وقوله : { إِيلاَفِهِمْ } بدل أو عطف بيان من قوله { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } ، وهو من أسلوب الإِجمال فالتفصيل للعناية بالخبر ، ليتمكن فى ذهن السامع كما فى قوله - تعالى - : { لعلي أَبْلُغُ الأسباب . أَسْبَابَ السماوات . . . } واللام فى قوله - تعالى - : { لإِيلاَفِ . . . } للتعليل . والجار والمجرور متعلق بقوله - تعالى - : { فَلْيَعْبُدُواْ . . . } وتقدير الكلام : من الواجب على أهل مكة أن يخلصوا العبادة لله - لأنه - سبحانه - هو الذى جمعهم بعد تفرق ، وألف بينهم ، وهيأ لهم رحلتين فيهما ما فيهما من النفع والأمن .
وزيدت الفاء فى قوله - تعالى - : { فَلْيَعْبُدُواْ . . . } لما فى الكلام من معنى الشرط ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن لم تعبدونى من أجل نعمي التى لا تحصى ، فاعبدوني من أجل أني جعلتكم تألفون هاتين الرحلتين النافعتين في أمان واطمئنان ، وأني جمعت شملكم ، وألفت بينكم . .
قال صاحب الكشاف : { لإِيلاف قريش } متعلق بقوله : { فَلْيَعْبُدُواْ } أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحتلين .
فإن قلت : فلم دخلت الفاء ؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط ، لأن المعنى : إما لا فليعبدوه لإِيلافهم . على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه الواحدة التى هي نعمة ظاهرة .
وقيل المعنى : اعجبوا لإِيلاف قريش . وقيل : هو متعلق بما قبله - في السورة السابقة - أي : فجعلهم كعصف مأكول . لإِيلاف قريش ، وهذا بمنزلة التضمين فى الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله . .
وقوله - سبحانه - : { رِحْلَةَ الشتآء والصيف } بيان لمظهر من مظاهر هذا الإِيلاف الذى منحه - سبحانه - لهم ، والرحلة هنا : اسم لارتحال القوم من مكان إلى آخر ، ولفظ " رحلة " منصوب على أنه مفعول به لقوله { إِيلاَفِهِمْ } . .
والمراد بهذه الرحلة : ارتحالهم فى الشتاء إلى بلاد اليمن ، وفي الصيف إلى بلاد الشام ، من أجل التجارة ، واجتلاب الربح ، واستدرار الرزق ، والاستكثار من القوت واللباس وما يشبههما من مطالب الحياة .
وقيل : المراد برحلة الشتاء والصيف : رحلة الناس إليهم فى الشتاء والصيف للحج والعمرة ، فقد كان الناس يأتون إلى مكة فى الشتاء والصيف لهذه الأغراض ، فيجد أهل مكة من وراء ذلك الخير والنفع ، كما قال - تعالى - : { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ }
وقوله : { إيلافِهِمْ } مخفوضة على الإبدال ، كأنه قال : لإيلاف قريش لإيلافهم ، رحلة الشتاء والصيف . وأما الرحلة فنُصبت بقوله : { إيلافِهِمْ } ، ووقوعه عليها .
وقوله : { رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } يقول : رحلة قريش الرحلتين ، إحداهما إلى الشام في الصيف ، والأخرى إلى اليمن في الشتاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { رِحْلَةَ الشّتاءِ والصّيْفِ } قال : كانت لهم رحلتان : الصيف إلى الشام ، والشتاء إلى اليمن في التجارة ، إذا كان الشتاء امتنع الشأم منهم لمكان البرد ، وكانت رحلتهم في الشتاء إلى اليمن .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان { رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } قال : كانوا تُجّارا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الكلبيّ { رِحْلَةَ الشّتاء وَالصّيْفِ } قال : كانت لهم رحلتان : رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، قال : حدثنا خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس { إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } قال : كانوا يَشْتُون بمكة ، ويَصِيفون بالطائف .
وقوله : { إيلافهم } عطف بيان من « إيلاف قريش » وهو من أسلوب الإجمال ، فالتفصيل للعناية بالخبر ليتمكن في ذهن السامع ومنه قوله تعالى : { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات } [ غافر : 36 ] حكاية لكلام فرعون ، وقول امرىء القيس :
ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَة
والرحلة بكسر الراء : اسم للارتحال ، وهو المسير من مكان إلى آخر بعيد ، ولذلك سمي البعير الذي يسافَر عليه راحلة .
وإضافة رحلة إلى الشتاء من إضافة الفعل إلى زمانه الذي يقع فيه فقد يكون الفعل مستغرقاً لزمانه مثل قَولك : سَهَر الليل ، وقد يكون وقتاً لابتدائه مثل صلاة الظهر ، وظاهر الإِضافة أن رحلة الشتاء والصيف معروفة معهودة ، وهما رحلتان . فعطف { والصيف } على تقدير مضاف ، أي ورحلة الصيف ، لظهور أنه لا تكون رحلة واحدة تبتدأ في زمانين فتعين أنهما رحلتان في زمنين .
وجوز الزمخشري أن يَكون لفظ { رحلة } المفرد مضافاً إلى شيئين لظهور المراد وأمن اللبس . وقال أبو حيان : هذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة .
و{ الشتاء } : اسم لفصل من السنة الشمسية المقسمة إلى أربعة فصول . وفصل الشتاء تسعة وثمانون يوماً وبضع دقائق مبدؤها حلول الشمس في برج الجَدْي ، ونهايتها خروج الشمس من بُرج الحوت ، وبروجه ثلاثة : الجَدْي ، والدَّلْوُ ، والحوت . وفصل الشتاء مُدة البرد .
و{ الصيف } : اسم لفصل من السنة الشمسية ، وهو زمن الحرّ ومدته ثلاثة وتسعون ويوماً وبضع ساعات ، مبدؤها حلول الشمس في برج السَرَطان ونهايته خروج الشمس من برج السُّنْبُلَة ، وبروجه ثلاثة : السرطان ، والأسد ، والسنبلة .
قال ابن العربي : قال مالك : الشتاء نصف السنة والصيف نصفها ولم أزل أرى ربيعة ابن أبي عبد الرحمان ومن معه لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا ( يعني طلوع الثريا عند الفجر وذلك أول فصل الصيف ) وهو اليوم التاسع عشر من ( بشنس ) وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس اه . وشهر بشنس هو التاسع من أشهر السنة القبطية المجزأة إلى اثني عشر شهراً .
وشهر بشنس يبتدىء في اليوم السادس والعشرين من شهر نيسان ( أبريل ) وهو ثلاثون يوماً ينتهي يوم 25 من شهر ( أيار مايه ) .
وطلوع الثريا عند الفجر وهو يوم تسعة عشر من شهر بشنس من أشهر القبط . قال أيمة اللغة : فالصيف عند العامة نصف السنة وهو ستة أشهر والشتاء نصف السنة وهو ستة أشهر .
والسنة بالتحقيق أربعة فصول : الصيف : ثلاثة أشهر ، وهو الذي يسميه أهل العراق وخراسان الربيع ، ويليه القَيْظ ثلاثة أشهر ، وهو شدة الحر ، ويليه الخريف ثلاثة أشهر ، ويليه الشتاء ثلاثة أشهر . وهذه الآية صالحة للاصطلاحين . واصطلاح علماء الميقات تقسيم السنة إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء ، ومبدأ السنة الربيع هو دخول الشمس في بُرج الحَمَل ، وهاتان الرحلتان هما رحلتا تجارة ومِيرة كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين من السنة إحداهما في الشتاء إلى بلاد الحبشة ثم اليمن يبلغون بها بلاد حمير ، والأخرى في الصيف إلى الشام يبلغون بها مدينة بُصرى من بلاد الشام .
وكان الذي سنّ لهم هاتين الرحلتين هاشم بن عبد مناف ، وسبب ذلك أنهم كانوا تعتريهم خصاصة فإذا لم يجد أهل بيت طعاماً لقوتهم حمل ربُّ البيت عياله إلى موضع معروف فضرب عليهم خباء وبقوا فيه حتى يموتوا جوعاً ويسمى ذلك الاعتفار ( بالعين المهملة وبالراء وقيل بالدال عوض الراء وبفاء ) فحدث أن أهل بيت من بني مخزوم أصابتهم فاقة شديدة فهموا بالاعتفار فبلغ خبرهم هاشماً لأن أحد أبنائهم كان تِرباً لأسد بن هاشم ، فقام هاشم خطيباً في قريش وقال : إنكم أحدثتم حدثاً تقِلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعزّ العرب وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تُبّع ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم ، ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم ، وفيه يقول مطرود الخزاعي :
يا أيها الرجُلُ المحوِّل رَحْله *** هلا نزلتَ بآل عبد مناف
الآخذون العُهد من آفاقهــا *** والراحلون لرِحلة الإِيلاف
والخالطون غنِيّهم بفقيرهـم *** حتى يصير فقيرهم كالكافي
ولم تزل الرحلتان من إيلاف قريش حتى جاء الإِسلام وهم على ذلك .
والمعروف المشهور أن الذي سنّ الإِيلاف هو هاشم ، وهو المروي عن ابن عباس ، وذكر ابن العربي عن الهروي : أن أصحاب الإِيلاف هاشم ، وإخوته الثلاثة الآخرون عبدُ شمس ، والمطلب ، ونوفل ، وأن كان واحد منهم أخذ حبلاً ، أي عهداً من أحد الملوك الذين يمرون في تجارتهم على بلادهم وهم مَلِك الشام ، وملك الحَبشة ، وملك اليمن ، ومَلِك فارس ، فأخذ هاشم هذا من ملك الشام وهو ملك الروم ، وأخذ عبد شمس من نجاشي الحبشة وأخذ المطلب من ملك اليمن وأخذ نوفل من كسرى ملك فارس ، فكانوا يجعلون جُعلاً لرؤساء القبائل وسادات العشائر يسمى الإيلاف أيضاً يعطونهم شيئاً من الربح ويحملون إليهم متاعاً ويسوقون إليهم إبلاً مع إبلهم ليكفوهم مؤونة الأسفار وهم يكفون قريش دفع الأعداء فاجتمع لهم بذلك أمن الطريق كله إلى اليمن وإلى الشام وكانوا يسمَّوْن المُجِيرين .
وقد توهم النقاش من هذا أن لكل واحد من هؤلاء الأربعة رحلة فزعم أن الرِحَل كانت أربعاً ، قال ابن عطية : وهذا قول مردود ، وصدق ابن عطية ، فإن كون أصحاب العهد الذي كان به الإِيلاف أربعة لا يقتضي أن تكون الرحلات أربعاً ، فإن ذلك لم يقله أحد ، ولعل هؤلاء الأخوة كانوا يتداولون السفر مع الرحلات على التناوب لأنهم المعروفون عند القبائل التي تمر عليهم العِير ، أو لأنهم توارثوا ذلك بعد موت هاشم فكانت تضاف العِير إلى أحدهم كما أضافوا العير التي تَعرّض المسلمون لها يوم بدر عيرَ أبي سفيان إذ هو يومئذ سيد أهل الوادي بمكة .
ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وأن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها .
وعند القبائل التي تحرِّم الأشهر الحُرم والقبائلِ التي لا تحرّمها مثل طيء وقضاعة وخثعم ، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها ، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم ، وأصحاب التجارات يحمِّلونهم سلعهم ، وصارت مكة وسطاً تُجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد ، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بوادٍ غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بُرّ وشعير وذُرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية ، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية ، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم ، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت } .
فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإِيلاف مع أن لله عليهم نعماً كثيرة لأن هذا الإِيلاف كان سبباً جامعاً لأهم النعم التي بها قوام بقائهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } يقول : رحلة قريش الرحلتين ، إحداهما إلى الشام في الصيف ، والأخرى إلى اليمن في الشتاء . ...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة : إحداهما في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام . وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ، وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء ، كانوا يقولون : قريش سكان حرم الله وولاة بيته ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ...
واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا ، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضا لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله : { وقطعناهم في الأرض أمما } واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى ، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة ، ومنه قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إيلافهم } أي إيلافنا إياهم { رحلة الشتاء } التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن ؛ لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب { والصيف } التي يرحلونها إلى الشام في زمنه ؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله ، والناس يتخطفون من حولهم ، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً ، فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم ، فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وأن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها . وعند القبائل التي تحرِّم الأشهر الحُرم والقبائلِ التي لا تحرّمها مثل طيء وقضاعة وخثعم ، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها ، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم ، وأصحاب التجارات يحمِّلونهم سلعهم ، وصارت مكة وسطاً تُجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد ، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بوادٍ غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بُرّ وشعير وذُرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية ، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية ، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم ، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت } . فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإِيلاف مع أن لله عليهم نعماً كثيرة لأن هذا الإِيلاف كان سبباً جامعاً لأهم النعم التي بها قوام بقائهم .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مكّة تقع في واد غير ذي زرع ، والرعي فيها قليل ، لذلك كانت عائدات أهل مكّة غالباً من قوافل التجارة ، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل ، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف . والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ ، ومكّة والمدينة حلقتا اتصال بينهما . هذه هي رحلة الشتاء . . . ورحلة الصيف . والمقصود ب «إيلافهم » في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدّسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من أمن ، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام ، فيسكنون فيها ويهجرون مكّة . وقد يكون المقصود إيجاد الألفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين ؛ لأنّ النّاس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ، ويعيرونها أهمية خاصّة بعد قصّة اندحار جيش أبرهة . قريش لم تكن طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام ، لكن اللّه لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدّسة . ...