ، فبم تنكرون على من يقول : إنه لولا الجبال لتحركت الأرض ، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ ، لم تقو الريحُ على تحريكها ؟ .

قلنا : تلك البخارات احتبست في [ داخل ]{[19749]} قطعة صغيرة من الأرض ، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ، ظهرت تلك الحركة ، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة ، وإنْ كانت على أسرع الوجوه ، وأقواها ، فكذا ها هنا .

قال ابن الخطيب - رحمه الله- : والذي عندي ههنا أن يقال : ثبت بالدلائل اليقينية أنَّ الأرض كرة ، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة .

وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة ؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية ، خالية عن الخشونات ، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاستدارة بأدنى سبب ؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير : إمَّا أن يجب كونه متحركاً بالاستدارة ؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً ، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [ هذا الوجه ]{[19750]} ، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال ، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم ، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم ، وقوته الشديدة ، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة ، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة ، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ ، والمَيْلِ ، والاضطراب ، بمعنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم .

قوله : " وأنْهَاراً " عطف على " رَواسِيَ " ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ ، وادَّعى ابن عطيَّة رحمه الله : أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ ، أي : وجعل فيها أنهاراً .

وليس كما ذكر .

وقيل : الإلقاءُ معناه الجعلُ ، قال تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } [ فصلت : 10 ] وقدره أبو البقاء : " وشقَّ فيها أنْهاراً " وهو مناسبٌ .

واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة ، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال ، فلهذا [ السبب ] لمَّا ذكر الجبال ، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار .

قوله " وسُبُلاً " أي : وذلَّل ، أو وجعل فيها طرقاً ؛ لتهتدوا بها في أسفاركم ؛ كقوله تعالى : { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ طه : 53 ] إلى ما تريدون .


[19746]:في ب: والحركة.
[19747]:في ب: فأصبحوا.
[19748]:في أ: لا جرم.
[19749]:في أ: خلال.
[19750]:في ب: وجه الماء.